التقينا دون لقاء... الفنّانة هبة زقّوت

لوحة الفنّانة الشهيدة هبة زقّوت

 

هبة زقّوت فنّانة تشكيليّة من غزّة، ابنة 39 حياةً، درست في «كلّيّة الفنون الجميلة» في «جامعة الأقصى» في غزّة، وشاركت في معارض محلّيّة ودوليّة. حلمت بأن تصل لوحاتها إلى الأراضي المحتلّة عام 1948، وأن تُعْرَض في صالة عرض، وبحثت عن طريق لذلك. ابنة غزّة لم تقدر على أن تدخل حيفا ويافا وعكّا، لكنّها حَلُمَتْ بأن تصل لوحاتها إليها.

 

في التاسع والعشرين من أيلول (سبتمبر) 2023، كتبت لي هبة على الماسينجر:

صباح الخير عزيزتي،

كيفك؟ شو أخبارك؟

أنا هبة زقّوت، فنّانة تشكيليّة فلسطينيّة من غزّة، حابّة أعمل معرض بالداخل، أحصل على فرصة لعرض أعمالي، هل ممكن تساعديني بهيك معرض؟

أنا ما بعرف صالات عرض وهيك أشياء.

 

وأرفقت مع رسالتها فيديو تعريفيًّا تتحدّث فيه عن نفسها؛ عن أعمالها، وعن حلمها الفنّيّ الإنسانيّ.

أخبرتها أنّي أعرفها وأتابع أعمالها، دردشنا قليلًا، أعطيتها بعض الاقتراحات. في نهاية المحادثة بعثت لي شكرًا مرفقًا بوردة وعلم فلسطين.

 

 

في العاشر من تشرين الأوّل (أكتوبر) 2023، كتبت هبة على صفحتها الفيسبوكيّة:

"اللهمّ! نستودعك قلوبًا مفجوعة بالفراق، اللهمّ! اجبر كسر قلوبنا، واجعلنا لقضائك وقدرك صابرين، يا ربّ! كن معنا، وقوّنا، وزدنا صبرًا، وآجرنا على صبرنا، اللهمّ! اربط على قلوبنا؛ فإنّها لا تقوى، ولا تستند، إلّا بك".

 

في الثالث عشر من أكتوبر/ تشرين الأوّل، كتبت أختها الفنّانة ميساء غازي على صفحتها:

"أختي، حبيبة قلبي وروحي، الّتي استشهدت مع أبنائها اليوم من العدوان على غزّة، دعواتكم لها بالرحمة والمغفرة؛ الفنّانة التشكيليّة".

 

***

 

لا أعرف ما أكتب وما أقول. ما زلت أعيش صدمة الخبر. لم ألتقِ بهبة وجهًا لوجه... التقت لوحاتنا ربّما في أحد المعارض في «المعمل»، أو «باب الدير»، أو «يبوس»، في القدس أو بيت لحم، لا أذكر. لكنّنا لم نلتقِ، تحدّثنا ولم نلتقِ. فرّقنا الاستعمار، منعت الحواجز تواصلنا الإنسانيّ، وأتاحت المعارض لقاء بدون لقاء، وأتاحت شبكات التواصل الاجتماعيّ وصل ما انقطع.

كانت صدمة لي قراءة الخبر، وقراءة ما كتبت على صفحتها... شعرت هبة بموتها القريب في كلّ لحظة، كيف لا وآلاف من أطنان القنابل والصواريخ تزنّ فوق رأسها، تمزّق الهواء والهدوء، تمزّق كلّ شيء وتحوّله إلى أشلاء متناثرة، لوطن يريدونه مفتّتًا؟ لاحظت في الأيّام الأخيرة تزايد عدد المعارف الّذين يكتبون شهاداتهم على مواقع التواصل الاجتماعيّ؛ خوفًا مِنْ أن يباغتهم القصف كما فعل مع هبة، ويكونوا غير جاهزين. لكنّ هبة كانت جاهزة حتّى لهذه اللحظة القاتلة، لم تُتَحْ لهم أن يقتلوها غير جاهزة.

 

لوحة الفنّانة الشهيدة هبة زقّوت

 

شعرتُ بالخنقة، تجمّدتُ، ماذا أكتب؟ وكيف أكتب؟ هل أكتب عن طفلها الّذي لا أعرفه ولم ألتقِه؟ الّذي ارتقى في حضن أمّه؟ حتّى هذا الحضن، ملجأ الطفولة، لم يكن آمنًا لطفل تقصف الصواريخ بيته. لا أعرف سنّه واسمه، تساءلت: أَقُتِل وهو في حضنها أم في طريقه إليها صارخًا: أمّي، أمّي؟ أم كان نائمًا؟ تمنّيتُ لو كان نائمًا ولم يشعر بكلّ هذا القبح يباغته.

لم يكن لدينا مجال لحديث آخر إضافيّ، هبة وأنا. الحرب كانت أسرع من ذلك.

لم يتوقّع أيٌّ منّا الحرب، ولم ينتظرها. جاءتْ مفاجِئَة كالطوفان، جرفتْ معها كلّ شيء؛ أجساد الأطفال وأحلامهم، جرفتْ بيوتهم، دمّرتْها وحوّلتْهم إلى أشلاء. أخذتِ الحرب هبة وطفلها وستّمئة طفلٍ آخرَ لن يكبروا، ولن يلعبوا بالحارات، ولن يذهبوا إلى المدرسة بعد اليوم. حتّى أصدقاؤهم الّذين بَقَوْا أحياءً لن يذهبوا إلى المدرسة حيث لا مدرسة. قُصِفَتِ المدرسة والعمارة والحارة، وتحوّلتْ إلى كومة رماد، تذكّر بصور الدمار الّذي أحدثتْه هيروشيما.

مئات الأطفال لن يكبروا بعد اليوم... وبينهم طفل هبة. تخيّلتُ طفلها يجلس قربها أو في حضنها، حين ترسم يلعب معها بالألوان، ويخربش حلمه ومشاعره على الورق كأيّ طفلٍ بريءٍ يمسك ألوانًا. هل كانت هبة تحلم بأن يصير ابنها فنّانًا كما هي، وأن يزورا معًا القدس وحيفا ويافا.

رسمت هبة القدس وغزّة كثيرًا في لوحاتها... رسمت الحزن والفرح، رسمت الحواجز والجدران الّتي تمنع وصولها إلى عاصمتها... رسمت القصف الّذي يطال غزّة في غير لوحة... لوحاتها مليئة بالألوان، وبرموز فلسطينيّة؛ بالصبّار، والزيتون، والورود، ورموز دينيّة. يتكرّر لديها رسم «المسجد الأقصى» والمآذن والكنائس.

 

لوحة الفنّانة الشهيد هبة زقّوت

 

رسمت هبة الحلم، ورسمت حمامات تطير، لربّما تمنّت أن توصلها إلى حلمها الّذي لم تتمكّن من تحقيقه في حياتها؛ حياة قصفتها الغارات، أوقفتها، وقضت على الحلم.

المرأة، بزيّها ولباسها الفلسطينيّ التقليديّ، حاضرة بقوّة في لوحات هبة، كانت هي بنفسها حاضرة في لوحاتها، صارت هي اللوحة.

أرادت هبة أن تعرض في القدس وفي أراضي 48... أرادت أن تصل لوحاتها حيث لا تقدر هي على أن تصل، أرادت التواصل والحلم بأنّها تدخل الوطن المقطّع أجزاءً.

لن ترسم هبة بعد اليوم، لن يلعب طفلها بالألوان... لكنّ لوحاتها باقية شاهدة على المجزرة وقتل الحلم... شاهدة على نكبة شعبنا الفلسطينيّ.

هبة، الفنّانة التشكيليّة المبدعة، صرتِ أنت اللوحة؛ لوحة الوجع اللانهائيّ... وداعًا، لروحك أنت وطفلك السلام.

 


 

جنان عبده

 

 

محامية وفنّانة تشكيليّة، من سكّان حيفا. ساهمت في تأسيس عدد من الأطر الأهليّة، ولها إسهامات بحثيّة. صدر لها كتاب «الجمعيّات النسائيّة والنسويّة الفلسطينيّة في مناطق 48» عن «مدى الكرمل». تنشط وتكتب عن قضايا الأسرى والمرأة.