على حبال الغسيل: عزّ الزّعنون يجوب بصوره قطاع غزّة

جانب من معرض "الفنّ ليس تجارة" | عدسة ضياء المصري

 

أسعد الصفطاوي

'الفنّ ليس تجارة'، عنوان معرض متنقّل أطلقه المصوّر الغزّيّ عزّ الزعنون (24 عامًا) على مجموعة منتقاة من صوره، تلك التي التقطها طوال سنوات عمله صحافيًّا ومصوّرًا، والتي تمتدّ لأكثر من عشر سنوات، الفترة التي تغيّر خلالها كلّ شيء في غزّة على حدّ قول عزّ، إذ بدأ عمله ورحلة احترافه في مجال التصوير مبكرًا، وذلك إثر مشاهدته لأخيه المصوّر وهو مصاب وملقًى على الأرض أثناء تغطيته لاجتياح جيش الاحتلال لحيّ الزيتون عام 2005. ومنذ تلك اللحظة، أمسك عزّ الكاميرا وباشر بالتصوير.

تجوب العالم

توصّل عزّ إلى قدرة الصورة على إحداث الفارق وتغيير مجريات الأمور، فتغيّرت حياته وأخذت منحًى آخر. وصلت صور عزّ الشابّ إلى مختلف وكالات الأنباء العربيّة والعالميّة، ونُشرت له صور في صحف مهمّة وعلى مواقع إلكترونيّة تحظى بمتابعة الملايين، كما شاركت صوره في العديد من المعارض العالميّة، والتي لم يستطع حضور أيٍّ منها بسبب الحصار وإغلاق المعابر الحدوديّة.

نالت  صور عزّ خلال الأعوام الأخيرة مكانها في وعي الفلسطينيّين وذاكرتهم، في غزّة وخارجها، منها ما حاز على جوائز عالميّة ومنها ما وثّق لحظات دقيقة من مراحل الحرب على غزّة. أغلب تلك الصور تحمل في طيّاتها معاناة وجرحًا بالغًا خلّفته الاعتداءات المستمرّة على القطاع، إذ يُعرف عن عزّ أنّه من المصوّرين الشجعان الذين تجدهم في كلّ أماكن الأحداث؛ يتقدّم حين يتراجع الآخرون، سريع الحركة، لا تجده في مكان ثابت، لا يضيّع فرصة التقاط صورة قد يكون من شأنها أن توثّق حدثًا أو تنقل فكرة أو تعزّز أخرى. في أرشيفه تجد صورًا من كلّ حدب وصوب، لمعظم الأحداث التي مرّت بها غزّة.

لكلّ الناس

يقول عزّ عن اسم المعرض 'الفنّ ليس تجارة':  'لا أريد أن تكون صوري في أماكن معيّنة وموجّهة لأناس دون الآخرين. يحاول معرضي الفنّيّ الوصول للناس في مناطقهم، تلك التي التقطت صوري فيها، لأشارك الناس العاديّين أشياء يرونها ولا يرونها، محاولًا اجتثاث جملة من المشاعر الغائبة، أو تلك التي جعلتنا ننسى مفهوم البحث عن الجمال وإمكانيّة خلقه وتجسيده، إذ أرفض أن يكون الجمال حكرًا على فئة معيّنة من الناس. الجمال بالنسبة لي قرين الفنّ، والناس جزء من هذا الفنّ، أدعوهم من خلال المعرض إلى  تذوّق الطعم الحقيقيّ للصورة، وبطريقتهم الخاصّة في المخيّم، أعلّق اللوحات على حبال غسيل كما يعلّقون ملابسهم المبلّلة.'

يتابع القول: ' حين أفعل ذلك معهم، حين أنزل للشوارع والحواري وأعرض اللوحات بتواضع، ويساعدني أهل المنطقة والأطفال في تعليقها، أشعر بذاتي وبقربي من الناس وقربهم منّي، وهم بدورهم يشعرون بسعادة، تحديدًا الأطفال، إذ من ضمن المبادرة أيضًا منح كاميرا صغيرة لكلّ طفل، عبارة عن لعبة تعرض مجموعة من الصور بمجرّد وضع عينك على منطقة الرؤية وضغط على زرّ يبدّل الصور، وهي لعبة عالقة في ذهني مذ كنت طفلًا، كما يحصل الطفل على نسخة عن الصورة التي أعجبته.'

يقول خالد جاد الله، أحد أعضاء فريق المعرض: 'يشعر الطفل الذي يقف ويتأمّل الصورة ثمّ نعطيه عنها نسخة صغيرة، بسعادة بالغة، يشعر أنّه حصل على هديّة كبيرة، وحين نتحدّث إليه عن الصورة وعمّا أعجبه فيها، يشرح لنا بإسهاب ويشير بإصبعه الصغير إلى ما أعجبه. هذا بالفعل معرض مختلف، استطاع عزّ أن يكسر النمطيّة فيه ويتجاوز الطرق المعهودة، وأن يشارك الناس فيه، وهو ما جعلنا ننضمّ إليه ونساعده، ودعوة الناس في كلّ منطقة نعرض فيها للقدوم والمشاركة معنا.'

في حافلة

احتضنت مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ المعرض ضمن مشروع 'بناء الأمل لدعم الإبداعات الشابّة'، وبتمويل من kinder USA K، فساعدت عزّ في  طباعة لوحات المعرض وتوفير المستلزمات الأخرى، مع توفير حافلة لتسهيل تنقّله رفقة معرضه وفريق العمل.

تقول منسّقة مشروع 'بناء الأمل' في مؤسّسة تامر، داليا عبد الرحمن: 'إنّها المرّة الأولى التي يعرض فنّان لوحاته في الشارع، وفي المناطق المهمّشة، وبهذه البساطة. لم نتوقّع حجم الإقبال الكبير على المعرض، ومثل هذه الأفكار ندعمها بقوّة كي تنال مكانتها في المجتمع وبين الناس.'

من مخيّم الشاطئ إلى رفح

يقول عزّ: 'منذ مدّة طويلة وأنا أفكّر بإقامة معرض شخصيّ يحتوي كلّ تلك الصور التي التقطتها خلال مسيرتي المهنيّة في غزّة منذ عام 2007، وكانت أحلامي حول المعرض تتخطّى الحدود والأنساق المعتادة، وتقدّم صورة عن غزّة لم يعتد الناس رؤيتها. اتّخذت قراري أخيرًا بأن أقيم معرضي الخاصّ الأوّل في غزّة ولأهلها. فكّرت في كيفيّة الوصول لأكبر شريحة ممكنة. هذا كان السؤال.'

يكمل عزّ: 'باشرت ببناء الفكرة؛ معرض متنقّل في حافلة يجوب محافظات قطاع غزّة ومخيّمات اللجوء. تشجّعت أكثر بعدما لقيت دعمًا من مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ ومن بعض الأصدقاء والزملاء، وبالفعل، باشرنا بالتحضيرات. في بداية الأمر، كان يبدو مستحيلًا أن ننفّذ المعرض وواجهنا بعض الصعوبات، إلّا أنّنا استطعنا تجاوزها. توجّهنا إلى مخيّم الشاطئ في اليوم الأوّل وحقّقنا نجاحًا وراقبنا تجاوب الناس مع الفكرة، ثمّ انتقلنا اليوم الثاني إلى غزّة القديمة، ثمّ الشجاعيّة وبيت حانون وجباليا، ثمّ إلى جنوب غزّة في الأيّام الأخيرة؛ إلى منطقة خزاعة ثمّ إلى حيّ الجنينة في رفح. هكذا استطاع المعرض أن يغطّي كامل المناطق في غزّة.'

عروس في الزقاق

في المعرض خمس وأربعون صورة، تنوّعت بين صور للبحر والصيّادين والأطفال والأحياء، مع بعض التركيبات المرافقة التي تدلّ على احترافيّة المصوّر، وقدرة كاميرته على التقاط اللحظة المناسبة لتوثيقها.

في كلّ صورة تنظر إليها تشعر بالمدى، والحرّية، والانطلاق، حتّى في تلك الصور التي يقول عنها عزّ إنّها التُقطت في الحرب على غزّة، مثل صورة سيّارة حمراء فيها عائلة كاملة، وتبدو عليهم العجلة، وكأنّهم في رحلة أو ما شابه، لكنّهم في حقيقة الأمر هاربون من القصف الكثيف على حيّ الشجاعيّة!

الصورة الأكثر لفتًا للانتباه، صورة عروس ترتدي فستانها الأبيض في زقاق بيتها في المخيّم، وعلى وجهها ضحكة تملأ الصورة، يقول عزّ: 'في المخيّم لا يسير العريس إلى جانب العروس كما هو متعارف، بل خلفها... لضيق شوارع المخيّم.'

ولو للحظة

لقيت المبادرة قبولًا واستحسانًا من الناس في كلّ منطقة عرض، وقد تفاجؤوا بالمعرض. تقول رهام (35 عامًا)، إحدى سكّان مخيّم الشاطئ: 'لقد مرّ علينا الكثير من الأنشطة والفعاليّات التي يهدف أصحابها إلى تقديمها للناس، لكن لم يحدث من قبل أن أتى أحدهم وعلّق لوحاته على حبال غسيلنا، وحين جلت على صور المعرض، صُدمت من جمالها، ومن أنّها التُقِطَت في غزّة! مجرّد التفكير في إشراك الناس في الشارع بمثل هذا المعرض، فهذا يُحسب للفنّان، ويقرّب الناس من بعضها البعض، وينسيها ولو للحظة هموم الحياة ومصاعبها.'

يستعدّ عزّ الزعنون والفريق المرافق له على فيلم وثائقيّ يتحدّث عن المعرض وعن ردود فعل الناس. عمل عليه بصحبة مصوّرين أثناء تنقّل المعرض، ويتوقّع بأن يكون مفاجئًا للناس والفنّانين، وأن يغدو مادّة يرجع إليها الفنّان حين يفكّر بإشراك الناس في أعماله.