أسفار الأرشيف الفلسطينيّ: رحلة بحثٍ عن الوطن والذاكرة

منصّة التحكّم ضمن "بحر من حكايات"، في دار النمر

أمل كعوش

في ركن خفيض الإنارة في بيروت، يجثم بصمت مجسّم منصّة تحكّم فنّيّة تحمل شاشات ثلاث وأزرارًا ومقابس عدّة، استخدامها غير محدّد الوجهة. على الجدار خلف المنصّة يعرض محتوى الشاشة الوسطى أمواجًا بحريّة مزبدة تتقطّع إلى مربّعات صغيرة، ثمّ تعود وتتجمّع في موجة واحدة ضخمة، لا تلبث أن تعاود التشظّي.

شتات الأرشيف

بهذه الصورة أراد الباحثان؛ هَنا سليمان وأحمد باركلي، أن يعبّرا عن شتات الأرشيف الفلسطينيّ في أسفاره، الذي تناثرت أجزاؤه وتناقلت مع تنقّل وترحال القيادة والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة، وذلك من خلال عمل حمل عنوان 'بحر من حكايات؛ أسفار الأرشيف الفلسطينيّ'، كجزء من الفعاليّة المقامة في دار النمر للفنّ والثقافة في بيروت، حيث تستضيف معرض 'بحرٌ من حكايات'، وهو النسخة البيروتيّة من محفل 'قلنديا الدوليّ' 2016، بإشراف رشا صلاح، مديرة دار النمر وقيّمة المعرض.

بدأ المشروع فعليًّا 'كمحاولة لكتابة جزء من تاريخ الوجود الفلسطينيّ في لبنان خلال سبعينات القرن الماضي'، إلّا أنّ حقيقة غير متوقّعة قابلت سليمان وباركلي، وهي أنّه يكن هناك وجود لأرشيف فعليّ يوثّق تلك المرحلة الزمنيّة.

أمام هذه الحقيقة، وإثر محاولات الباحثين الشابين العثور على الأرشيف الضائع ولملمته، برزت أسئلة أكثر شموليّة تتناول ماهيّة الأرشيف الفلسطينيّ ومصير أجزائه المفقودة، لتتوسّع عندها آفاق البحث لما هو أشمل من مجرّد تتبّع التاريخ الفلسطينيّ في مرحلة زمنيّة محدّدة.

ثلاث مؤسّسات

هُنا بدأت مهمّة التنقيب عن آثار الأرشيف وقطعه المنتشرة في أرجاء حوض البحر المتوسّط، ما بين فلسطين ولبنان وغيرها، ليتّضح أنّ أكثر الأجزاء الموثّقة اكتمالًا من التاريخ الفلسطينيّ محفوظة لدى مؤسّسات ثلاث؛ مركز الأبحاث التابع لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، والذي كان محور أطروحة بحثيّة لسليمان، بالإضافة لمؤسّسة السينما الفلسطينيّة، ووفا – وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينيّة. في نهاية المطاف، وُجِدَتْ كمّيّة هائلة من الوثائق البصريّة والسمعيّة - البصريّة المهمّة، والتي لم يكن عرضها عمليّة سهلة، لذا استعان الباحثان بكلّ من نديم الشرتوني، وعلي قيس، ونائلة مبسوط من مجلس شؤون الصورة ((The Council for Visual Affairs، الذين ابتكروا طريقة عرض 'شظايا' الأرشيف الفلسطينيّ تلك من خلال مجسّم منصّة التحكّم، والتي تشكّل القسم الأوّل من 'بحر من حكايات؛ أسفار الأرشيف الفلسطينيّ.'

الباحثان هنا سليمان وأحمد باركلي

بذلك، تمكّن الباحثان سليمان وباركلي من تقديم مشروعهما الذي لا يهدف إلى جمع وعرض الأرشيف الفلسطينيّ، بل هو محاولة لمشاركة الجمهور مسألة صعوبة ' كتابة التاريخ وبناء سرديّة للسيرة الفلسطينيّة في ظلّ غياب المصادر الأوّليّة لها.'

من لاجئين مستضعفين إلى ثوّار

منصّة التحكّم تلك تسمح لزوّار المعرض بالاطّلاع على بعض من نتاج البحث، موزّعة بين أبعاد ثلاثة: الزمن، والمكان، والمحتوى. يشرح نديم الشرتوني من 'مجلس شؤون الصورة' كيفيّة توظيف المنصّة في خدمة فكرة المشروع، إذ يمكن للمستخدم أن يجول بين صور فوتوغرافيّة، خرائط، وثائق، مقتطفات فيديو صامتة، ما بين أرشيف المؤسّسات الثلاث المذكورة سابقًا، في ما يشبه رحلة تقفّي أثر للأرشيف في ترحاله عبر البحر وتنقّله عبر محطّات ما بين بيروت، حيفا، قبرص، الجزائر، روما. وكما تتقطّع وتتجمّع صورة الموجة البحريّة، كذلك تفعل جزيئات المادّة المعروضة من أرشيف المؤسّسات المذكورة، من خلال زرّ لكلّ منها، يسمح للمستخدم بالإبحار عبر الزمن، كما يسمح بإيقاف العرض ليتسنّى له التوقّف عند محطّات محدّدة في التاريخ الفلسطينيّ. فعلى سبيل المثال، الجزء الخاصّ المتعلّق بأرشيف مركز الأبحاث الفلسطينيّ الذي تأسّس في بيروت عام 1965، يعزّز حقيقة كونه 'المؤسّسة الرسميّة لإنتاج المعرفة ولحفظ سجلّات الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة كنظير فكريّ للكفاح المسلّح'، الأمر الذي جعله عُرْضَة لهجومات مسلّحة وتدمير أجزاء من أرشيفه أكثر من مرّة ما بين 1969-1974.

كذلك يعزّز المشروع أهمّيّة وكالة 'وفا'، التي شهد عام 1972 تأسيسها، لتكون 'وكالة الأنباء الرسميّة لمنظّمة التحرير الفلسطينيّة، ولتوفّر خدمات التقارير اليوميّة للوكالات الصحافيّة المحلّيّة والعالميّة'.

فيما يوضح الجزء الخاصّ بمؤسّسة السينما الفلسطينيّة أهمّيّة دورها في تحويل صورة الفلسطينيّين من لاجئين مستضعفين إلى ثوّار، وهي التي تأسّست 'كوحدة أفلام فلسطين في عمّان عام 1968، من مجموعة سينمائيّين شباب، وبمبادرة من مصطفى أبو علي، وهاني جوهريّة، وسلافة جاد الله'.

توقّف السرد التاريخيّ الثوريّ

إلّا أنّ السرد التاريخيّ الثوريّ ذلك يتوقّف بداية التسعينات، المحطّة التاريخيّة المفصليّة؛ ألا وهي لحظة توقيع اتّفاقيّة أوسلو. تشرح سليمان فتقول: 'كما كان توقيع اتّفاقيّة أوسلو نقطة تحوّل في مسار التاريخ الفلسطينيّ وتغيّر البرنامج الوطنيّ من ثورة لبناء دولة ومن الكفاح المسلّح إلى المفاوضات، ومن تحرير كامل التراب الوطنيّ الفلسطينيّ إلى الاكتفاء بالضفّة الغربيّة وغزّة، كذلك أردنا أن تكون نقطة تحوّل في مشروعنا'. فعند هذه النقطة ينتقل زوّار المعرض إلى القسم الثاني من 'أسفار التاريخ الفلسطينيّ'؛ وهو عرض فيديو بطيء وصامت يتوسّط الجدار الفاصل بين غرفتين.

في الفيديو تُعْرَضُ لحظة توقيع اتّفاقيّة أوسلو والمصافحة التاريخيّة بين ياسر عرفات وإسحق رابين. يصفّق بيل كلينتون، الرئيس الأمريكيّ، يقف الجمهور مصفّقًا، فيما يتعثّر الزمن عند كفّ عرفات اليمنى المعلّقة في الهواء للحظات قبل المصافحة. كلّ ذلك يُعرض بتكرار، ويرافقه نصّ؛ مرّة بالعربيّة ومرّة بالإنكليزيّة، يقول: 'في عام 1993 وقّعت منظّمة التحرير الفلسطينيّة اتّفاقيّة أوسلو/ تحوّل البرنامج الوطنيّ الفلسطينيّ من التحرير إلى بناء دولة/ أجزاؤها متناثرة في أنحاء البحر المتوسّط وما ورائه/ هذه قصّة ذات نهايتين محتملتين على الأقلّ/ الأولى هي عمليّة نسيان جمعيّ/ والثانية هي جهد جمعيّ للتذكّر'.

تذكّر ونسيان

يستمرّ عرض الفيديو ليقف الزوّار أمام الاحتمالين الموجودين في الغرفتين التي تحمل إحداهما عنوان 'التذكّر' والأخرى تحمل عنوان 'النسيان'.

في غرفة 'التذكّر' عرض لموادّ كاملة كما لمقتطفات من أرشيف المؤسّسات المذكورة في منصّة التحكّم، تشهد على محطّات من الثورة الفلسطينيّة وأحداث أخرى، كجريمة مخيّم تلّ الزعتر في لبنان وغيرها. أمّا في غرفة 'النسيان'، فتستقبل الداخلين بشعار السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة على الجدار، مع عنوان 'الأرشيف الوطنيّ الفلسطينيّ؛ ذاكرة الأمّة وذاكرة الدولة'، مطلًّا على طاولة اجتماعات رسميّة ضخمة يتوسّطها علم الدولة الفلسطينيّة.

لا أرشيف فعليّ في تلك الغرفة باستثناء برنامج متخيّل عن عمليّة ايجاد الأرشيف الفلسطينيّ الضائع، موزّع في ملفّات ورقيّة أمام مقاعد الطاولة الوثيرة. وهنا يطرح السؤال الكبير، بم تُلَخَّصُ ذاكرة الأمّة وذاكرة الدولة لدى السلطة الفلسطينيّة؟

تشرح سليمان: 'الأرشيف الوطنيّ الفلسطينيّ لدى السلطة الفلسطينيّة يختزن الكثير من المعلومات حول فلسطين التاريخيّة أثناء فترة الحكم العثمانيّ وصولًا لما قبل عام 1948. لكن من المستغرب أنّه لا يضمّ أيّ موادّ توثيقيّة للفترة ما بين عامي 1964 و1994.'

الأمر الآخر يتمثّل في شحّ الموادّ التوثيقيّة في أرشيف السلطة الفلسطينيّة، إذ وبحسب سليمان، فإنّ عدد الموادّ في الأرشيف الوطنيّ الفلسطينيّ محدود بمئات الآلاف من الوثائق، بينما يحوي الأرشيف الإسرائيليّ ملايين الوثائق.

أسئلة ضروريّة

مساء الثلاثاء، 11 تشرين الأوّل 2016، شارك سليمان وباركلي والشرتوني 'بحرًا من الحكايات' مع زوّار دار النمر للفنّ والثقافة، في لقاء ضمن 'سلسلة لقاءات قلنديا'، أطلق العنان لأسئلة مشروعة وضروريّة عن كيفيّة الحصول على أجزاء الأرشيف الوطنيّ بعيدة المنال، وعن مدى إمكانيّة تحقيق جهد جمعيّ فعليّ لجمعها ورقمنتها.

المؤكّد أنّ الجميع يتّفقون على أهمّيّة ذلك الجهد، فيما يبقى السؤال: هل ستبقى جهود حفظ الذاكرة والتاريخ الفلسطينيّين مسندة لمبادرات فردّية؟ هل سيبقى واقع الأرشيف الفلسطينيّ الوطنيّ على ارتباطه بواقع الفلسطينيّين المتفرّقين بين الوطن والشتات؟ وهل اكتمال الذاكرة الفلسطينيّة التاريخيّة الموثّقة مرهونة بعودة الفلسطينيّين إلى كامل التراب الوطنيّ الفلسطينيّ، أم أنّه الفعل الذي يسبق النتيجة؟