شعريّة السياسة: مقابلة مع هاني أبو أسعد

هاني أبو أسعد

المصدر: جدليّة.

ترجمة: فريق التحرير.

 

أُجريت هذه المقابلة مع المخرج هاني أبو أسعد، بعد إشهاره الشهر الماضي فيلمه الجديد "الجبل بيننا"، بطولة كيت وينسلت وإدريس ألبا.

إيزيس نصير: كيف بدأت مشوارك في صناعة الأفلام؟

هاني أبو أسعد: بعد تخرّجي من الثانويّة، غادرت الناصرة إلى هولندا لدراسة هندسة الطيران. عملت بعد ذلك مدّة سنتين مهندسًا، لكنّني لم أشعر بالرضا عن ذلك. عدت إلى الناصرة وعملت مع أبي بعض الوقت. في ذلك الحين، كان رشيد مشهراوي وبشير أبو ربيعة يعدّان أفلامًا وثائقيّة. قابلت رشيد المرّة الأولى عام 1990. بعد ذلك، عدت إلى هولندا لأطوّر معرفتي بالسينما، وعملت على أوّل أفلامي الروائيّة "الشقفة الرابعة عشرة" (1998)، ثمّ أعددت فيلمي الوثائقيّ "الناصرة 2000" (2000). عندما اندلعت الانتفاضة الفلسطينيّة الثانية، اشتغلت على فيلم "عرس رنا" (2002)، و"فورد ترانزيت" (2002)، و"الجنّة الآن" (2005). بعد ذلك بدأت أفلامي تحظى بدرجة أكبر من الاهتمام العالميّ، وعملت على فيلم "المبعوث" (2012) الذي لم يلق نجاحًا. بعد ذلك عملت على فيلم "عمر" (2013)، وانتظرت قليلًا قبل البدء بالعمل على فيلم " يا طير الطاير " (2015).

إيزيس نصير : إذا بدأت مشوارك بإعداد الأفلام الوثائقيّة؟

هاني أبو أسعد: في فيلم "الناصرة 2002"، أصبحت محطّة الوقود موقعًا مركزيًّا في الفيلم، حيث يتوقّف الناس ليرووا حكاياتهم ثمّ ينصرفون. في ذلك الوقت، بدأت أفهم العلاقة بين صناعة الفيلم الوثائقيّ والروائيّ.

من فيلم "الجبل بيننا" (2017)

إيزيس نصير: في فيلم "فورد ترانزيت" أيضًا، أصبحت سيّارة "الفان" منصّة مسرحيّة يأتي إليها الناس ليحكوا حكاياتهم.

هاني أبو أسعد: في الواقع، فإنّ "فورد ترانزيت" ليس فيلمًا وثائقيًّا تمامًا، وليس فيلمًا روائيًّا أيضًا. لقد كنت أستمتع باستكشاف إمكانات العلاقة بين هذين النوعين. في "فورد ترانزيت"، حوّلت سيّارة "الفان" إلى منصّة روائيّة مسرحيّة. كان معنا أشخاص يعرفون مسبقًا ما الذي يجب عليهم قوله، لكنّ الأداء كان يستمرّ من دون أن ينتبه أحد. وكان ثمّة أشخاص لم يُقل لهم على الإطلاق ماذا يقولون. كان معنا بعض الممثّلين المحترفين، وكان دورهم روائيًّا، لكنّ بقيّة الفيلم كان وثائقيًّا، ولم يكن المشاركون يعرفون أنّهم جزء من الأداء في الفيلم.

إيزيس نصير: في فيلم " الجنّة الآن"، انتقلت تمامًا إلى صناعة الأفلام الروائيّة.

هاني أبو أسعد: في فيلم "الجنّة الآن"، كانت لدينا واقعة الاستشهاديّين، وأردت أن أحوّل هذه الواقعة إلى دراما. كنت أفكّر، كيف سيظلّ الواقع "واقعًا" إذا حوّلناه إلى عمل دراميّ؟ وكيف يمكن تضخيم الأحداث لإضافة التأثير الميلودراميّ المطلوب؟ هكذا، كان للفيلم شعور واقعيّ جديد، إذ كنّا نصنع القصّة من الأحداث التي تدور في الشارع. كنّا نحمل الكاميرات على أكتافنا أثناء التصوير، واستعملت تأثيرات صوتيّة من الأستوديو للحركات الدراميّة الصامتة. صوّرنا الفيلم في نابلس، وقد ابتكر الفيلم لنفسه نوعًا خاصًّا من الواقعيّة. في "عمر"، مزجت مجموعة مختلفة من الأنواع والتصنيفات، فكان الفيلم مزيجًا من الأكشن، والكوميديا، والكوميديا التراجيديّة.

من فيلم "الجنّة الآن" (2005)

إيزيس نصير : في فيلم "الجنّة الآن" مشهد فريد للعشاء الأخير.

هاني أبو أسعد: لقد أعدت بناء أسطورة العشاء الأخير في ذلك المشهد؛ فالعشاء يُقام في مكان ما شمالي القدس. وهنا كانت فلسطين، بصفتها قصّة حقيقيّة، تشكّل الخلفيّة لمشهد الأسطورة. كان سعيد، في الفيلم، واعيًا بأنّه سيصبح جزءًا من تلك الأسطورة، إنّما بأبعاد جديدة. لقد أعدت بناء المشهد بطريقة مشابهة للوحة العشاء الأخير لليوناردو دافنشي، وكلّ ما تغيّر أنّني استبدلت الإضاءة بإضاءة النيون (وتعالت ضحكته). إنّني أصنع فيلمًا، لوحة سينمائيّة، من خلال إعادة بناء هذه اللوحة بكلّ العناصر والإشكالات المتضمّنة فيها.

إيزيس نصير: هل حافظت على هذا الأسلوب في "يا طير الطاير"؟

هاني أبو أسعد: لقد أتاح لي عملي أن أفهم كيف يمكن للسينما أن تعوّضنا عن الخيبة التي نعيشها بسبب عدم قدرتنا على التحكّم بمصير أرضنا وحياتنا. عندما فاز محمّد عسّاف في برنامج "أراب أيدول" عام 2013، كان ذلك بمثابة تعويض جزئيّ عن هذه الخسارة. في "مديح الظلّ العالي"، تحدّث محمود درويش عن هذه الخسارة أيضًا. وفي تلك القصيدة، كان يواسينا إذ يحوّل هذه القيم إلى شعريّة، ويحوّل المأساة إلى ملحمة تاريخيّة. أتذكّر درويش وهو يقرأ هذه القصيدة لتسعين دقيقة في افتتاح المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ في الجزائر عام 1983. افتتح نور الشريف، الممثّل المصريّ، ذلك اللقاء وقتها. أين يمكنك أن تجدي كلّ هذا العدد من الفنّانين المنخرطين في السياسة! كان أبو جهاد، وأبو إياد، وعرفات، وجورج حبش، جميعهم هناك. في تلك اللحظة، فهمت أنّ للفنّ دورًا رئيسيًّا ليؤدّيه في تطوّر الشعوب. مع كلّ هزيمة، تبرز لوحة تاريخيّة ومفصليّة جديدة.

إيزيس نصير: ما أهميّة فوز محمّد عساف في برنامج "أراب أيدول"؟

هاني أبو أسعد: من خلال فوزه بالبرنامج، أعاد لنا عسّاف شيئًا من الأمل بتوحيده للفلسطينيّين في غزّة، والضفّة الغربيّة، ومناطق الـ 48، وفي الشتات. كنت في الناصرة عندما أعلنت النتائج، اجتمعنا في ساحة عين العذراء. كان هناك أناس من كلّ المشارب، وبدا لي المشهد حدثًا رمزيًّا يمكن أن يجمع الناس ويوحّدهم. طلبت منّي MBC أن أعدّ فيلمًا عن حياة عسّاف. قرّرت أن أخرج فيلمًا روائيًّا مبنيًّا على حياته؛ شابّ تحوّل بين ليلة وضحاها من فقير إلى غنيّ. تبدو القصّة سحريّة، انتقال مفاجئ من القاع إلى القمّة. من النادر أن يحصل شيء كهذا، لقد أردت أن أخرج الفلسطينيّين إلى الضوء من خلال هذه القصّة السحريّة، لكنّني، في النهاية، كسرت سطوة السحريّة بمزجها بجرعة من الضحك والمأساويّة.

ملصق فيلم "يا طير الطاير" (The Idol)

إيزيس نصير: الفيلم مشابه لقصّة فيلم "المليونير المتشرّد" (Slumdog Millionaire).

هاني أبو أسعد: في الحقيقة، كان فيلم المليونير المتشرّد مصدر إلهام جزئيّ لي، وكذلك كان الفيلم الإيرانيّ Rumen. والقصّة، في الواقع، أكثر خياليّة، بحكم أنّها نادرًا ما تحدث، لكنّ الإطار الذي تدور أحداثها فيه واقعيّ. إنّها قصّة خياليّة على مسرح واقعيّ. استصدرنا إذنًا من السلطات الإسرائيليّة للتصوير في غزّة لثلاثة أيّام. أيًّا كان ما تفعله بصفتك صانع أفلام فلسطينيّ، فإنّك ستكون مضطّرًا لدخول معمعة السياسة. إنّنا نُقَدَّم غالبًا بصفتنا شعبَا غير مرئيّ، وحين نصبح مرئيّين، يكون ذلك بوصفنا إرهابيّين فقط. في اللحظة التي تقرّر فيها أن تقول إنّك فلسطينيّ، يكون عليك أن تواجه سياسة عالميّة، وليس المشروع الصهيونيّ فقط.

إيزيس نصير: ما الصلة التي تراها بين الشعريّة والسياسة؟

هاني أبو أسعد: نحن شعب له تاريخه الثقافيّ، وحين يتحدّى المرء تصنيف الفلسطينيّين في مناطق الـ 48 بأنّهم "عرب إسرائيل"، فإنّه يصبح سياسيًّا بالضرورة. يركّز فيلم "الجنّة الآن" على النقاش السياسيّ الدوليّ حول مزايا العمليّات الاستشهاديّة. في فيلم "عمر"، كان النقاش موجّهًا ضدّ الاحتلال الإسرائيليّ. ثمّة مقاومة فعليّة للاحتلال، لكنّها واقعة في متاهة. في الحقيقة، فإنّ فيلم "يا طير الطاير" نكتة كبيرة عن إسرائيل، فهو سياسيّ من ناحية أنّه يتحدّى فكرة أنّ الفلسطينيّين بلا جذور؛ فمحمّد عسّاف جزء لا يتجزّأ من حركة فنّيّة، لم يأت من فراغ أو من لا مكان، إنّنا جزء من حركة تاريخيّة وثقافيّة تتطوّر. لكن، يمكن لهذه القصّة أن تكون قصّة كونيّة لا علاقة لها بخصوصيّات هذا المكان المخصوص. لقد كان "يا طير الطاير" الفيلم العربيّ الأكثر توزيعًا في العالم، فقد عُرض في تركيا، وبولندا، وفي العديد من الأماكن الأخرى. لدى الفلسطينيّين قصّة مليئة بالموسيقى والفنّ ليرووها، إنّهم ليسوا مجرّد ضحايا يستحقّون الشفقة. إنّ علاقتي بالسياسة حاضرة في الفيلم، حتّى لو لم أتحدّث عنها بطريقة مباشرة.

من فيلم "عمر" (2013)

إيزيس نصير: فيلمك الأخير، "الجبل بيننا"، منفصل عن فلسطين، أليس كذلك؟

هاني أبو أسعد: فيلم "الجبل بيننا" فرصة للاقتراب من الصناعة السينمائيّة المسيطرة. يمكن للمرء أن يتعلّم الكثير من خلال ذلك؛ وفي نظري، فإنّ وضع اسم مخرج فلسطينيّ على فيلم هوليووديّ إنجاز بحدّ ذاته.

إيزيس نصير: فيلم "الجبل بيننا" يتناول مجموعة من الأسئلة حول القدرة على البقاء وتجاوز الحدود.

هاني أبو أسعد: يتناول "الجبل بيننا" ثيمتين أثيرتين لي شخصيًّا. الثيمة الأولى البقاء والنجاة، والثانية الحبّ. أليسا في جوهرهما أمرًا واحدًا؟ ألسنا نريد أن نحيا ونبقى لنكون مع من نحبّ؟ وأليس صحيحًا أنّنا نقع في الحبّ لنتمكّن من النجاة؟ إنّ النجاح في عمل فيلم للجمهور الواسع، يتناول النجاة والحبّ بلغة شعريّة وواقعيّة في آنٍ معًا، لهو تحدّ صعب، وأنا دائمًا ما أحبّ خوض التحدّيات. إذا تفحّصت جميع أفلامي بانتباه، فإنّها كلّها تدور حول شخصين طبيعيّين يجدان نفسيهما في ظرف استثنائيّ، وهذه الوضعيّة تتيح لنا استكشاف القيمة والرؤية، وتتيح للجمهور أن يتساءلوا حول ما يعرفونه بالفعل.



روزنة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من الإنجليزيّة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، بإشراف الشاعر والمترجم أسامة غاوجي.