«اصطياد أشباح»... السجن منفذ السجناء

من فيلم «اصطياد أشباح» (2017)

 

يجمع فيلم «اصطياد أشباح» (2017) للمخرج الفلسطينيّ رائد أنضوني، مجموعة من الأسرى المحرّرين ويضعهم أمام مشروع يُتيح لهم فرصة خلق تجربة الأسر من جديد؛ إذ يهيّيء لهم مساحة فيزيقيّة ونفسيّة تتّسع السجن الّذي كانوا داخله والسجن الّذي في داخلهم.

يبدأ الفيلم بتصوير التحضيرات لتنفيذ فكرة بناء السجن، وتجسيد صورته الشكليّة واستحضار الحالة الوجدانيّة والنفسيّة الّتي يستفزّها. ومن ثمّ يأخذ كلّ ممثّل مشارك دورًا من الأدوار الثلاثة وهي الأسير، المحقّق، والسجان. تظلّ هذه الأدوار ثابتة داخل المشروع، أمّا خارجه فيمكن لها أن تتغيّر وتتبدّل وتُمارِسَ انعكاساتها، أي أنّها في اللحظة الّتي يقول فيها المخرج: توقّف، فتتوقّف الكاميرا الّتي توثّق المشروع، تظلّ عين المُشاهد حاضرة تراقب تحوّلاتها. وبينما يتساءل الأسير المحرّر عن الحدود الفاصلة بينه وبين الزنزانة، يتساءل المشاهد عن الحُدود الفاصلة بينه وبين الفيلم، فلا يستطيع أن يقبض على اللحظة الّتي يبدأ فيها الفيلم بالنسبة إليه كمُشاهد، ليجد نفسه شريكًا في صياغة جدليّة الداخليّ والخارجيّ ومفارقة ما يعيش فينا وما نعيش فيه.

إن كانت الصدمة النفسيّة هي ذكريات صادمة مُبعثرة، غير متّسقة وغير متسلسلة، فتجاوزها يكون في إعادة تنظيمها، وترتيبها، واستكمال أحداثها والمشاعر غير المنتهية من خلال تفريغها ومشاركتها...

لا يكتفي الفيلم بجعل المشاهد مشاركًا، بل يورّطه بدور البطولة. إذ إنّ مجال الرؤية الّذي يُمْنَحُ للمشاهد أكثر اتّساعًا من تصوّره؛ فهو يرى أكثر ممّا يرى أيّ شخص مشارك في الفيلم، بمن فيهم المخرج. فحتّى الأخير كان تحت المجهر بما يحمله من صراعات وتخبّطات نفسيّة. يُغذّي هذا التورّط نرجسيّة المشاهد، فهو يرى المركز والهامش ويبدّل بينهما، يشاهد من علوٍّ أشخاصًا يُشاهدون ذواتهم من خلال تقنيّات يمكنها أن تكون استشفائيّة. فماذا يعني أن تكون تارة ممثّلًا، وتارة أخرى متفرّجًا، وماذا يعني أن تتقمّص دور عدوّك؟

جميعها محاولات لإعادة صياغة التجربة الماضية في «هنا والآن»، مع فتح حيّز للتفريغ والاستبصار بهدف الحصول على إدراك مُحدَّث. فإن كانت الصدمة النفسيّة هي ذكريات صادمة مُبعثرة، غير متّسقة وغير متسلسلة، فإنّ تجاوزها يكون في إعادة تنظيمها، وترتيبها، واستكمال أحداثها والمشاعر المرتبطة بها غير المنتهية والعالقة من خلال تفريغها ومشاركتها. وذلك ما يتّفق و«قانون الإغلاق» الّذي يقوم على فكرة أنّ الإنسان يسعى دائمًا إلى سدّ الثغرات الموجودة في تجربته الشعوريّة ليتجاوز الغموض والتناقضات، وليتحصّل على إدراك شعوريّ يتّسم بالثبات والاتّساق.

 

علاج الوحدة بالعزلة

تعتقد ماريان مور، الشاعرة والناقدة الأميركيّة، أنّه لكيّ نتخلّص من وضع مؤذٍ قائم ولا مناصّ منه، فإنّ علينا أن نحوّله إلى خيار واعٍ، وبذلك ننال من سلطته [علينا] ونضعه تحت سلطتنا؛ ولذلك كان عنصر الاختيار في «اصطياد أشباح»، العنصر الأكثر أهمّيّة في إعادة خلق تجربة الأسر من جديد. لقد اختار الأسرى المحرّرون الزنزانة طواعية هذه المرّة، بل هم من ساهموا في بنائها، وذلك ما مكّنهم قليلًا من سُلطة سجّانهم السابقة عليهم. هنا يكون الاختيار هو عدوّ القلق الوجوديّ، وإن كان الأخير نتيجة الاشتباك مع وجود متعدّد الاحتمالات والسيناريوهات الّتي لا نستطيع التحكّم بها، فإنّ اختيار إحداها هو طريق النجاة الوحيد.

لم يكتف الفيلم بإتاحة المجال للأسرى بأن يختاروا، بل في أن يتواصلوا ويتفاعلوا مع اختيارهم أيضًا؛ فالاتّصال ليس اجتماعًا بالآخر فحسب، بل زيادة لوعي التمييز بين الذات وما هو خارج الذات. إنّه تفاعل يشمل تفاعل الفرد مع ذاته، ومع الآخرين، ومع البيئة الفيزيقيّة والاجتماعيّة، وذلك يتضمّن جميع التفاعلات بما فيها الأفعال الاعتياديّة كالمشي، تناول الطعام، أو الضحك، وذلك ما تجلّى في الفيلم من خلال تتبّع التفاصيل الّتي عاشها الأسرى. وذلك أيضًا ما دفعهم إلى التواصل مع ذواتهم، وذكرياتهم، وخيالهم، ومن ثمّ التمكّن من الفصل بين الزنزانة الّتي كانت داخلهم، وتلك الّتي كانوا داخلها.

الأسرى نالوا من المكان بنيةً وشكلًا، ونالوا منه معنىً من خلاله تحويله إلى معرض ومكان يستطيعون فيه المشي، والغناء، ورؤية عائلاتهم وأحبّائهم...

قد يكون هذا الفصل في حقيقته هو انتقام مزدوج من المكان وسرديّته، فالأسرى نالوا من المكان بنيةً وشكلًا، ونالوا منه معنىً من خلاله تحويله إلى معرض ومكان يستطيعون فيه المشي، والغناء، ورؤية عائلاتهم وأحبّائهم. لم يَعني توقّف الزنزانة ما بعد الحداثيّة في السجن الإسرائيليّ عن أداء بعض وظائفها – كالحرمان من الضوء والإخفاء – واحتفاظها بوظيفتها الثالثة المتمثّلة بالحبس الّذي يحجب الشمس عن الأسير ولكنّه لا يُخفيه مقيّدًا في دهاليز مظلمة تحت الأرض؛ لم يعني ذلك أنّ السجن تحوّل إلى سجن أقلّ فظاعة وقسوة، بل أنّه انتقل من استهدافه الجسد إلى استهداف الذهن الّذي يُرادُ له أن يتحوّل إلى زنزانة فعليّة، محوّلًا حواسّ الأسير نفسها إلى أدوات تعذيب.

يخطّ الأسير وليد دقّة هذه الأفكار في مقال بعنوان: «حرّر نفسك بنفسك»، وفيه يتحدّث عن التغيّرات الّتي طرأت على السجن في الزمن ما بعد الحداثيّ. فبعد أن كان السجن في زمن الحداثة حيّزًا مكانيًّا يستهدف جسد الأسير ويضعه في دهاليز مظلمة، تحوّل بفعل ما بعد الحداثة إلى سيلان فكريّ يشكّل ذهن الأسير موضوع ممارساته. وهنا نعود إلى إحدى مشاهد الفيلم الّتي يكون فيها أبو عطا، أحد الأسرى المحرّرين، يستحضر فيها شعوره بالانتصار والراحة بعد كلّ جولة تحقيق يتمكّن فيها من المحقّق ويُعيده خائبًا. فيسأله المخرج عن شعور النصر والراحة في ظلّ صعوبة الشروط الموضوعيّة المحيطة، وهنا يسخّف أبو عطا من هذه الظروف ويُشير نحو رأسه قائلًا:"هنا الفكرة"، وكأنّه في هذه اللحظة كشف لنا السرّ الكامن وراء الصمود.

 

"سأحكي لكم عن قصّة فيها حقيقة وجهكم، فيها حقيقة سيفكم"

شكّلت هذه الأغنية لحظة معترضة في الفيلم، فقد جاءت مباشرة بعد لحظات من التعذيب الّذي تعرّض له الممثّل الّذي يلعب دور أبو عطا من قبل المُحقّقين. إذ أحنى أبو عطا رأسه وطلب من الممثّل الّذي يلعب دوره، وكأنّه في عالم مواز يطلب من نفسه، أن يغنّي هذه الأغنية. بدأ أبو عطا بتلقينه الأغنية بعاطفة مشحونة وهو يربت عليه في خضمّ فوضى المشاهد العنيفة العارمة الّتي وضعته في حالة من الإرباك، وكأنّه يقول: لا بأس، لا بدّ من مقايضة الألم بالحقيقة.  

انتقل السجن من استهدافه الجسد إلى استهداف الذهن الّذي يُرادُ له أن يتحوّل إلى زنزانة فعليّة، محوّلًا حواسّ الأسير نفسها إلى أدوات تعذيب...

ولعلّ الحقيقة كانت متأرجحة طيلة الفيلم، فالمشاهد يعلم في نهاية المطاف أنّ ما يشاهده هو فيلم يمثّل فيه الأسرى أنّهم يمثّلون، وأنّ ثمّة مستويات من الأقنعة الّتي من شأنها أن تُخفي الحقيقة. لكن، وفي المشهد الأخير من الفيلم، يظهر السجّان ويشعل سيجارة لأحد الأسرى عن طريق الخطأ، فتحدث بلبلة داخليّة في إدارة السجن، إذ يحاول الضابط المسؤول الكشف عن هويّة السجّان الّذي أشعل السيجارة، وعندما يُسأل الأسير عن السجّان الّذي فعل ذلك يقول:"الولعة كانت معي". وحين يذهب السجّان إلى الأسير ليقدّم له شكرًا غير مباشر لعدم الاعتراف عنه، يردّد الأسيرة للمرّة الثالثة على التوالي:"الولعة كانت معي"، وهنا ينفعل السجّان، ويُفاجأ المُشاهِدُ الّذي يخسر سلطته المتمثّلة بشعوره بالسيطرة عن طريق الرؤية الشاملة، لصالح الأسير الّذي خرج عن النصّ مرّتين؛ الأولى عندما خلق التجربة، والثانية عندما صدّقها بالفعل.  

 


 

غدير محاجنة

 

 

 

باحثة وطالبة ماجستير في برنامج «علم النفس المجتمعيّ» في «جامعة بير زيت». كتبت في عدد من المجلّات والمنصّات العربيّة.