جماليّات القبح في التصوير الفوتوغرافيّ للمأساة

Jessica Harms

 

"في النهاية - أو إلى حدّ ما - من الأفضل أن نشيح بوجوهنا، أو أن نغمض أعيننا؛ كي نرى صورة فوتوغرافيّة بشكل جيّد".

رولان بارت، «الغرفة المضيئة: تأمّلات في التصوير الفوتوغرافيّ» (ص 53).

 

بعد كلّ فاجعة، تخلق صور الموت والدمار في أذهاننا مزيدًا من البؤس، فتعود بنا إلى كوارث كثيرة احتلّت تفكيرنا، وعمّقت في ذاكرتنا جراحًا غائرة لا تندمل؛ فالصورة تمتلك قوّة المصداقيّة، لأنّها غالبًا ما تُطابق الواقع وتُلازمه، أو - على الأقلّ - هذا ما توحي به إلى الرائي الّذي ترتبط الصورة بذهنه بالواقع لا بالخيال.

والمفارقة أنّنا، وعلى رغم كلّ هذا الألم الّذي يعتصرنا، حين نشاهد آثار الكوارث وصور المآسي في قنوات الأخبار وعبر «السوشال ميديا»، لا نكاد نقاوم شغف إعادة نشرها، خاصّة إذا ما أُعِدَّت بتقنيّة عالية ومهارة فوتوغرافيّة احترافيّة تُظْهِر مفارقات الكارثة، كصورة لدمية طفل بين الركام، أو لوحة فنّيّة نصف معلّقة على جدار متصدّع. وهذا يقودنا إلى أسئلة حول طبيعة النفس البشريّة، ورغبتها في تمثيل الشرّ أو مشاهدته: لماذا نُجَمِّل الدمار؟ هل نستمتع في مشاهدة المأساة؟ ثمّ كيف لنا بعد كلّ ذلك تمثيل الواقع بطريقة مثيرة للإعجاب؟ أو ليس هذا هو ذات الواقع الّذي نمقته بطبيعة الحال؟

شعورنا بالخوف فمصدره ذعرنا من أن نلاقي المصير ذاته، رغم إيماننا بأنّنا لا نستحقّ نهاية مفجعة لحياتنا. ومع أنّ نهاية المسرحيّة التراجيديّة مأساويّة حتمًا، إلّا أنّنا نشعر بعد مشاهدتها بما أسماه أرسطو «التطهير النفسيّ»...

شفقة وخوف

يعتقد أرسطو أنّ رغبة الجمهور الإغريقيّ في مشاهدة المسرحيّات التراجيديّة، على الرغم من معرفته السابقة بالحبكة والنهاية (فهي مبنيّة على أساطير قديمة معروفة لدى الإغريق)، نابعة من عاطفتَي الشفقة والخوف. ويقصد أرسطو هنا أنّنا نشعر بالشفقة على البطل التراجيديّ الّذي يمتاز بالنبل، إلّا أنّ قدرًا أو غلطة بسيطة ما Hamartia))[1] يقودانه إلى حتفه.

أمّا شعورنا بالخوف فمصدره ذعرنا من أن نلاقي المصير ذاته، رغم إيماننا بأنّنا لا نستحقّ نهاية مفجعة لحياتنا. ومع أنّ نهاية المسرحيّة التراجيديّة مأساويّة حتمًا، إلّا أنّنا نشعر بعد مشاهدتها بما أسماه أرسطو «التطهير النفسيّ» (Catharsis)، وهو نوع من الراحة بعد القلق الطويل خلال فترة المشاهَدَة، وكذلك حالة من الرضا بتلك النهاية وبمصير البطل التراجيديّ؛ لأنّنا ببساطة لا نستطيع تغيير مأساة وقعت.

 ربّما يكون هذا هو الشعور الّذي يُخالجنا حين نشاهد صور الحروب والكوارث؛ فاستثارة تلك المشاعر تجعلنا نشعر بإنسانيّتنا والتزامنا تجاه قضيّة ما، وبالتالي ضرورة تمثيلها عن طريق الفنّ، الّذي يُعيد لنا المأساة بطريقة أخرى دون المزيد من الضحايا والدمار.

 

فعلُ عَدَمِ تدّخل

ولأنّ التصوير الفوتوغرافيّ هو الأقرب محاكاة إلى الواقع بين الفنون الأخرى كالرسم، اقترن منذ اختراع الكاميرا عام 1839 بالموت - كما تؤكّد سوزان سونتاج في كتابها «فيما يخصّ معاناة الآخر»[2] - لأنّ الصورة تعرض التجربة بدلًا من أن تسردها (Showing Not Telling)، فتصبح الصور "قطعة من العالم لا تقريرًا عنه" كما تصفها سونتاج، "أو نسخة مصغّرة عن الواقع يستطيع أيٌّ منّا أن يُنْتِجَه أو يمتلكه"[3]. وهذا ما يعطي المشاهد مساحة من الخيال وتعدّديّة للتفسير، وكذلك يمنح المصوِّر شعورًا "بالمعرفة والقوّة"؛ لأنّه بذلك يمتلك القدرة على ملاءمة الشيء المُصَوَّر واستلابه[4].

تحمل الصورة ما يفتقده الواقع من جماليّات القُبْح (Aesthetics of the Grotesque)، وهي تُطْلَق على ما يثير مشاعر الغرابة والعطف والشفقة، وربّما الاشمئزاز.

ومن بعض ما يزيد الصورة رعبًا، أنّ التصوير الفوتوغرافيّ - كما تقول سونتاج "فعل عدم تدخّل"، فمن المثير للذعر إدراك أنّ المصوّر كان داخل الحدث، لكنّه آثر تسجيله على التدخّل لمنعه، فبحسب سونتاج "مَنْ يتدخّل لا يستطيع التصوير، ومن يُصَوِّر لا يستطيع التدخّل". لذا، تتفوّق الصورة على الواقع؛ لأنّها تُحَفِّز مشاعر أساسيّة وغريزيّة في النفس البشريّة، كالخوف والشفقة والمعرفة والقوّة، وذلك كلّه دون أن نكون نحن ضحايا المأساة.

كذلك، تحمل الصورة ما يفتقده الواقع من جماليّات القُبْح (Aesthetics of the Grotesque)، وهي تُطْلَق على ما يثير مشاعر الغرابة والعطف والشفقة، وربّما الاشمئزاز. ومن الأمثلة عليه في الأدب «أحدب نوتردام»، وشخصيّة كاليبان في مسرحيّة شكسبير «العاصفة»، وغيرها من الشخصيّات الّتي تتميّز بالدمامة أو الغرابة، لكنّها تستثير عطفنا؛ لأنّها ترتبط بمفاهيم ومشاعر مألوفة لدينا، وهذا ما يجعلها ذات قيمة.

نحن لن نشاهد ألبوم صور لموتى مثلًا، إلّا في حال عرفنا أنّهم ضحايا مجزرة أو كارثة معيّنة؛ لأنّ الصورة المثيرة للاشمئزاز ترتبط في هذه الحالة بحدث يمسّنا ويعني لنا شيئًا ما؛ فمشهد صلب المسيح الّذي جسّده الكثير من الأعمال الفنّيّة يرتبط بالمعاناة والتضحية؛ لذا يكون وقع المشهد قويًّا على الرغم من قسوته.

وفي هذا الخصوص، تقول فيرجينيا وولف في مقالتها «ثلاثة جنيهات» (1938) إنّ "عدم شعورنا بالألم، وارتعادنا خوفًا، ومحاولة القضاء على ما يسبّب هذه الفوضى أو المذبحة حين نرى تلك الصور، ما هو إلّا إخفاق في الخيال، وفي القدرة على العطف"؛ فمشاعر العطف والخوف الّتي تستثيرها الصور يجب ألّا تتوقّف على الشعور السلبيّ، بل تتجاوزه إلى التأثير في الوعي الجمعيّ، للارتقاء بالإنسانيّة من خلال عرض مأساة الآخر، ومحاولة تقمّصها على أنّها مأساتنا.

حتّى لو سمحت تكنولوجيا الصورة الحديثة للمصوّر التصرّف بها، سواء بجعلها أكثر دراماتيكيّة أو حتّى بتغيير معالمها تمامًا، إلّا أنّ الصورة تبقى في أذهان الكثيرين وفيّة للواقع، فيحسبونها بعيدة عن الخيال...

بهذه القسوة

بذلك كلّه، يكون التصوير الفوتوغرافيّ للمَشاهِد المأساويّة جزءًا من نشر الوعي تجاه قضايانا؛ فالصورة الفوتوغرافيّة واقعيّة، ويدرك الرائي أنّها ليست متخيّلة، لأنّها بشكل أو بآخر نسخة متداولة عن الواقع، حتّى لو سمحت تكنولوجيا الصورة الحديثة للمصوّر التصرّف بها، سواء بجعلها أكثر دراماتيكيّة أو حتّى بتغيير معالمها تمامًا، إلّا أنّ الصورة تبقى في أذهان الكثيرين وفيّة للواقع، فيحسبونها بعيدة عن الخيال.

ومن هنا تتولّد في الوعي البشريّ صدمة عند رؤية صور الكوارث؛ لأنّ الصورة تعني أنّ واقعنا بهذه القباحة وبهذه القسوة.

..........

إحالات:

[1]  تُترجَم أيضًا: سوء حسابات.

[2] Sontag, Susan. In Regarding the Suffering of Others (2003).

[3] Sontag, Susan.  On Photography  (1977).

[4] Sontag, Susan.  On Photography  (1977).

 

 

سميّة الحاجّ

 

 

أستاذة مساعدة في الأدب الإنجليزيّ في جامعة بيرزيت، حصلت على درجة الدكتوراه من الجامعة الأردنيّة عام 2016، وقد تخصّصت في الأدب الكاريبيّ ودراسات ما بعد الاستعمار. لها العديد من الأبحاث في النقد والنظريّة الأدبيّة.