«أحلى من برلين»... سباحة بلا مدى في بحر المدينة

حيفا | وحيد القيسي

 

ساعدني فرج سليمان ومجد كيّال، كما غيري كُثر ممّن يمنعهم الجدار الإسرائيليّ من الوصول إلى مدن الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948، على زيارة مدينة حيفا، تلك المدينة الّتي يصرّح درويش بأنّه يحقّ للغرباء أن ينافسوا ساكنيها على ما فيها، وأن ينسوا بلادهم في نواحيها، من فرط كونها حمامة تبني عشّها على أنف غزال.

يمسك فرج ومجد بأيدي ساكني الضفّة وغزّة وبيروت وإسطنبول[1] وغيرهم من العرب، ويأخذاننا عبر 11 أغنية[2]، هي عدد أغاني ألبوم «أحلى من برلين« الّذي صدر في 6 كانون الأوّل (ديسمبر) من العام الحاليّ، في جولة في شوارع حيفا لتعرّف أمكنتها وشخوصها ومواضيعها. 

ليس دقيقًا القول إنّ الألبوم يعبّر عن حيفا، فالأدقّ أن نقول إنّه يشبهها؛ لذا فإنّ مَنْ أحبّ العمل أوّل الأمر فإنّه يحبّ حيفا وأجواءها مسبقًا، ومَنْ كره العمل - ربّما حتّى قبل أن يسمعه - فإنّه يكره حيفا وأجواءها مسبقًا.

تتمحور أغاني الألبوم حول مدينة حيفا والحياة اليوميّة فيها، وما تحتويه من أمكنة وفضاءات، وما يجري عليها وفيها من علاقات اجتماعيّة وسياسيّة، تارة بين أهل المدينة أنفسهم، وتارة في اشتباكها مع حضور المستعمر الإسرائيليّ في المدينة.

ليس دقيقًا القول إنّ الألبوم يعبّر عن حيفا، فالأدقّ أن نقول إنّه يشبهها؛ لذا فإنّ مَنْ أحبّ العمل أوّل الأمر فإنّه يحبّ حيفا وأجواءها مسبقًا، ومَنْ كره العمل - ربّما حتّى قبل أن يسمعه - فإنّه يكره حيفا وأجواءها مسبقًا. وبعيدًا عن هذه الثنائيّة الّتي تتكرّر في كلّ عمل فنّيّ، فإنّ الألبوم بكلمات مجد وبصوت فرج وموسيقاه، عمل فنّيّ وإبداعيّ؛ إذ يحقّق شرط أن يضعك أمام تحدّيات وأسئلة، بواسطة صوت «عاديّ» قريب من النفس، وتشبيهات واستعارات بسيطة، لكنّها ساحرة.

 

«السبويلر» مدخلًا

للألبوم دورة حياة ببداية ونهاية، فأوّل أغنية بعنوان «خلّصنا غناني» إعلان مُبْهَم ومُرَمَّز، أو هي افتتاحيّة قلقة تفصح عمّا هو آتٍ. أمّا آخر أغنية «صلاة»، فهي إعلان هادئ بوصولٍ ما إلى برّ شاطئ ما، وما بينهما عبارة عن رحلة شخصيّة تجمع قصصًا وتجارب ونقاشات وحبًّا وفشلًا ونجاحًا، كما هي دورة حياة أيّ شخص آخر.

تعي الأغنية الأولى بأنّها جزء من ألبوم أكبر، قد رأى النور أخيرًا، وهي فرحة لأجل ذلك، نتهيّأ لذلك من عنوان الأغنية، لكن ما إن نشغّلها حتّى «تحرق» لنا من البداية مسألة، وهي أنّ العاملين على الألبوم «سيحرقونه» في النهاية، وكأنّ الكاتب ساخرًا يفوّت الفرصة على كلّ مَنْ تسوّل له نفسه أن يصادر متعة «السبويلر» منه:

"خلّصنا غناني

بدنا نحرق الألبوم

نمحي منه صور الذاكرة  

نمنع تصوير اليوم

خلّصنا غناني

بدنا نهاجر عَ برلين

بعد الشهر الثاني هناك

بنكتب بوست عن الحنين".

 

مَنْ يريد حرق إنجازه غير ذلك الّذي كشف سرًّا ما عن نفسه؟ كأنّه يعرض لنا شيئًا من نفسه، ويخاف أن يبرد بعد هذا الكشف. إذن، فإنّ جسد الكاتب والمغنّي هو المسرح الّذي تدور عليه أحداث الذاكرة وصورها، وهذا الجسد قد اكتشف نفسه مع مدينة حيفا، بالعيش فيها وبالبعد عنها، وهنا ترد برلين كاستعارة لكلّ المدن الّتي ليست حيفا. أمّا نحن فننبش من هذا الألم والحنين إلى الذات، صورًا واستعارات ومقولات.

مَنْ يريد حرق إنجازه غير ذلك الّذي كشف سرًّا ما عن نفسه؟ كأنّه يعرض لنا شيئًا من نفسه، ويخاف أن يبرد بعد هذا الكشف. إذن، فإنّ جسد الكاتب والمغنّي هو المسرح الّذي تدور عليه أحداث الذاكرة وصورها...

ليس ثمّة أمل في شيء، يعلّمنا الألبوم. وبما أنّه كذلك، فلا يتبقّى سوى النوستالجيا ممكنًا وحيدًا لإبصار المكان؛ "ندبنا ع اللّي راح"، "نمحي صور الذاكرة"، "بسّ بشتاق"، "القهوة بطّل إلها قيمة"، "مين قال إنّه المدينة بعدها بتنقطع مشي"... عن ذلك يقول مجد: "هو حنين للنفس أيضًا، ثمّة اغتراب، فمثلما يشتاق الشخص المهاجر، ثمّة مَنْ يشتاق دون أن يهاجر". 

كما يقول لي مجد، فإنّ بإمكاننا مدّ خيط من كلّ مقطع في هذه الأغنية، وربطه بأغنية أخرى من الألبوم؛ لأنّ كلّ مقطع إنّما هو تكثيف مسبق لقصّة لمّا نعرف أحداثها بعد في الأغاني القادمة. بهذا المعنى فإنّ الكاتب يتقمّص دور المخرج، فيقترح علينا زاوية للنظر من خلالها إلى الكلمات، ويجرّب نصّه علينا كما لو أنّه «يلعب» بمواقعنا. أهناك سبب آخر غير «اللعب» لأن تكون أغنية «لمّا ينزل الثلج» إيروتيك، في حين ظنّها المعظم أنّها أغنية في وصف الطبيعة؟

تأتي أغنية «مرثيّة لشهيد وحيد» لتربك هذا الخيط الناظم الّذي يحاول الألبوم صنعه؛ فهي أغنية لا تشبه أغاني الألبوم الأخرى في اللحن والكلمات. يحكي مجد عن هذه الأغنية، فيقول: "الألبوم قطعة كاملة، أمّا المرثيّة فتأتي كقطع للحفلة الّتي يقيمها الألبوم؛ بهذا المعنى غرّدت المرثيّة خارج سرب الألبوم".

 

السياسة بلغة «عاديّة»

تخطفنا كلمات مجد «العاديّة» والبسيطة إلى واقع حيفا المعقّد والمركّب، وربّما تكون أغنية «شارع يافا» المثال الأبرز على ذلك؛ فهي عن الممارسات الإسرائيليّة العميقة المتمثّلة بـ «الإحلال - Gentrification» في شارع في المدينة، لكنّ هذا المفهوم الّذي يطول شرحه في أدبيّات العلوم الاجتماعيّة، تتناوله الأغنية بكلّ براعة وخفّة، من خلال حوار بين شابّ وصديقته. ثمّ بعدها تغرق الأغنية بتساؤلات حول المدينة الّتي تنهش من بطنها «إسرائيل»، وهي أسئلة كبيرة من قبيل: "مين سرق منّا الطبيعة وقلّنا حافظوا ع البيئة؟"، "مين حطّ السوق في مول؟"، "مين طلّعنا من البيوت؟"، "مين قسّمها ومين أجّرنا أستوديو أصغر من تابوت؟"، وغيرها من الأسئلة المشابهة. 

تكون القصّة العاطفيّة هي المدخل الّذي يهيّئ المستمع للتلقّي، والحوار المقترح حوار معروف في مجتمعنا الفلسطينيّ. بهذه الطريقة العاديّة ليس صعبًا أن يصل المعنى إلى قلب كلّ مستمع، سواء عارفًا كان بالعلوم الاجتماعيّة أو لا...

تكون القصّة العاطفيّة هي المدخل الّذي يهيّئ المستمع للتلقّي، والحوار المقترح حوار معروف في مجتمعنا الفلسطينيّ. بهذه الطريقة العاديّة ليس صعبًا أن يصل المعنى إلى قلب كلّ مستمع، سواء عارفًا كان بالعلوم الاجتماعيّة أو لا، وسواء أيعيش واقعًا استعماريًّا أم لا. يوضّح مجد هذه الفكرة، فيقول: "لا نريد أن نُنْتِجَ عملًا يحلّق فوق رؤوس الناس؛ فالناس عاشت شعارات بما فيه الكفاية. ثمّة مداخل أخرى للسياسة، ولكلّ ما تريد قوله، وهي الشرح من قلب عاطفة الناس وتجربتها الشخصيّة". 

 

المدينة: الشيء وعكسه

سيشعر بعض مَنْ لا يسكن حيفا بمشاعر متضاربة غالبًا عند سماع الألبوم؛ فما يلبث المستمع أن يشعر بالقرب من صورة معروضة لتقاطعها مع واقعه المعيش، حتّى تأتي صورة تجاورها فتذكّره بأنّ لحيفا واقعًا مختلفًا عن مدينته وعن المدن الفلسطينيّة الأخرى. هذا ما سيحصل عند سماع «في أسئلة براسي» على سبيل المثال؛ فالصورة الّتي يعبّر عنها مقطع "بعده حسن عم بخزّق عجال إللّي أخدله الصفّة"، تتشابه في كثير مع مدننا وأحيائنا الفلسطينيّة، بينما ينقطع هذا التواصل مع الصورة في مقطع آخر من الأغنية؛ "طب طلعتي مع حدا غيري من البار ونمتوا ع الشطّ". 

لا تقتصر هذه التناقضات على مشاعر المستمع فحسب، بل يصوّر الألبوم أيضًا تناقضات عديدة تضعنا في قلبها الحياة المدينيّة. من ذلك، يتبنّى الألبوم في بادئ الأمر في «خلّصنا غناني» إعلان نيتشه «موت الإله»: "بطّل فيه لمين تدعي، عمّك نيتشه قتله زمان"، في إشارة إلى انعدام الإيمان بإله يمكن اللجوء إليه وقت الشدائد. وعلى الرغم من ذلك، فإنّ «رقصة السكران» تشير إلى عكس ذلك، فتقول: "يمكن هاد إللّي عندي، يمكن مش طالع بإيدي، في بقلبي شويّة إيمان، بسّ لو أرسالي ع عقيدة". ويتجلّى هذا الممكن بالأغنية الّتي تلحقها «صلاة»، الّتي تعبّر عن إيمان بأنّ المحاولة تظلّ "تسبح بلا مدى"، على أمل أن يُحْدِث تغييرًا ما ولو بسيطًا. 

يتركنا الألبوم حائرين أمام إلى أيّ الأمرين ينحاز، فهو مرّة في شكّ وانعدام للأمل وقدح للاستقرار، ومرّة في يقين وأمل وسعي نحو استقرار، ولو بسيطًا. ربّما هو مثلنا يقع في تناقضات، إذ يُسَخِّر مثلًا أغنية كاملة تسخر من الزواج والأمومة؛ "شو بدّك بجوزك؟"، وتدعو إلى الاستغناء عن هذا النمط الأسريّ، وتعلّقه على الحائط بعد أن تضعنا أمام تحدٍّ من المقولات الوجوديّة قبيل "بسّ الإنسان ما اكتشف النار، تيقعد جنب الدفّاي"، ولكن في أغنية ثانية «بلا طعمة»، يكون للألبوم موقف ساخر ومغاير، فيه دعوة بالرجوع إلى بيت العائلة "بتوكل كلّ أفكارك برّا، برّا كل إشي بهمّك، بسّ لو ترجع حتّى مرّة، تذوق الطبخة من إيد إمّك".

في الألبوم أيضًا صور ومشاهد تتحدّث عن البار أو تجري فيه؛ "عم تقعدي في «فتّوش"»؟"، "بعدا بتطوّل البارات؟"، "فكرك صحن مزّة منتسلّى فيه ع البار". يُعْرَض البار عنصرًا أساسيًّا من عناصر المدينة؛ ففيه تجري العلاقات العاطفيّة وإليه يحنّ المهاجر.

لكن مجد وفرج لا يوافقان على رؤية ذلك تناقضًا. يقول مجد في ما يشبه التخلّي عن مسؤوليّة ما الّذي يستنتجه المستمع من معاني الأغنية: "ليس كلّ ما يرد في الألبوم يعني تبنّينا لموقف معيّن". في ما أشار فرج: "لا يوجد لدينا نظريّة ضدّ الأسرة أو ضدّ الزواج، لكن ثمّة نساء يلجأن إلى الزواج بسبب ضغط اجتماعيّ. الكارَكْتَر الّذي نرسمه في الأغنية يقول لها: شو بدّك بكلّ هاد، إنت أحسن وأهمّ من هيك". وحينما سألت فرجًا: إذن، إِلامَ يدعو الألبوم؟ أجاب: "لا توجد دعوة. كأنّ مجد يجلس على حافّة الطريق ومعه قنّينة بيرة، يحكي للمرأة الّتي مرّت من أمامه: ‘شو بدّك بجوزك؟‘، لكن لا يقول لها ماذا عليها أن تفعل". لكنّ السؤال هنا: هل ثمّة نقد لفكرة دون أن يكون خلفها دعوة إلى فكرة أخرى؟

في الألبوم أيضًا صور ومشاهد تتحدّث عن البار أو تجري فيه؛ "عم تقعدي في «فتّوش"»؟"، "بعدا بتطوّل البارات؟"، "فكرك صحن مزّة منتسلّى فيه ع البار". يُعْرَض البار عنصرًا أساسيًّا من عناصر المدينة؛ ففيه تجري العلاقات العاطفيّة وإليه يحنّ المهاجر.

في المقابل، تشير أغنية «شارع يافا» إلى ممارسات الاستعمار الإسرائيليّ في سرقة البيوت القديمة وطرد السكّان منها، واستبدال بارات بها لتغيير معالم المدينة: "بدهن أترك الحارة ويفتحوا مطرح بيتي بار"؛ فالمشهد الّذي يحتفي فيه الألبوم، هو نفسه الّذي يذمّه في موضع آخر.

يعلّق مجد على ذلك، بالقول إنّ البار مساحة لقاء، مثله مثل أيّ شيء آخر: "نحن لسنا خارج التهجير والطمس الّذي يحصل في ‘شارع يافا‘، نحن المجتمعَ أيضًا نجلس في البارات الّتي افْتُتِحَت على أملاك لاجئين. حتّى يمكن أن نذهب إلى ‘مخبز عمّي إللّي تحوّل جاليري‘. نحن للأسف جزء من هذه الحالة، ‘بالمنيح والعاطل إللّي فيها‘".

 

اختر الخاتمة الّتي تحبّ

في الألبوم خاتمتان، احتار مجد وفرج في اختيار إحداهما. الأولى الّتي نُشِرَت خاتمةً للألبوم هي أغنية «صلاة»، الّتي جاءت خاتمة عامّة تتّسع للجميع. توضّح هذه الأغنية مَنْ هو الجمهور المستهدَف للألبوم، ولمَنْ تُغَنّى أغانيه، ومَنْ تطمح أن يستمع إليها، وأيّ مواضيع تسعى إلى طرحها على السطح. أمّا الثانية فهي «رقصة السكران» أو «إحباطات مجد» كما سمّاها فرج، وقد تكرّر فيها كلمة "يمكن"، الّتي تحيل إلى الشخصيّ بقلقه وتردّده وتخبّطه في محاولاته الكثيرة في الحياة. 

نحن نجاهد في محاولة رواية قصّة هذا المكان، ‘بدنا نضلّ نسبح مع إنّه فشّ عندنا ولا أيّ أمل‘. هذا هو شكل الصلاة، الجميع يؤمن بشيء ما: فلسطين، الإسلام، القضايا النسويّة، وغيرها.

عن هذه التخبّطات يقول مجد: "هذه نهاية الرحلة". ويكمل: "كان ثمّة مَنْ يحاول تعميق مأساته؛ الغضب والإحباط في عمليّة استمرّت على مدار الألبوم، محاولًا الوصول إلى برّ أمان معيّن، إلى لحظة أمل في أيّ شيء، للحظة واحدة حتّى ولو كانت ‘بتسبح بلا مدى‘، ولكن ما زال لديه الأمل. نحن نجاهد في محاولة رواية قصّة هذا المكان، ‘بدنا نضلّ نسبح مع إنّه فشّ عندنا ولا أيّ أمل‘. هذا هو شكل الصلاة، الجميع يؤمن بشيء ما: فلسطين، الإسلام، القضايا النسويّة، وغيرها. الجميع يجاهد، والجميع ليس لديه أمل في شيء. هذه هي الحقيقة".

.....

إحالات:

[1] تظهر مدينة إسطنبول واحدة من المدن الأكثر استماعًا إلى الألبوم، وذلك في إشارة إلى استماع اللاجئين السوريّين هناك، كما أشار إليّ فرج.

[2] إنّ أغنيتَي «شارع الجبل» و«عرض زواج» اللتين كتبهما كيّال لسليمان، في ألبومه السابق «البيت الثاني»، يمكن اعتبارهما امتدادًا لروح الألبوم الحاليّ.

 

 

مثنّى خميس

 

 

 

كاتب وصحافيّ من فلسطين. وُلِدَ في طولكرم، وتعود جذوره إلى مدينة يافا. يدرس ماجستير علم الاجتماع في «جامعة بيرزيت»، ويعمل مساعدًا للتدريس فيها.