«مع وقف التنفيذ»... سيرة ريف دمّر نفسه بنفسه

مسلسل «مع وقف التنفيذ» (2022)

 

في أحد برامج اليوتيوب الجديدة في رمضان في سوريا، تتمشّى صحافيّة جريدة «الوطن» في شوارع سوريا وأحيائها الفقيرة، أو في أسواقها الفقيرة، بين دمشق، وطرطوس وحماة واللاذقيّة وحلب... وغيرها؛ لتطعم الفقراء، كأنّها الأميرة في أغنية «كلما بشتقلك»، لفرقة «كلنا سوا» السوريّة. هكذا إذن، تتمشّى هذه الصحافيّة الأميرة لتفضح جرائم التجّار الّذين لا يلتزمون بأسعار التموين و’المؤسّسة الاستهلاكيّة‘. تناورهم، تسألهم، تخدعهم، تسأل بسرعة وقوّة وشجاعة، تسأل كمواطنة طبعًا، لكنّها تحشر الميكروفون في أنوفهم وأفواههم، تصرخ بصوتها الّذي يبحث عن العدالة، وبلكنتها الشاميّة الدراميّة، تحاسبهم في محلّاتهم، لتصنع الفرح في النهاية وتهدي الفقراء، ممّن تختار، مقادير واحتياجات ’طبخة اليوم‘ من رزّ ولحم أو دجاج، وزيت، وغيرها. يشكرها الجميع وتنتهي الحلقة. إنّه برنامج حقيقيّ، يحاول أن يرصد أنفاس الشارع، وأن يصلح أخطاء التجّار والغشّاشين في أسواق هذه المدينة التاريخيّة.

لا يستطيع سيف الدين السبيعي من موقع الإخراج أن يستخدم كلمة ’الكارثة‘، لكنّه يشير إلى أنّها كذلك من خلال أحداث العمل وحواراته. هكذا تفادى صنّاع العمل ورطة التسمية...

كثيرًا ما تردّدت مقولة "هذه الدراما لا تشبهنا" في المواسم الرمضانيّة التالية لموسم 2011، دون أن يكون ثمّة قاسم مشترك بين تلك الأعمال المختلفة والمتنوّعة، الصادرة خلال العقد الماضي، والّتي لا تشبهنا أو لا تشبه الدراما الّتي تعوّدنا عليها سابقًا. لكنّني لا أصدّق هذه المقولة بشكلها الحتميّ، بل أحاول أن أفكّر فيها، من خلال تفكيكها إلى أجزاء أبسط، أو من خلال تغيير السؤال وتحويره إلى: هل تشبه هذه الدراما، الدراما السوريّة القديمة؟ وبشكل آخر، يتّضح سؤال (من نحن؟) مرّة أخرى ومتجدّدة، من خلال (نا) الدالّة على الجماعة في (لا تشبهنا)، فمن وراء الضمير (نا) الّذي يختبر الدراما ويقيّم انتماءها؟

 

ما بعد الـ ’كارثة‘

أُعِدّ هذه المقالة بالنظر إلى مسلسل «مع وقف التنفيذ» (2022)، من كتابة علي وجيه ويامن الحجلي، وإخراج سيف الدين السبيعي، بوجود عدد من الوجوه ’المعتبرة‘ في الدراما السوريّة، كغسّان مسعود، وشكران مرتجى، وسلاف فواخرجي، وعبّاس النوري، وفادي صبيح، وغيرهم. يطرح المسلسل حارة واحدة من حارات الجمهوريّة، تُدعى حارة العطّارين. حارة خياليّة طبعًا؛ لأنّها - كما يبدو من العمل - منطقة ما في ريف دمشق، أي أنّنا في هذا العمل نتعامل مع أحد هوامش سوريا، وهامش مدينة دمشق الكبير، ريف دمشق. يدلّنا هذا التعامل مع ريف دمشق كمنطقة، ومحاولة اختزاله بمفهوم الحارة، على نوعيّة التهميش الّذي يُمارَس بحقّ هذا الريف. كذلك يذكّر استخدام مفهوم الحارة هنا بالتعامل مع منطقة ريفيّة كبيرة بمفهوم حارة (كلّ مين إيدو إلو) من ذاكرة التلفزيون السوريّ، الّذي يبدو أنّهم أرادوها أن تبدو كذلك.

على العموم، ينطلق العمل من فكرة بسيطة، وهي فكرة الخروج والعودة، الحارة قبل وبعد، دون تحديد هذا الحدث الفيصل، إذ يفترض صنّاع العمل الاتّفاق المسبق عليه في الذاكرة الجمعيّة للسوريّين، إذن، يكفي أن نكتب قبل الخروج لنفهم معنى ذلك؛ أي قبل الكارثة وبعد الكارثة. لا يستطيع سيف الدين السبيعي من موقع الإخراج أن يستخدم كلمة ’الكارثة‘، لكنّه يشير إلى أنّها كذلك من خلال أحداث العمل وحواراته. هكذا تفادى صنّاع العمل ورطة التسمية: الورطة الّتي نعرفها جميعًا.

يحافظ العمل على الطرح التقليديّ في الدراما السوريّة لمناطق الريف الدمشقيّة، بالتركيز على الفقر والجهل من العوامل الأساسيّة في هذا المجتمع، مع وجود طفرات اجتماعيّة تحاول تغيير الواقع من حولها. طرح كلاسيكيّ لكنّنا نرصد في هذا العمل إدخالًا لعناصر جديدة، لم تُتجاهَل من قبل، لكن لم تؤدّ أدوارًا رئيسيّة بهذا الشكل كما في هذا العمل.

 

 

استشراق ذاتيّ 

يقدّم المسلسل هذه العناصر في فئة من فئات المجتمع السوريّ السنّيّ في الأرياف، مع التركيز التامّ على عمليّة استشراق ذاتيّة قائمة على المخيال السوريّ المتولّد منذ ثمانينات القرن الماضي، حول العوائل الإسلاميّة بالمعنى السياسيّ للكلمة. يأتي ذلك وفق سرديّة سوريّة اعتدنا عليها، تقدّم عائلة سنّيّة محافظة بإسلام وسطيّ، عائلة متحرّرة ’علمانيّة‘ مثقّفة بمعايير أخلاقيّة مختلفة، عائلة سنّيّة متشدّدة، وربّما بمذاهب سلفيّة ووهّابيّة هذه المرّة. وشخصيّات أخرى ثانويّة تندرج ضمن النسيج الاجتماعيّ غير المرئيّ عمدًا. اعتمد مسلسل «مع وقف التنفيذ» على هذه التركيبة في حديثه عن هذا الريف الخياليّ المختصر بكلمة ’حارة العطّارين‘، لكنّه لم يتناسَ الحديث عن المدينة ومركزها، من خلال شخصيّات معيّنة نكتشف أنّها ذات أصول من حارة العطّارين، وأنّها مجرّد امتدادات اجتماعيّة لتلك الفئات السالفة الذكر. تأتي شخصيّات المركز في فئات ثلاث: فئة المعارضة، وفئة التجّار، وفئة الموظّفين الفاسدين.

ينحصر المعارض السوريّ في ذاكرة التلفزيون السوريّ ومخياله، بصورة يساريّة ميّتة تنتمي إلى القرن الماضي، لا تريد الدراما تجاوزها أو نسيانها أو الاعتراف بوجود غيرها، بهدف المحافظة على الثنائيّات الّتي يمكن أن تتشكّل عنها مع الدولة. وبصورة ساذجة وغير خلّاقة، سيبقى هذا المثقّف المعارض الّذي يشرب كاسات العرق في ساعات الظهيرة في دمشق القديمة ويستمع لزياد الرحباني، ويتحدّث كشخصيّات أنطون تشيخوف، هو الشكل الوحيد للمعارض السوريّ، سيكون دائمًا خائنًا أو تائبًا أو بصورة أفضل: خائبًا، وهو الّذي سيعترف نهاية الأمر بخسارته، وبالورطة الّتي وضع نفسه وأهله وبلده فيها.

في حين تأتي فئة التاجر كما دائمًا، لتزيد الهوّة المصطنعة بين الريف والمدينة، والهامش والمركز، والتاجر والموظّف - ولا أنفي وجودها لكن ألاحظ التركيز عليها دون تفكيك أسبابها - فيكون التاجر دائمًا متواطئًا فاسدًا أو جاهزًا للفساد. وأخيرًا، تكون فئة الموظّف الفاسد، المسؤول عن كلّ مصيبة في هذه البلاد. قد يكون هذا الموظّف عاملًا في مؤسّسة كما عُرض في مسلسل «يوميّات مدير عامّ» (1995)، أو وزيرًا كما في «غزلان في غابة الذئاب» (2006)،  وربّما عضوًا في مجلس الشعب. المهمّ أنّه فرد واحد فاسد لا ينتمي إلى منظومة، ولا يعبّر عن حكومة، في محاولة لاستخدام العذر العابر للحدود التاريخيّة، والسياسيّة، بالكلمة السحريّة: أخطاء فرديّة.

 

الريف المعطوب ذاتيًّا

ما يثير الاهتمام في هذا المسلسل، وما دفعني إلى مشاهدة العمل إلى آخره والكتابة عنه، هو السرديّة الجديدة الّتي تحاول الدراما - كما يبدو - تبنّيها. نكتشف، من خلال العمل، أنّ جميع الشخصيّات الفاسدة والمعطوبة في هذا العمل، هي شخصيّات آتية من المجتمع المحلّيّ لحارة العطّارين، وأنّ اللغز الكبير القائم وراء خراب هذه الحارة يتخفّى وراء وجوه أهلها وسكّانها السابقين، وكأنّ الحارة، دمّرت نفسها بنفسها، بفصائل ومجموعات مسلّحة وُلدت داخلها ومن داخلها؛ لتدمّر نفسها، دون أيّ تدخّلات خارجيّة، دون أيّ ذكر للجيش والدولة. كلّ ما حدث قبل الخروج، وكلّ ما سيحدث بعد الخروج من خراب ودمار، سببه أهل الحارة أنفسهم، هم المسؤولون الوحيدون، بل إنّ مجموعة معيّنة من هذا المجتمع هي المسؤول الأكبر.

اللغز الكبير القائم وراء خراب هذه الحارة يتخفّى وراء وجوه أهلها وسكّانها السابقين، وكأنّ الحارة، دمّرت نفسها بنفسها، بفصائل ومجموعات مسلّحة وُلدت داخلها ومن داخلها...

بالطبع، فإنّ أسهل تهمة يمكن رميها في هكذا ظروف ستكون من نصيب المجتمع الإسلاميّ في سوريا. عليه، ستكون حارة العطّارين ضحيّة أبنائها المسلمين المتشدّدين، دون مناقشة ظروف تشكّل هذه المجتمعات السلفيّة في الأرياف السوريّة وحقيقة وجودها. بل التسليم الكامل لفكرة وجود مخطّطات سلفيّة في المنطقة، مع تصوير استشراقيّ (أمريكيّ - أفغانيّ) لهذا المجتمع ومخطّطاته. المذنب الآخر في تهمة خراب الحارة هو مثقّفها، الّذي فشل في تربية عائلته المنحلّة وفق الصورة النمطيّة للمثقّف السوريّ، الّتي تريد الدراما تعزيزها، وفشله في تحقيق غاياته العبثيّة في التغيير، مع تأكيد عبثيّة أفكاره بل أنانيّتها، وربّما تورّطها في أجندات خارجيّة، مثل حصوله على أموال أجنبيّة مقابل مقالات بسيطة. أمّا المتّهم الأخير في ذنب الخراب فهو الموظّفون الفاسدون الّذين ينتمون إلى هذه الحارة أصلًا، ويعملون وفقًا لمصالحهم الشخصيّة، دون تدخّلات خارجيّة من الحكومة.

يقدّم العمل بشكل أساسيّ، فكرة التغيير الديموغرافيّ في المناطق المدمّرة، معتمدًا السرديّة نفسها ذات التدمير الذاتيّ الّتي تتّهم السوريّين فقط بخراب بيوتهم. يرينا العمل أنّ هذه التغييرات والمخطّطات والأجندات، ما هي إلّا مؤامرات خارجيّة لكنّها طبعًا تمرّ عبر أبناء الحارة ومنهم، فمنها الأجندات الغربيّة - يذكر أحد التجّار مدينة لاس فيغاس، بإشارة فقيرة ومثيرة للسخرية فعلًا - ومنها المموّلة من أجندات دينيّة، ومنها القائم على مصالح توسّع شخصيّة لبعض الفاسدين من أهل الحارة، أو تجّارها. ممّا يعيد إلى بداية المقال وللصحافيّة الّتي تُطعم فقراء الأسواق الشعبيّة، بفعل أخلاقيّ ضروريّ لتغطية الرسالة الأساسيّة من العمل، الّتي تُثبت تواطؤ التجّار، أو مسؤوليّتهم التامّة في هذا الخراب الّذي يعيشه المواطن السوريّ.

 

الريف المجرّد من ألوانه

لا بدّ من الإشارة إلى ألوان الصورة، الّتي صنعها مخرج العمل عن دمشق وريفها في هذا العمل؛ إذ لا تخلو الصورة من استشراق ذاتيّ كما ذكرت سابقًا. يتجلّى ذلك من خلال صورة حارة العطّارين وألوانها من جهة، وصورة المدينة في شارة العمل من جهة أخرى. اعتمد صنّاع العمل على لون مائل إلى الصفرة Sepia في كلّ المشاهد المتعلّقة بالحارة، بل كان لون هذا الريف الدمشقيّ صحراويًّا دائمًا. ومن غير الممكن أن نتجاهل عنصر سحب اللون، الّذي قام به هذا الفلتر الأصفر الّذي سحب عن هذه الحارة ألوانها، أي سحب الحياة عنها بشكل أو بآخر، وهو ما قام به العمل في شارته كذلك، إذ اعتمد على لقطات جوّيّة لمدينة دمشق، مستخدمًا الألوان الهوليووديّة نفسها المستخدمة في إطار الحديث عن الشرق الأوسط. لا يسعني إلّا أن أذكر غياب مدينة دمشق عن العمل بصريًّا، غيابًا فجًّا وغريبًا، رغم الحاجة إلى ظهورها في مشاهد مختلفة. تدفعني هذه الملاحظة إلى تذكّر الراحل حاتم علي، وتذكّر دمشق الملوّنة في أعماله، رغم كلّ جراحها.

يبدو العمل إصلاحيًّا داعيًا إلى محاربة التشدّد، أو محاربة الإقصاء، لكنّه يهاجم الفنّ، يسلّط ألسنة دراميّة رخيصة من خلال حواراته وتمثيلاته للفنّان السوريّ - رولا الموسيقيّة، أخوها الرسّام، المعارض السكّير الموسيقيّ، المغنّية عتاب الساقطة ... إلخ - ويعزّز كلّ الأفكار النمطيّة والتقليديّة حول صورة المثقّف في هذا البلد المتهاوي. فيؤكّد سرديّات غير دقيقة في وصف عدم جدوى الثقافة وأصحابها، وأدوارهم التخريبيّة في سوريا المستقبل والماضي. يمكن أن نفهم هذه الحركيّة الّتي يعمل وفقها هذا المسلسل مع هذه الأفكار، بوصفها محاولة للحفاظ على نظم سلطويّة وبنًى سابقة يمكن أن نصفها بالنظم المقدّسة، الّتي تأخذ في حالة سوريا أشكالًا متعدّدة من الدينيّ إلى العلمانيّ؛ ممّا يزيد التوتّر بين المفهومين، لكنّها، بدون أدنى شكّ، تفيد السلطة القائمة عبر وجود هذه الثنائيّات.

هل تشبهنا هذه الدراما؟ أو هل تشبه الدراما السوريّة السابقة لـ ’قبل الخروج‘؟ أتغيّرت الدراما السوريّة أم أنّ مسافة السوريّين عنها جعلتهم يرونها بشكل أفضل؟ من تغيّر إذن؟ نحن أم الدراما الّتي نصنعها أو تُصنع لنا؟

 


 

موفّق الحجّار

 

 

 

شاعر وكاتب سوريّ، حاصل على ماجستير في الأدب المقارن من «معهد الدوحة للدراسات العليا».