السيمفونيّة التعسة لأندرسون... أن تكون عالقًا في الأبديّة

«عن الأبديّة» 2019

 

لفت المخرج وصانع الأفلام السويديّ روي أندرسون الأنظار منذ بداية الألفيّة الثالثة، وهو على مشارف الستّين، حين عاد بعد انقطاع طويل عقب عرض فيلمه الثاني «Giliap» في عام 1975، الفيلم الّذي استهجنه النقّاد وأسفر عن خسائر ماليّة ضخمة؛ ممّا جعل أندرسون يتفرّغ للإعلانات التجاريّة طوال هذه الفترة، إلّا أنّها لم تكن إعلانات بالمعنى الاستهلاكيّ العابر، بل كانت في معظمها بمنزلة تدريب متمهّل بحثًا عن أسلوبه الخاصّ في الإخراج، انعكس كذلك في أفلامه القصيرة الّتي كان يصنعها من آن إلى آخر إلى جانب الإعلانات.          

أمّا فيلمه الأوّل «قصّة حبّ سويديّة» 1970، فلم ينتمِ لا من بعيد أو قريب إلى أسلوبه السينمائيّ اللاحق، حيث تتّضح فيه ملامح بعض الموجات السينمائيّة الشهيرة، إلّا أنّه أكّد أنّ هوى أندرسون يميل إلى البطء والثبات وليس الحركة المعتادة؛ ففي البطء تستطيع رؤية الأشياء بوضوح حين تجلس في هدوء تتأمّل الحياة وأحوال البشر، تمامًا مثل «حمامة وقفت على الغصن تتأمّل الوجود» 2014، الجزء الأخير في ثلاثيّته الأثيرة «أن تكون إنسانًا».

لا تحوي جعبة أندرسون وفرة من الأفلام الروائيّة الطويلة، فحصيلته منها لم تتجاوز ستّة أفلام حتّى وقتنا هذا، كان آخرها «عن الأبديّة» 2019، الأسرع إنجازًا عقب عودته من بيات طويل؛ فقد تعوّدنا في نتاجه على فاصل زمنيّ يصل إلى سبع سنوات تقريبًا، في حين صدر فيلمه «عن الأبديّة» بعد خمس سنوات فقط من إنجازه «حمامة وقفت على الغصن» 2014، ويبدو أنّ الرجل لا يكترث بالعمر مطلقًا، 79 عامًا؛ ففي حوار سابق مع مجلّة «فاياراتي»، أوضح أنّ أقلّ مدّة زمنيّة يحتاج إليها لإنجاز فيلم لا تقلّ عن ثلاث سنوات في أقلّ تقدير، فهل هذا يعني أنّنا على موعد مع فيلم جديد قريبًا؟ ربّما.

 

الإنسان كغريب

في حوار قديم، يُصرّح أندرسون برغبة لازمته طوال حياته، ولم يتمكّن من تنفيذها؛ الكتابة الّتي فتنت أندرسون، وباتت أمنيته أن يصبح كاتبًا، تحديدًا ليكتب رواية مثل «الغريب» لكامو؛ لذلك نجد الغربة -بمفهومها الأشمل - تطغى على أجواء أفلامه؛ الفرد الغريب عن نفسه وعن المحيطين، في مقابل الجماعة الّتي تشعر بالغربة هي الأخرى عن الأماكن وعمّن حولها.

وقد يكون هذا الاغتراب هو الدافع لاختياره أجواء ثابتة تقريبًا في أفلامه، واعتماده على الضبابيّة في الإضاءة والصورة الباهتة أحيانًا كثيرة. ثمّ إنّ المشهد عند أندرسون مجرّد، ثابت وبطيء إلى حدّ المغالاة أحيانًا، تخرج منه حركة الممثّلين كأنّهم مرسومون على خلفيّة صمّاء، قطع من الشطرنج المعدنيّ يحرّكها عبر المشاهد؛ فالكلّ غير مُبالٍ بمصائب غيره أو مشكلاته الخاصّة، ردود أفعالهم تأتي متأخّرة جدًّا وآليّة، وقد لا تأتي أبدًا، تُطرح كأنّها قدريّة تلازم جميع شخصيّاته بوجوههم المطموسة بالمساحيق؛ فهي بيضاء كالشمع تعكس أعماقهم الشاحبة كعالمهم.   

 

«عن الأبديّة» 2019

 

تتلمذ أندرسون على يد المخرج الكبير إنجمار برجمان – الّذي تأثّر جيل كامل بمدرسته الإخراجيّة - وقد برع في أجواء الشبحيّة والضبابيّة الطاغية على عوالم أندرسون، إلّا أنّ العدميّة عند أندرسون تختلف كثيرًا عن عدميّة برجمان؛ إذ يُغلّف عوالمه الشبحيّة بغلالة من الفكاهة، يمكنك اعتبارها ضربًا من الكوميديا السوداء الّتي تنحو إلى التأمّل أكثر، وتتبع التشظّي في طرح الأفكار؛ فلا تَتابع سرديًّا للحكاية في أفلامه – قد لا توجد حكاية من الأساس - إنّما هي مجموعة من المواقف والمشاهد كأنّها تخرج من لاوعي الراوي – بعكس تيّار الوعي في الكتابة - تورّط المشاهد في حالات شخصيّاتها العابرة، تُصاحبها موسيقى تصويريّة كثيرًا ما تحتفي بالآلات النحاسيّة، في إشارة إلى التهكّم والسخرية من هذه العوالم. وهي في العموم موسيقى خافتة، تسير على وتيرة واحدة تقريبًا لكن بتنويعات متفاوتة، كي يترك مساحة لصوت واهن يحمل صخب الوجود، فهو من فرط ضجيجه الهائل تقلّص لمجرّد موجات من الصمت.

 

قدر التعاسة المُفرطة

معظم الشخصيّات عند أندرسون في منتصف العمر تقريبًا، على مسافة من مرحلة الشباب، وفي طريقهم إلى الكهولة، وهي فترة من أكثر الفترات الحياتيّة كشفًا للإنسان؛ إذ تغربَل الأحلام على أرض الواقع وتُعرَّى القدرات الحقيقيّة للفرد في رحلته بين الحياة والموت. كما توجد مجموعة من المفردات تهيمن على أفلام أندرسون إمّا بتكرارها وإمّا بتنويعاتها، ويأتي الموت في الصدارة معاودًا الحضور من فيلم إلى آخر ومن مشهد إلى مشهد؛ فجميع الشخصيّات على صورة أموات تتنفّس وليس أحياء بالمعنى الطبيعيّ، أمّا عن الموت الفعليّ فقد أبى أن يأتي في صورته العاديّة؛ فمسألة العاديّ والطبيعيّ لا تروق أندرسون كثيرًا.

في «حمامة وقفت على الغصن» 2014، يفتتح المخرج لوحاته بثلاثة لقاءات مع الموت، أوّلها يموت شخص في حجرته أثناء المعاقرة لفتح زجاجة نبيذ، في ما تنشغل زوجته في المطبخ ولا تشعر بشيء. في اللقاء الثاني نشاهد مُسنّة تحتضر في المستشفى، ومن حولها وقف ثلاثة أبناء يحاولون أخذ حقيبة يدها عنوة، بينما هي تتشبّث بها وتصرخ، وقد حوت كلّ مجوهراتها الّتي ستتزيّن بها في العالم الآخر. أمّا الثالث فهو مسافر ينتظر طائرته وقد طلب مشروبًا وساندوتش قبل أن يلفظ أنفاسه بدقائق، ومن حوله يتناقش المسافرون والموظّف المسؤول حول مصير طلبه الآن، وخاصّة قد دُفع ثمنه مسبقًا "ولا يمكن أن نبيعه مرّتين" يقول كابتن الطائرة. 

في مشهد آخر من الفيلم، يرثي المخرج فكرة الموت الجماعيّ الّذي تمارسه الرأسماليّة على الشعوب الفقيرة، فنشاهد محرقة أسطوانيّة كبيرة كمحارق النازيّة، تقف حولها مجموعة من الجنود يجبرون أفرادًا ملوّنين عراة على الضرب بالسياط، في ما تقف مجموعة من البرجوازيّين يحتسون الشراب وهم يشاهدون النيران تُضرم أسفل المحرقة، الّتي كُتب عليها «Boliden» وهي شركة سويديّة كبيرة للتعدين تتعامل مع غير دولة. في فيلم «أن تعيش»" 2008، نرى مجموعة من المواطنين يجلسون خلف لوح زجاجيّ فاصل، ويحملون علب الفشار للتسلية أثناء مشاهدة تنفيذ حكم الإعدام بالكرسيّ الكهربائيّ في أحد الأفراد.

قد يأتي الموت في شكل معنويّ – أيديولوجيّ - على وجه التحديد، في «أغانٍ من الطابق الثاني» 2000، نتابع في أحد المشاهد المجتمع وهو يُدجّن عقل طفله، الكثير من الحضور يمثّلون طوائف المجتمع المختلفة؛ فهناك المعلّمة والأب والأمّ وجمهرة من المسؤولين والقادة العسكريّين، في ما يلقّنون الفتاة ما يجب فعله في الحياة، وتفخر المعلّمة بأنّ هؤلاء السادة قد قرؤوا كلّ الكتب؛ لذلك فإنّ خبرتهم لا غنى عنها. في المشهد التالي ينضمّ رجال الدين إلى المجموعة، إذ تجتمع البلدة كلّها تقريبًا - بموافقة الوالدين - ويلقون بالبنت في هوّة عميقة ككبش فداء لتأثير الجماعة في الفرد.

 

«حمامة وقفت على الغصن تتأمّل الوجود» 2014

 

بهذه العبثيّة تتعامل شخوص أندرسون مع الفقد، فليس إلّا البرود العاطفيّ والانفصال الشعوريّ عن الجميع، وهو ما يتّضح في علاقات الأزواج أو العشّاق أيضًا، فالزوج ينعى خسارته التجاريّة وهو يمارس الحبّ، وآخر تستجديه زوجته للعلاقة، حتّى الابن يجلس في لامبالاة بينما والده يشكو من احتراق تجارته، ويطلب منه التعاون كي يستمرّا.    

الوحدة أيضًا لها دور مهمّ في هذه السيمفونيّة؛ فالشخصيّات تصرخ طوال الوقت دون مجيب "لا أحد يفهمني. أنا وحيد. فقدت إيماني. أنا في حيرة ..."، وحين يعلن أحد المُسنّين حزنه بالبكاء في حافلة عامّة، ينهره الركّاب ويُبلغونه أنّ ذلك مكانه في المنزل لا وسط الناس.

 

الواقعيّة الفائقة

«أستوديو 24» هو المكان الّذي أنشأه أندرسون لخلق عوالم فائقة الواقعيّة كما يقول، وهو الدافع الحقيقيّ وراء شغفه بالتصوير الداخليّ، مُبتعدًا عن العالم الخارجيّ – الحقيقيّ - ربّما لكون العالم عنده أصبح أكثر حقيقيّة عمّا نعلم. من هنا، يتكرّر معظم مواقع التصوير في أفلامه، وفي العموم الحيّز المكانيّ في سينما محدود ما بين بار، وشقّة، ومستشفى، ومحطّة قطار أو شارع... كلّها نماذج عامّة وجافّة لا تحمل دفء خصوصيّة الفرد ووجوده بين الجماعة، لكنّها مفردات مألوفة في مشهد طويل وثابت ينتقل من فيلم إلى آخر.  

حين أدرك أندرسون صعوبة التعامل مع العالم الحقيقيّ، فضّل صُنع عالمه الخاصّ من خلال ديكورات مؤقّتة تُغيَّر وفق الأحداث - أو اللاأحداث لو توخّينا الدقّة - تدور بين الفناء والميلاد فُتظهر عظمة الحياة وتفاهتها في آن واحد؛ وهو ما راق المخرج نفسه، لذلك؛ فمعظم المشاهد عنده تسير وفق قانون الفنّ التشكيليّ، ولا سيّما وهو رسّام في الأساس، يأتي العمق في اللوحة البصريّة لديه من بعض الضوء أو ظلاله، أو حتّى بالرسم، قد تكون الخلفيّة في عمق المشهد مجرّد رسمة على حائط؛ الطرق الّتي استعملتها السينما في بواكيرها قبل اختراع الحيل والمؤثّرات والتقنيّات الرقميّة، وقد تكون مجاميع متكتّلة في الخلفيّة، أحيانًا قطع ديكور، وربّما ممرّ أو باب يمرّ من خلاله العابرون دون أن يكون لهم علاقة بالمشهد، هذه الحيوات المسكوت عنها تمثّل الصلة الرئيسيّة المشتركة للبشريّة جمعاء. رغم ذلك لم يتنازل مطلقًا عن العالم الواقعيّ؛ حيث يُفضّل الاستعانة بممثّلين غير محترفين في معظم الأوقات.

كشفت أفلام أندرسون عن صورة غير متوقّعة من آدميّة الكائن البشريّ، ربّما تحمل في جزء منها أبعاد الصورة الحقيقيّة لذواتنا أو لمناطق نفسيّة دفينة غير مأهولة لكلٍّ منّا؛ فأن تكون إنسانًا، معناه أن تكون المادّيّة القذرة قدرك الّذي يجعلك عالقًا في الأبديّة، ذاكرتك عن الأمس مشوّشة، وفي نفس الوقت لا تعلم عن الغد شيئًا، أمّا المُفجع حقًّا فهو أنّك لم تعش حتّى يومك.

 


 

وائل سعيد

 

 

 

 

كاتب وناقد سينمائيّ مصريّ، يكتب في عدد من المجلّات العربيّة، مدير تحرير «مجلّة الكرمة».