العلم الفلسطينيّ ملوّنًا كأس العالَم

علم فلسطين من مباراة تونس وأستراليا في نهائيّات «كأس العالم فيفا قطر 2022» | James Williamson - AMA/Getty Images

 

مقدّمة

يحاول الاحتلال الإسرائيليّ عبر كلّ مؤسّساته، وبأدوات مختلفة، أن يشوّه إدراكنا للهويّة الفلسطينيّة، من خلال سلسلة من عمليّات ’المنع والترويض‘، مثل مَنْع رفع العلم الفلسطينيّ، الّذي يمكن اعتباره رمزًا للحرّيّة والوحدة العربيّة، قبل أن يكون لونًا لأماني الشعب الفلسطينيّ بالحرّيّة والاستقلال. ومثل ذلك، مهاجمة الاحتلال لموكب جنازة الشهيدة شيرين أبو عاقلة، بسبب رفع علم فلسطين في القدس المحتلّة، الّتي يعتبرها الاحتلال إسرائيليّ عاصمةً له.

منذ انطلاق مباريات نهائيّات «كأس العالم فيفا قطر 2022»، كانت مطالبات عربيّة موجّهة إلى المنتخبات العربيّة المشاركة في «كأس العالم»، لوضع ’شارة فلسطين‘ على سواعد لاعبيها، تذكيرًا بالقضيّة الفلسطينيّة، في محاولة لإعادة إنتاج شكل الوجود المعنويّ والرمزيّ للقضيّة الفلسطينيّة عند الكلّ العربيّ، في الوقت الّذي تصاعدت فيه وتيرة ازدواجيّة معايير المجتمع الدوليّ، والشعوب الأوروبّيّة، في غزو روسيا لأوكرانيا، وحديث وزير الخارجيّة الروسيّ تبريرًا للغزو: "تخيّلوا أنّ روسيا هي إسرائيل، وأوكرانيا هي فلسطين".

 

لمحة سريعة: ولادة العلم الفلسطينيّ

بحسب المراجع التاريخيّة، تبنّى الشريف حسين ألوان العلم الفلسطينيّ "أخضر، أحمر، أبيض، أسود"، باعتبارها رمزًا لـ «الثورة العربيّة» عام 1916. لكن مع الغزو البريطانيّ للمنطقة، بدأ العلم يأخذ شكلًا مغايرًا للّذي كان فيه إشارة إلى الحركة الوطنيّة آنذاك، وبالتحديد في عام 1920، حيث فرضت سلطات الاستعمار البريطانيّ علمًا يمثّل فلسطين، فكان مستطيلًا أحمر اللون، وفي أقصى الزاوية اليسرى العلويّة كان علم بريطانيا، وفي أسفل الزاوية اليمنى كانت دائرة بيضاء، وبداخلها اسم «فلسطين» بالأحرف الإنجليزيّة، إشارة إلى الوصاية البريطانيّة على فلسطين.

لم يعترف الفلسطينيّون بهذا العلم، لا على المستوى الرسميّ، ولا الشعبيّ أيضًا، وكان هذا العلم مقتصرًا على المؤسّسات الحكوميّة التابعة للاستعمار، سواء كانت مؤسّسات مدنيّة، عسكريّة أو حكوميّة. ومع انتهاء الاستعمار البريطانيّ عام 1948، انتهى استخدام علم فلسطين الانتدابيّ.

 

مشجّع مغربيّ يقتحم ملعب مباراة المغرب وكندا حاملًا علم فلسطين

 

بالعودة إلى عام «ثورة البراق» 1929، وبالتحديد في 20 تشرين الأوّل (أكتوبر)، نشرت «جريدة فلسطين» في صفحاتها الأولى عنوان: «علم ونشيد... اقتراحان». وهذا يدلّل على تنامي الحسّ الوطنيّ الفلسطينيّ، الّذي تبلور باقتراح فكرة العلم الفلسطينيّ بالألوان الخمسة، أحمر وأبيض وأخضر وأسود وبرتقاليّ. ويعود سبب اقتراح اللون البرتقاليّ إلى شهرة فلسطين بزراعة البرتقال. إضافة إلى اقتراح آخر تمثّل في إضافة صليب وهلال، تيمّنًا بالهويّة الدينيّة لفلسطين ’الإسلاميّة- المسيحيّة‘. إضافة إلى الحاجة للنشيد الوطنيّ الّذي يمثّل فلسطين وثوراتها الفلّاحيّة ضدّ الاستعمار.

استخدم الفلسطينيّون في «المؤتمر الفلسطينيّ» الّذي عُقِد بغزّة في عام 1948، علمًا بأربعة ألوان ‘الأبيض، والأحمر، والأخضر، والأسود‘، واعترفت به «جامعة الدول العربيّة». وفي عام 1964 وضع «المجلس الوطنيّ الفلسطينيّ» ميثاقه القوميّ، ونصّت المادّة 27 على "أن يكون لفلسطين علم وقسم ونشيد، وكانت ألوانه بالترتيب "أخضر فأبيض، ثمّ أسود مع مثلّث أحمر"، ليصبح هذا العلم شعار «الثورة الفلسطينيّة» في عام 1965، ولتتبنّاه «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» في عام 1988. لاحقًا، وضعت اللجنة التنفيذيّة لـ «منظّمة التحرير» نظامًا خاصًّا يحدّد مقاييس العلم وأبعاده.

 

علم الكلّ العربيّ 

يحضُرُ العلم الفلسطينيّ في صور المعاناة الفلسطينيّة المتعدّدة، والّتي يعبّر عنها الفلسطينيّ بمقاومته ونضاله ضدّ الاستعمار الإسرائيليّ، سواء عبر أفراحه، أو أحزانه بأسره، وإصابته، وموته، وفي هذا إشارة إلى إعادة تشكيل الحياة عند الفلسطينيّ، بمشاهدات عينيّة وشعاراتيّة، تُسْتَخْدَم أثناء رفع العلم. هذه قيمة المنظور الجماليّ لرفع العلم؛ إذ يعبّر عن الكلّ الفلسطينيّ، ويتجاوزه إلى الكلّ العربيّ، معيدًا بناء الذات العربيّة صوب القضيّة الفلسطينيّة، من خلال تتبّع سرديّات رفع العلم، سواء في تشييع جثامين الشهداء، أو في استقبال الأسرى لدى تحرّرهم، أو حتّى في الأفراح الفلسطينيّة وغيرها من مناسبات.

 

لاعب المنتخب المغربيّ جواد الياميق يرفع علم فلسطين بعد فوز المغرب على كندا 

 

هذه الذائقة الوطنيّة الّتي تعتمد على المخيّلة الاجتماعيّة، يتخلّلها خطاب يمثّل الكلّ العربيّ، سواء بحضورهم الحسّيّ، أو شموليّة غيابهم. وفي هذا تذكير للكلّ أنّ رفع العلم الفلسطينيّ في مناسبات كرويّة، تعني أنّ الشعوب العربيّة ترفض الاحتلال، على الرغم من تطبيع الأنظمة العربيّة مع ’إسرائيل‘، وأنّه لا يمكن أيّ اتّفاقيّة سلام، أن تتجاوز اللونين الأحمر والأخضر؛ فما زال رفع العلم يعيد إنتاج الذات العربيّة صوب الأرض، ومكانة فلسطين السامية عند الشعوب العربيّة، انطلاقًا من مفهوم الارتباط والانتماء والهويّة، وهو خطاب موجّه ليس فقط إلى الاستعمار، وإنّما أيضًا للأنظمة العربيّة الاستبداديّة القامعة لإرادة شعوبها، الّتي تُمِدّ في عمر الاستعمار أكثر فأكثر. لذلك نرى في رفع العلم الفلسطينيّ في «كأس العالم فيفا قطر 2022»، معنًى انقلابيًّا على الانتكاسة السياسيّة الّتي تعيشها الأنظمة العربيّة في خضوعها للنظام العالميّ، الغربيّ بالأساس، ومحاولة عزل الجماهير العربيّة عن السياق الثوريّ الفلسطينيّ، واختزالها في الطبقة البيروقراطيّة، باعتبارهم مثقّفين محافظين. إلّا أنّ مدرّجات الملاعب القطريّة تقول إنّنا كلّنا في معركة وجوديّة داخل سياق استعماريّ مركّب.

 

المجرم يعيش دور الضحيّة

تصاعدت الازدواجيّة الأوروبّيّة، عندما أصبحت السياسة معهم لا ضدّهم؛ فمع بدء الغزو الروسيّ لأوكرانيا، ظهرت المطالبات الأوروبّيّة الّتي تنادي بوقف الغزو لبلد أوروبّيّ، وتعالت الأصوات الّتي ظهرت معها العنصريّة المقيتة بشقّيها المعنويّ والمادّيّ، إلى خطاب شعبويّ صنّف العالم إلى "نحن، وهم". ظهرت ملامح هذه الازدواجيّة أيضًا في الأصوات الّتي انتقدت قطر لمنعها رفع علم «مجتمع الميم» في «كأس العالم فيفا قطر 2022»، إضافة إلى الأصوات الّتي اتّهمت الدوحة بعدم احترامها لحقوق الإنسان، إضافة إلى الانتقادات الّتي ركّزت خطابها على ’البدائيّة العربيّة‘ في قطر.

يتيح هذا النوع من الخطاب الأوروبّيّ، الّذي تنتجه طبقات حاكمة تتبنّى أساليبًا ديماغوجيّة لإقناع المجتمعات واستمالة عواطفها لقضايا تتيح الحياة لقوميّة وهويّة على حساب قوميّة وهويّة أخرى. يمكن تتبّع هذا النمط في معاقبة الفيفا لمَنْ يُدخل القضايا السياسيّة في الرياضة ويُعبّر عنها؛ فالكثير من اللاعبين العرب عوقِبُوا لإقحام السياسة في الرياضة، إلى أن جاء الغزو الروسيّ لأوكرانيا، حتّى تحوّلت كرة القدم إلى قاعة أمميّة، تتيح للبيض التعبير عن قضايا سياسيّة تعنيهم، على حساب قضايا منطقة الشرق الأوسط. وتحوّل الممنوع في الرياضة، إلى واجب والتزام عندما أصبحت القضيّة مع أوروبّا لا ضدّها. في السياق نفسه، علت الأصوات العربيّة لردع ازدواجيّة المعايير البيضاء، وبدأت المدرّجات في ملاعب قطر ترفع أعلام فلسطين، إلى أن تحوّلت القضيّة من «الدين أفيون الشعوب» إلى «كرة القدم أفيون الشعوب»، باعتبارها أداة من أدوات الدبلوماسيّة الشعبيّة، الّتي دائمًا ما تفشل إسرائيل في السيطرة عليها.

 

«كأس العالم فيفا قطر 2022» يتجاوز خيباتنا

إنّ اجتماع الشعوب العربيّة على مشاهدة كأس العالم، وفرحها في تسجيل انتصارات داخل الملاعب، يعمل على تحسين المزاج القوميّ نوعًا ما، بسبب خيباتنا المستمرّة وهزائمنا المتراكمة خارج الملاعب. لا تنبع رغبتنا  في أن تفوز إحدى الدول العربيّة المشاركة في النهائيّات على منتخب أوروبّيّ، من بُعدنا القوميّ وهويّتنا العربيّة، وإنّما أيضًا من المواجهة المضنية بيننا وبين العالم الغربيّ عمومًا، في ساحات الهويّة والسياسة والجغرافيا؛ فمن الصور النمطيّة الغربيّة عن شعوب المنطقة العربيّة، تتشكّل من أنّها شعوب همجيّة ما زالت تركب الجمال، وتعيش في خيم مهترئة.

 

علم فلسطين من مدرّجات مباراة تونس وأستراليا

 

لم يجتمع العرب قطّ في مواقفهم الواقعيّة إلّا في اللغة، أو في قاعة «جامعة الدول العربيّة»، لكنّ الشعوب العربيّة تجاوزت كلّ هذا، واجتمعت على مشاهدة «كأس العالم فيفا قطر 2022»، وقد رافقتها مشاعر الوحدة العربيّة والقوميّة الّتي ما زالت خاملة في عقلنا الباطن. كلّ هذا يُعَزّز من خلال رفع العلم الفلسطينيّ، برمزيّته الكثيفة الرافضة للاستعمار. تستند الهويّة العربيّة الحاضرة في «كأس العالم» من أصالة الفلّاح العربيّ وارتباطه بأرضه، ورفضه لكلّ أيديولوجيّات الدول الاستعماريّة الّتي أعادت إنتاج نفسها وأصبحت تطالب اليوم بالديمقراطيّة وبحقوق الإنسان.

 

خاتمة

أثبتت الجماهير العربيّة في مباريات «كأس العالم»، أنّ المدرّج العربيّ لا يسعه التفكير إلّا في فلسطين. حتّى لو تراكمت القضايا، وازدادت المنطقة في الانكماش حول قضاياها الاجتماعيّة والسياسيّة، يبقى العلم الفلسطينيّ حاضرًا، عاكسًا صورة الموت من فلسطين إلى قطر، إلى شاشات العالم أجمع، في فعل يشير إلى أنّ ’إسرائيل‘ منبوذة عربيًّا، وكذلك أوروبّا بمعاييرها المزدوجة. العلم منّا نحن الفلسطينيّين، ونحن من العرب، وهذا الهتاف الّذي يقول "بالروح بالدم نفديك يا فلسطين" من «ستاد 974» أو «ستاد البيت»، يُحيي داخلنا القوميّة العربيّة مجدّدًا، الخالية من كلّ الأيديولوجيّات الّتي عزلت الشعوب العربيّة عن بعضها بعضًا.

 


 

أحمد بسيوني

 

 

 

كاتب فلسطينيّ، درس ماجستير «العلوم السياسيّة والعلاقات الدوليّة» في «معهد الدوحة للدراسات العليا». ينشر مقالاته في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة، شارك في إنتاج عدد من الأفلام الوثائقيّة مع «التلفزيون العربيّ».