’بلا وطن‘ في شارع العرب

«شارع العرب»، برلين

 

يجعل المغترب من المكان ملكيّة خاصّة له، إلى درجة أن يسمّيه بلقبه؛ لأنّه يعكس ويعيش ويمارس هويّته وذاتيّته فيصنع منه، مهما كانت قوانينه وسياسته؛ بيته ومدينته، رغم البعد عن أرض الوطن. وذلك ما ينطبق على «زقاق الشمس»، الشارع الّذي يقع في برلي، ويُطلق عليه العرب المغتربون في ألمانيا «شارع العرب». لا ترتبط هويّة المكان بموقعه الجغرافيّ كما يرتبط به قاطنوه، بطريقة ممارسة الحياة، وسُبل التجربة والتجسيد في الحياة المعيشة.

 

زقاق الشمس... شارع العرب

كان يومًا مشمسًا، وقرّرت أن أتمشّى على طول الشارع. الشارع عشوائيّ ومكدَّس بالناس، لا أسمع سوى اللغة العربيّة باللهجات الشاميّة المتعدّدة، ويغلب عليها اللهجتان الفلسطينيّة والسوريّة. ملامح الشارع وهويّته عربيّة، تشبه الكثير من معالمه وتفاصيله بلادنا، وشعرت، عندما خطوت فيه لأوّل مرّة، كأنّني أتمشّى في حَواري المخيّم، وأرى وجوه جيراني المألوفة، وكأنّني مسكت يد أمّي خجلًا وخوفًا من النظرات حولي.

الشارع عشوائيّ، حيث تجد محلّات الملابس، والمطاعم، ومحلّات الخضار والفواكه، والكافيهات واستراحات الأرجيلة، ومحلّات الأدوات المنزليّة بجانب بعضها بعضًا. أسماه العرب «شارع العرب»؛ لأنّ أغلب المحلّات التجاريّة والمطاعم عربيّة الهويّة والثقافة. كُتِبَتْ أسماء المحلّات باللغة العربيّة؛ فمنها ما سُمِّي بالدمشقيّ، وفيروز، وأمّ كلثوم، والأمانة، وغيرها الكثير من الأسماء. وتفوح في الشارع رائحة الفول والفلافل ومناقيش الزعتر والكنافة والقهوة العربيّة. لكنّ أكثر مظاهر هذا الشارع لفتًا للنظر، الكتابات والملصقات على الجدران ونوافذ المحلّات الّتي غلبت عليها اللغة العربيّة، كأنّ الشارع أشفى حنيني؛ لقراءة لغتي في كلّ مكان؛ فأصبحت أقرأ الأسماء بصوت عالٍ دون وعي منّي.

عندما نزلت من محطّة القطار «هيرمن»، الواقعة بالقرب من الشارع، وجدت حائطًا عريضًا في مركز ساحة المحطّة، عليه رسمة لحنظلة وكتابات عن فلسطين، ثمّ قطعت الشارع، ورأيت اسمه «Sonnenallee»، مكتوبًا على لوح صغير معلّق على عمود كهربائيّ. يعني الاسم باللغة العربيّة «زقاق الشمس»، وبالإنجليزيّة (Sun Alley). تحت اسم الشارع بالألمانيّة وجدت ملصقًا صغيرًا يقول: (Free Palestine)، أي ’فلنحرّر فلسطين‘.

 

 «شارع العرب»، برلين

 

يعبّر الملصق عن رمزيّة الشارع، والّذي يصرخ ثورةً ضدّ محاولات السلطات الألمانيّة في قمع الصوت الفلسطينيّ وتجريمه، ضدّ الاستعمار الاستيطانيّ. فالشارع وجهة مباشرة للبوليس الألمانيّ الّذي ينتشر بأعداد كبيرة من المركبات البوليسيّة، كلّما هبّت مظاهرة لدعم فلسطين، أو جرى احتفال ما مثل الاحتفال بفوز المغرب والسعوديّة خلال مباريات كأس العالم.

 

السياسات الألمانيّة المعادية لفلسطين

قبل الاتّحاد، كانت حدود ألمانيا الشرقيّة والغربيّة تتقاطع في هذا الشارع. وبالرغم من تاريخ ألمانيا العنصريّ والإجراميّ ضدّ الأقلّيّات، ومحاولات السلطات الحاليّة في إصلاح تلك النقطة السوداء في تاريخها عن طريق الترحيب باللاجئين، وتوفير مساحة حرّيّة لهم، إلّا أنّها تستثني الفلسطينيّين من تلك المساحة؛ فالحكومة الألمانيّة تعمل جاهدة لتقييد الصوت الفلسطينيّ بكلّ السبُل. إذ بدأت الحكومة منذ أشهر قليلة فقط، بالعمل على إصدار قانون جديد يحثّ على تجريم النشاطات الداعمة لفلسطين، عدا الممارسات الّتي بالأصل كانت موجودة باتّهام الفلسطينيّين بتهمة معاداة الساميّة؛ لمجرّد التحدّث عن القضيّة بشكل لا يمسّ بالأساس بالديانة اليهوديّة، وإنّما انتقاد وإنكار للجرائم الصهيونيّة الممنهجة ضدّ الشعب الفلسطينيّ.

علاوة على ذلك، لا تعترف ألمانيا بفلسطين دولةً، وبالرغم من عدم اعتراف الكثير من الدول الأوروبّيّة وغيرها بفلسطين، لكنّ عدم الاعتراف الألمانيّ يحمل توجّهًا عنصريًّا واضحًا وحادًّا، مستندًا إلى إستراتيجيّة الجهل المتعمَّد تجاه الفلسطينيّين.

 

 «شارع العرب»، برلين

 

حين ذهبت إلى تسجيل سكني في برلين، سألني الموظّف من أين أنا، فأجبته أنّني من: "Palestine" (فلسطين)، فكتب "Pakistan" (باكستان). وعندما أراد التأكّد من المعلومات صحّحت له اسم الدولة، وكتبت له "Palestine"، فردّ: "Oh, you mean Palästina?"، أومأت برأسي للتأكيد؛ فذهب إلى مشرفه، وجاء ليقول لي إنّه يأسف بأنّه لا توجد دولة بهذا الاسم.

كيف ناقض نفسه؟ ما الّذي أجبره على أن ينكر أصلي وهويّتي وبلدي؟ فأكمل حديثه قائلًا: سوف ندرجكِ تحت قائمة الأشخاص البدون ’Stateless‘، أي ’بلا وطن‘. لأوّل مرّة أشعر ببدني يهتزّ بقشعريرة حادّة، وشعرت بأنّ أحدًا جرّدني من ذاتي وهويّتي بكلّ برود وجبروت وقسوة، كأنّ أجدادي لم يكونوا، وكأنّ تاريخ بلادي كان كذبة. شعرت بالإهانة، لكنّي التزمت الصمت، لم أتجاوب معه لمعرفتي بأنّي لن أصل إلى أيّ حلّ معه، وأعلم أنّه سيردّ عليّ بالقول إنّ القرار ليس بيده. ولم أكن وحدي مَنْ يمرّ بهذه التجربة، بل جميع الفلسطينيّين في ألمانيا.

 

الجالية الفلسطينيّة في برلين

تحتوي برلين على أكبر جالية فلسطينيّة مغتربة خارج الوطن العربيّ، وجميعهم يُجْبَرون على تفسير أصولهم في كلّ مرّة يُسألون عن بلدهم الأصليّ، كأنّهم لغز أو كائنات معقَّدة تحتاج دائمًا إلى التوضيح. ذهبت إلى مطعم فلسطينيّ، وكان مزدحمًا بالناس وخاصّة الألمان، عندما أنهيت وجبة المسخّن الفلسطينيّة الشهيّة، جاء عامل في المطعم ليطلب منّي أن أقيِّم المطعم بجملة واحدة فقط، وهي: هذا المطعم يقدّم أكلات من التراث الفلسطينيّ. هدفه فقط أن يُذكّر الألمان بأنّ ثمّة دولة اسمها فلسطين، لها تاريخها وعاداتها وطعامها. عندما سألته إذا كان يرى في ذلك ممارسة لفلسطينيّته بالغربة، ردّ عليّ: "أنا هيك بقاوم وبحافظ على هويّتي الفلسطينيّة، أنا كتبت على قائمة الطعام إنّه هالطبق فلسطينيّ عشان أستفزّ تجاهلهم المقصود عن قضيّتنا، وعشان أأكّدلهم إنّه فيه وطن مسلوب اسمه فلسطين".

وفي محادثة أخرى مع امرأة فلسطينيّة من نابلس، تعيش في برلين، قالت لي - بشغف وفرحة وعينين مشرقتين - إنّها تسلّمت إقامتها، وكان مكتوبًا في خانة بلدها الأصليّ: الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة. منذ أربعة أعوام، من بداية منفاها، لم تشعر بالتقدير والاعتراف بها فلسطينيّة، إذ أصبح أن ترى فلسطين اسمًا لبلدك الأصليّ كأنّه تحقيق لحلم في برلين. لكن، رغم فرحتها بهذا الاعتراف، فهي تعتقد أنّه قد يكون خطأً من «دائرة شؤون الهجرة الألمانيّة»، وأنّها إذا أرادت تجديد إقامتها فسوف يعدّلون الخطأ، ويكتبون ’بلا وطن‘.

 

شارع الغرافيتي

بالعودة إلى «شارع العرب»، فحين تمشون في الشارع ترون جدرانه ونوافذه وأبوابه تتضامن مع فلسطين؛ فمثلًا، ثمّة بالخطّ الأحمر العريض كلمة ’قاوم‘، وجملة الشهيد باسل الأعرج المشهورة: "المقاومة جدوى مستمرّة"، و"Zionism is racism"، أي الصهيونيّة عنصريّة، و"الحرّيّة لغزّة"، و"حيفا أحلى من برلين"، وصورة لفلسطين باللون الأحمر، تتخلّلها كتابة باللون الأسود العريض تقول: "لن نتخلّى عن فلسطين"، و"المجد للمقاومة في غزّة"، وغيرها الكثير.

لكن أن تجد كتابات تحثّ على المقاومة المسلّحة، مثل عبارة تقول: "المجد للطلقة والموت لإسرائيل"، فهي تمثّل قمّة الجرأة في ظلّ سياسات الحصار على الصوت الفلسطينيّ، وفي ظلّ حساسيّة تاريخ ألمانيا النازيّ تجاه اليهود. فعبارة بهذه الحدّة قد تؤدّي إلى السجن؛ لأنّها تشكّل في القاموس الألمانيّ نفي لوجود ’الدولة الإسرائيليّة‘، وتحفيز على ارتكاب الجرائم ضدّ ’اليهود‘.

 

 «شارع العرب»، برلين

 

كتبت جولي بيتيت مقالًا عن الغرافيتي والكتابة على الجدران خلال الانتفاضة في الضفّة الغربيّة؛ ضمن نتاج ثقافيّ فلسطينيّ، وبوصفه وسيلة مقاومة ضدّ سياسات الاحتلال المستمرّة، فأعربت عن رأيها في أنّ الكتابة على الجدران ليست فقط مظهرًا من مظاهر التحدّي وعدم الخنوع، بل إنّ هذه الكتابات تحمل (Agency)، أي إرادة قوّة للإطاحة بالتسلسل الهرميّ في السلطة. وأكملت قائلة بأنّها ترى في الكتابات تعبيرًا عن الأصوات الفلسطينيّة في المقاومة خلال الانتفاضة، واعتبرتها وسيلة لتحدّي عجز الاستعمار في المراقبة والسيطرة على كلّ مكان؛ فالكتابة على الجدران تعتبر صوتًا لمن لا صوت له؛ إذ تقول: "بهذا المعنى، أخذت الغرافيتي موقعها ضمن أشكال المقاومة الأخرى؛ إذ كوّنت صوتًا لمَنْ لا صوت لهم على المسرح الدوليّ".

 

الكتابة على الجدران بوصفها مقاومة

خلال حديث مع عامل في مقهًى في «شارع العرب»، سألته: مع كلّ محاولات الحكومة الألمانيّة في قمع المظاهرات الفلسطينيّة باستخدام القوى البوليسيّة، كيف تستمرّون في إظهار صوتكم؟ فأجابني بلهجة فلسطينيّة ولبنانيّة: "نتظاهر على الحيطان"؛ فالكتابة على الجدران كما يفهمها مظهر من مظاهر العصيان والثورة، والتظاهر ضدّ أساليب القمع الألمانيّة.

لا يخلو الشارع أيضًا من الملصقات واليافطات الّتي تتحدّث عن حقوق الأسرى، وتنعى الشهداء، وتذكر الأبطال؛ فمن الملصقات الّتي استوقفتني تقول: "هناك، خلف القضبان، حيث يتوقّف الزمن، وتبقى الفكرة، تدقّ الجدران لتنبت من صبره في قلوبنا ثورة"، مع صور للأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال. فقضيّة الأسرى من أكثر القضايا الّتي يُتظاهَر من أجلها في برلين، سواء على الجدران أو نوافذ الكافيهات أو  في الشارع.

 

 «شارع العرب»، برلين

 

لا يتوقّف الفلسطينيّون عن الحديث عن وطنهم وحقّهم وشعبهم، حتّى في المنفى؛ فالمقاومة بكلّ أشكالها أسلوب حياة للفلسطينيّين في فلسطين المحتلّة وفي الشتات، هي سعي وعمل أدائيّ (Performative) مستمرّ لإثبات الوجود الفلسطينيّ، ورفض لكلّ مظاهر الظلم تجاه قضيّته. وبذلك لا أعني خلق مظهر رومانسيّ للمقاومة في حياة الفلسطينيّين، بل هي جدوى لا بدّ منها؛ لأنّ فلسطين هي الحقّ والماضي والمستقبل الوحيد، كما قال غسّان كنفاني.

 


 

هديل لوز

 

 

 

باحثة فلسطينيّة من قطاع غزّة، طالبة دكتوراه في الأنثروبولجيا الاجتماعيّة، في «جامعة سانت آندروس» البريطانيّة.