أحاديّة جسد الحيّ/ ة - الميّت/ ة في كاريكاتير الثّورة/ النّكبة السّوريّة

رافق الثّورة/ النّكبة السّوريّة كمٌّ هائلٌ من الأعمال الفنّيّة الكاريكاتوريّة لفنّانين/ ات سوريّين/ ات، وغيرهم/ نّ، بهدف التّعبير عن رفض الظّلم والقتل السّائدين فيها بين جميع الأطراف المتنازعة. ترد هذه الأعمال في عدّة مواقعَ إلكترونيّةٍ متفرّقةٍ، وقد حُفظ قسمٌ كبيرٌ منها في موقع 'الذّاكرة الإبداعيّة للثّورة السّوريّة'. يهدف الموقع إلى تجميع وتركيز و'توثيق كلّ أشكال التّعبير الفكريّة والفنّيّة في زمن الثّورة'.[1] في هذه المقالة، أستعرض جزءًا من رسومات الكاريكاتير الّتي وردت في الموقع  السّنة الأخيرة، 2015 و2016، مُركّزةً على تمثيل جسد السّوريّ/ ة الحيّ/ ة والميّت/ ة فيها.

كان للجسد دومًا حضورٌ في الأعمال الفنّيّة، كونه يشكّل وسيلةً و/ أو مادّةً تهدف لإيصال معنًى/ معاني من خلال جدليّة العلاقة بين الواقع والتّمثيل. في الكثير من الأعمال، يعبّر الجسد عن العلاقة بين الجسد والذّات والسّلطة، ويُستخدم مادّةً لإعادة صياغة العلاقة مع النّظام المجتمعيّ – السّياسيّ، أو التّحرُّر منه.[2]  

تفكيك الجسد

إنّ أوّل عملٍ يظهر في الموقع، وهو بهذا يكون آخر عملٍ حُمّلَ حتّى اليوم، عملٌ لفراس باشي بعنوان 'انقطعت الكهرباء'[3] (5/2/2016)، وفيه تتدلّى مصابيحُ إنارةٍ مكسورةٍ، مُطفأةٌ، تمشي تحتها مصابيحُ فيها العقول 'النّيّرة'، مُنارةٌ. كلّ مصباحٍ منها يمشي حاملًا عصا على كتفه الأيسر، وبنهايته كيس أمتعته/ ا. في الخلفيّة عمارات مدينةٍ مظلمةٍ، وسماءٌ بأطيافٍ رماديّةٍ عدّةٍ.

يمثّل عمل فراس باشي مجموعةً من الأعمال الّتي فكّكت الجسد وركّزت على جزءٍ منه، تمثيلًا للجسد السّوريّ الكلّيّ. العقول السّوريّة تهاجر قسريًّا لتترك وطنًا مظلمًا تحكمه العقول المظلمة. إنّ إظهار جزءٍ من الجسد مُمَثِّلًا لكلّيّة الجسد السّوريّ، أمرٌ يظهر في أعمالٍ عديدةٍ أخرى، لكنّها أقلّيّةٌ،[4] فغالبيّة الأعمال تُظهر جسدًا كاملًا أو قسمًا منه، علويًّا أو سفليًّا كاملًا.

'انقطعت الكهرباء' لفراس باشي

دول العالم

بمعاينة أعمال كاريكاتير الشّهر الماضي، أي كانون الثّاني (يناير) 2016، يمكن ملاحظة أنّ غالبيّة الأعمال تتمحور حول محادثات 'جنيف 3' والمعاناة السّوريّة المستمرّة في ظلّها، والاتّحاد الرّوسيّ الإيرانيّ واللّعب/ التّلاعب بالسّلطة السّوريّة خدمةً لمصالحها، والجوع في مضايا وفي سوريّة بعامّةٍ. في الكثير من هذه الأعمال يتمثّل العالم بواسطة جسدٍ ضخمٍ سمينٍ دون ملامحَ أو بملامحَ أحاديّةٍ، يظهر كاملًا لابًسا بدلةً رسميّةً رماديّةً أو سوداءَ. مثالٌ على ذلك تجسيد المجتمع الدّوليّ في عملين لبلال موسى، 'بدون عنوان' (19/1/2016) و'عن جنيف' (5/2/2016).

'عن جنيف' لبلال موسى

أمّا في حال التّعبير عن كلّ دولةٍ على حدةٍ، فيكون الجسد دومًا كاملًا، يلبس لباسًا يدلّ على هويّته، وتكون تعابير وجهه بارزةً، تشبه حدّ التّماثل ملامح رئيسها، كما في العمل 'جنيف 3' لياسر أحمد (29/1/2016)، و'مؤتمر جنيف 3' لأحمد رحمة.

وجوه الرّؤساء وممثّلي العالم فيها تعابير شرٍّ، وكثيرًا ما يظهرون بأجسادٍ قريبةٍ جدًّا من بعضها، متراصّين ككتلةٍ واحدةٍ أمام السّوريّ الوحيد الّذي في الغالب يكون رجلًا تَعِبًا، مثلما يظهر في عمل 'حرّيّة' لهاني عباس (1/2/2016)، و'الشّعب السّوريّ... جنيف' لجواد مراد (27/1/2016).

الأجساد السّوريّة تتمثّل بأجسادٍ تَعِبَةٍ صغيرةٍ وقصيرةٍ، أنهكها الجوع والحصار لتصبح هزيلةً، وحيدةً، باردةً، كما في 'حصار مضايا' لكارلوس لطّوف (20/1/2016)، و'الجياع المحاصرون في سوريا' لأميمة جحا (22/1/2106).

ظهور جسد السّوريّ/ ة وحيدًا/ ةً أمام تكثيف جسد العالم في جسدٍ واحدٍ كبيرٍ، أو في أجسادٍ متراصّةٍ، ما هو إلّا دلالةً على أنّ العالم ذو ذهنيّةٍ واحدةٍ تسعى إلى فرض سيطرتها على جسد السّوريّ/ ة، من خلال فرض سيطرتها على قطعةٍ من موارده.

'إلى روح شهيد سوريا وفلسطين ناجي الجرف' لهاني عبّاس 

جسد المرأة

تظهر المرأة في عددٍ قليلٍ جدًّا من هذه الأعمال، وتكون في غالبيّتها العظمى بجسدٍ محجّبٍ، ضعيفٍ، وغالبًا ما يكون معها طفلها/ أطفالها؛ كما تظهر يائسةً حزينةً أمام صمت العالم، كما في الأعمال 'أهل الكرم جاعوا'،  و'واسوريااااه' لحسام سارة.

لا تظهر امرأةٌ في محور 'الشّرّ'، إنّما في محور الضّحيّة فقط، ما عدا في عملٍ واحدٍ لسعيد حجّو، عنوانه 'يتحاورون فيما بينهم' (1/10/2015)، إذ تظهر فيه امرأةٌ عاريةٌ، لكنّها هنا ليست سوريّةً، فالمرأة شقراءُ، وتشكّل جزءًا من المؤامرة والمجتمع الدّوليّ الغربيّ، وتسبح في حمّام الدّم مع بشّار الأسد وأوباما.

الجسد العاري

الدّم الأحمر يظهر في الكثير من الأعمال علامةً على الجريمة والموت. أجساد الأطفال الذّكور، في الغالب، ضعيفةٌ وهزيلةٌ، ودون ملابسَ، لإظهار ما فعل بها التّجويع والحصار؛ أمّا أجساد البنات الإناث، فمغطّاةٌ بملابسها.

إنّ تعرية الجسد تهدف إلى لكشف عمّا حلّ به إثر الحصار والتّجويع، وهو ثيمةٌ واضحةٌ ومتكرّرةٌ في الكثير من الأعمال. تعرية الجسد أمام العين المبصِرة يهدف إلى أن تخترق الفكرة جسد وذهن المتلقّي/ ة، ولتخترق عينه/ ا، هو/ هي جسد السّوريّ/ ة.

الجسد الميّت

لجسد السّوريّ/ ة الميّت/ ة حضورٌ في عددٍ من الأعمال الّتي وردت في العامين 2015 و2016. في بعض الأعمال يظهر جسد الميّت على شاكلة هيكلٍ عظميٍّ كاملٍ أو جزءٍ منه، وغالبًا ما يكون هذا الجزء الجمجمة، تعبيرًا عن موت الجسد كلّه.

خلافًا لجسد السّوريّ/ ة الحيّ/ ة، يُكَثَّفُ الموت في حالة جسد الميّت /ة من خلال رسم عدّة جماجمَ أو هياكلَ ميّتةٍ أمام أو تحت جسد المجتمع الدّوليّ الحيّ، الأبيض والسّمين. مثال ذلك عمل 'ضدّ حصار الجوع' لعلي الحمر (6/1/2016). فإن كانت للحيّ/ ة وحدةٌ، ثمّة كلّيّةٌ للموت والميّت/ ة.

إنّ تكثيف الموت من خلال رسم عددٍ كبيرٍ، ومتراصٍّ، ومتشابهٍ حدّ التّماثل، يعبّر عن أحاديّة جسد الميّت/ ة أمام القتل والجوع، وعن تحويل جسد السّوريّ/ ة إلى شيءٍ Object للقتل. من خلال هذا التّكثيف تُلغى الذّات Subject، ويُحَوَّلُ كلّ جسد سوريٍّ/ ةٍ إلى شيءٍ معرّضٍ لفتك النّظام، والتّنظيمات، والأنظمة المحلّيّة والدّوليّة.

تحويل جسد السّوريّ/ ة الميّت/ ة إلى أحاديّ البعد، يجعله ممثّلًا لكلّيّة وشموليّة الموت في سوريّة. يأتي هذا التّكثيف في استخدام صورٍ حقيقيّةٍ لأجساد سوريّين/ ات أحياءٍ - أمواتٍ، عُرِّيَ غالبيّتهم/ نّ في عمل 'تُحَفُ بشّار الأسد' لدزوار إبراهيم سيرجي (12/1/2016)، والّذي رُسم فيه بشّار الأسد في المنتصف، وهو يشير بكلتا يديه إلى لوحاته من حوله، وفيها صورٌ لأطفالٍ جياعٍ اقتربت أجسادهم من أن تكون هياكلَ.[5] في هذا العمل وغيره من الأعمال الّتي ترسم الجسد في حالة هيكلٍ لسوريٍّ/ ةٍ، يمكن رؤية الكسر لثنائيّة الحياة والموت، وتحويل جسد السّوريّ/ ة إلى حيٍّ/ ةٍ ميّتٍ/ ةٍ في ذات اللّحظة.

إن نظرت إلى هذه الأعمال، يصعب عليك التّفرقة بين كون الجسد حيًّا أم ميّتًا. في هذه الحالة البينيّة، يكون الجسد تحت سيطرة الحاكم، سواءٌ كان النّظام، أو الأنظمة، أو التّنظيمات، والّتي تتجسّد بجسدٍ واحدٍ سمينٍ وشَبِعٍ، تختلف فيما بينها بغطاء جسدها، أي لون جلدها ولباسها المُخاط. يكون الجسد في حالةٍ ثالثةٍ من حياةٍ - موتٍ مكشوفين Bare life-death.

'تُحَفُ بشّار الأسد' لدزوار إبراهيم سيرجي

الجسد غير المرئيّ

في بعض الأعمال ثمّة استحضارٌ للميّت/ ة وجسده/ ا، لكنّه غير مرئيّ. لقد صاغت النّكبة السّوريّة مجتمعًا ميّتًا 'متخيّلًا' ت/ ينتمي له كلّ من فُقد/ ت تحت الأنقاض أو في عرض البحر ولم يُعثر عليه/ ا. هذا 'المجتمع المُتخيّل' عُبّر عنه بعددٍ من الأعمال، أبرزها '2015 فقط في سوريا' لكاميران شمدين (28/12/2015)،[6] يظهر فيه بابا نويل في قاربٍ وحيدًا، محاطًا بعجلات النّجاة الفارغة الّتي تنتظر من تُنقذه؛ لكنّ الرّسمة تعبّر عن بحرٍ ابتلع بشرًا ليكون الموت بدون جسد، بدون ذات.[7] أمّا أجساد الأموات غير المرئيّة، والّتي تتعالى منها الأرواح، فترد في عملٍ واحد لفراس باشي، بعنوان 'وصلت الشّحنة' (29/8/2015)؛ في هذا العمل فقط ترد ثنائيّة الرّوح والجسد.

الجسد ذو الهويّة الذّاتيّة

الجسد الأحاديّ ذو الهويّة الذّاتيّة الّذي يرد ذاتًا subject، يظهر في البعض القليل جدًّا من الأعمال، أبرزها تلك الّتي رسمت الطّفل إيلان على قمرةٍ في عدّة حالات. تارةً يأتيه من الخلف بابا نويل، وتارةً تقف حيوانات البحر باكيةً أمامه، وتارةً أمام بحرٍ من اللّاجئين، وتارًة يسحب من تحته الرّجل الغربيّ الأبيض السّمين السّجادة الحمراء، أو يسأله رجلٌ: 'بتفضّل ألمانيا أو السّويد؟!' أو أمام قبرٍ كُتب عليه 'الضّمير العربيّ'. في جميع الحالات، جسد إيلان هو ذات الجسد الميّت على الشّاطئ. ربّما تختلف سيناريوهات أجساد الأحياء من حوله، لكنّها جميعًا تخدم أجندة موته وتحويله إلى هذا الجسد الأحاديّ الوحيد، أمام تعدّد قوى القتل والموت. جسد إيلان جسد السّوريّ/ ة وتكرار الصّورة ذاتها، ودلالةٌ على هويّةٍ ذاتيّةٍ - جمعيّةٍ في ذات اللّحظة.

عملٌ آخر يُظهر ذات الميّت، هو الجسد الذّاتيّ، 'الشّهيد البطل رسّام الكاريكاتير السّوري أكرم رسلان' لهاني عبّاس (22/9/2015).

'الشّهيد البطل رسّام الكاريكاتير السّوري أكرم رسلان' لهاني عبّاس

جسد المعتقل

تظهر أجساد المعتقلين الّذين قُتلوا في السّجون في عددٍ من الأعمال، هذه الأجساد تظهر بغالبيّتها عاريةً، نحيلةً، دلالةً على الجوع والتّعذيب.

إنّ التّشابه بين أجساد الأموات داخل السّجن، أو داخل سوريّة، يدلّ على أنّ سوريّة أصبحت سجنًا كبيرًا، فيه تكثيفٌ للموت ولجسد الميّت/ ة. هذا التّشابه ما هو إلّا دلالةً على أحاديّة جسد السّوريّ/ ة.

يعبّر الكاريكاتير السّوريّ عن كسر ثنائيّاتٍ عدّةٍ، أهمّها ثنائيّة الحياة – الموت، والّتي أصبحت حياتيّة الموت وموت الحياة، وأيضًا ثنائيّة الذّات – الشّيء، لتصبح شيئًا - ذاتًا في نفس اللّحظة الزّمنيّة.

إنّ تراصّ وتكثيف الموت، مقارنةً بأحاديّة ووحدة الحياة، هو مقولة أنّ احتمالات أن تكون/ ي جسدٍا لميّتٍ أكبر بكثيرٍ من احتمالات أن تكون/ ي جسدًا حيًّا في سوريّة.

كلّ جسدٍ في الرّسومات تعبيرٌ عن جسد الأمّة والشّعب السّوري؛ وحدته، برده، موته، تعبيرٌ عن كون سوريّة وحيدةً، باردةً تموت.

 

 

[1]. انظر/ ي رابط الموقع: http://www.creativememory.org/?page_id=136

 

[2] ناشف، إ. (2012). مأساة نبيّة أو تفاصيل فشل عودة البنت الضّائعة. جدليّة 17 نيسان 2012.

[3] انظر/ ي للعمل في صفحة فيسبوك الفنّان: https://web.facebook.com/fuzzytoons/photos/a.384309621636716.85068.156032844464396/981382801929392/?type=3&theater

[4] مثال ذلك عمل 'في كلّ الأحوال' لمحمود سلامة (1/2/2016)، و'إلى روح شهيد سوريا وفلسطين ناجي الجرف' لهاني عبّاس (27/12/2015)، وفيها كفٌّ داميةٌ ومفتوحةٌ، فيها كمشة حبوبٍ وسنابلُ شامخةٌ. انظر/ ي للعمل هنا:

https://web.facebook.com/photo.php?fbid=760684354036351&set=a.105342092903917.6206.100002843806538&type=3&theater

[5] انظر/ ي للعمل هنا

https://web.facebook.com/photo.php?fbid=446056792245080&set=a.134414096742686.1073741827.100005222880434&type=3

[6] انظر/ ي للعمل هنا

https://web.facebook.com/photo.php?fbid=10201180505912640&set=a.1044112560964.6046.1770144387&type=3&theater

[7] تكثيف الموت من خلال تغييب جسد السّوريّ/ ة الميّت/ ة يظهر أيضًا في عمل 'الرّوسيّ وصل' لموفّق قات (28/9/2015)، وفيه تظهر القبور الّتي تطمر الأجساد.

*صورة الخبر الرّئيسيّة: '2015 فقط في سوريا' لكاميران شمدين