"خارج السّرب" تقلب الطاولة على السلاطين وتنتصر للمسرح الشّعبيّ

'الذين لا يتحدثون إلّا عن الأدب الجاد والمسرح الجاد والخبز الجاد والويسكي الجاد والأفلام الجادة والمواعيد الجادة هم في الحقيقة أكبر مهرجين في السّاحة الأدبيّة… والمسرحيّة الجادة من وجهة نظرهم هي التي ما أن تبدأ حتى يبحث المشاهد عن أقرب مخرج للنجاة ولو من المدخنة'، بهذه الكلمات من نصّه 'أنين في محبرة'،  قارع محمّد الماغوط الشّرائح المثقفة التي تنتج ثقافتها بعيدًا عن الناس، ومن الماغوط والجدل مع مسرح النخبة، والمواجهة مع مسرح الطغمة الحاكمة، ومن قلب الحصار، يطلّ المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ – الحكواتيّ في القدس بعمله المسرحيّ الجديد 'خارج السّرب'.

في 'خارج السّرب' يعود المسرح ليكون شعبيًا، شعبيٌ باستقطابه كل الناس وباحتضانه لكافة القطاعات الشّعبيّة. ليومين متتاليين، غصت قاعة المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ بحضور غفير لمشاهدة الإنتاج الجديد للمسرح الوطنيّ الفلسطينيّ- الحكواتيّ. التقيت هناك بمن قدم لحضور المسرحيّة دعمًا لزملائه الشّباب على الخشبة، أو من قدم دعمًا لمسيرة مسرح الحكواتيّ وهناك من جاء محبّة وتحية للكاتب محمّد الماغوط.

هناك مستويات متعددة لقراءة هذا الحدث المسرحيّ والشّعبيّ، قد تذهب لرؤية هذا العرس الشّعبيّ تضامنًا مع مسرح الحكواتيّ، وقد تراه عرسًا معنويًا بعودة الحياة أو توقًا لعودة الحياة الثّقافيّة لمدينة القدس بشكلٍ عام وللحكواتي بشكل خاص، ولربّما توجه انظارك للمسرح، للمسرح فقط، بكل ما يحمله من معاني العيش المتمدن والبحث عن مساحة للاستمتاع والتّرفيه.

لكن يمكننا أيضًا الدمج  بين كل هذه الحالات؛ إنها حالة الحصار، الحصار العربيّ، المجتمعيّ، الحصار السّلطويّ الفلسطينيّ، الحصار العسكريّ. حصارات متعددة الأوجه تجعل من المسرح حالة مستعصيّة في مدينة يتحارب عليها كل الأنبياء. وبأسلوبٍ ساخرٍ تحاول المسرحيّة أن تحذر من السّقوط الحضاريّ والإنسانيّ وخيانة الأوطان الحقيقيّة ممثلًا بخشبة المسرح، وهذا الأسلوب ميَّز كل مؤلفات  محمّد الماغوط.

خارج السّرب

هو عملٌ مسرحيّ أُعد بتصرف عن مسرحيًة 'خارج السّرب' لمحمّد الماغوط،  يعالج حالة حصار مُستمرة من قبل قوى متعددة متكاتفة للسيطرة على مسرح الناس. كم عهدنا أسلوب الماغوط في معالجة حالات الحصار ما بين السّخريّة والبكاء، فإن المسرح هنا، في القدس، الذي يعاني من حالة حصار 'نموذجيّة'، ينجح كما نجح الماغوط، بالجمع بين البسمة والصرخة سوية. في 'خارج السرب' انتزعت منا ضحكات عاليّة وتصفيق تلقائيّ في حين علت على المسرح صرخات فيها من الوجع، من التّوسل، طلب الآغاثة، وفيها صرخة الرفض والصمود من أجل استمرار المسرح، فيقول مخرج العمل كامل الباشا: 'تلك مقولة تحمل من الحكمة قدر ما تحمل من تبرير للتنازل عن قيم تاريخيّة وعاطفيّة تجسّدها بناية، ولن تستطيع قوى الظلام أن تدمّر البناية إلا بأيدي من دمرتهم فكريًا ووجدانيًا من رواد تلك البناية'.
في ' خارج السّرب' هناك مسرحيّة داخل مسرحيّة، تتلخص بمحاولة طاقم الممثلين بإخراج مسرحيّة  'روميو وجولييت' لشكسبير، حيث يواجه هذا العمل المسرحيّ تدخلاً مستمرًا من 'عاطف' حامل المكنسة الذي يحاول ثني مخرج النّص الشكسبيريّ عن المضي قُدمًا طالبًا أخذ دوره في لعب شخصيّة 'روميو' ومنحه نفسًا مختلفًا. وفي هذه الأثناء، تتدخل جهات رسميّة حكوميّة ودوليّة للإشراف على العمل المسرحيّ وتسير الأمور نحو تدخل متزايد لتغيير النّص والممثلين والهيمنة على المسرح بالكامل.

كامل الباشا وهاجس مستقبل الحركة المسرحيّة
كيف لنا أن نبتعد عن حالة الحصار والضحك والصراخ، وكاتب النّص المسرحيّ، محمّد الماغوط،  قد عرفناه جيدًا وعرفنا المسرح السّياسيّ السّاخر المباشر من خلاله أيضًا. هو الذي يبتعد عن التّعقيد والتّركيب في الإنتاج الأدبيّ  لتسهيل وصول الثقافة إلى الناس. الماغوط  كان حاضرًا وبقوة، والعمل المسرحيّ عكس هذا الحضور رسالة ولغة، إلّا إنني أطمح لتقديم تعابير أُخرى لهذا الحضور. كامل الباشا مخرج العمل كان مغامرًا وشجاعًا، كان منصفًا وكان مخرجًا. قبل الخوض في تفاصيل العمل المسرحيّ، أبحث عن العلامات المضيئة الكبيرة. فقد انتصر كامل الباشا بهذا العمل للحركة المسرحيّة المُنهكة بالرداءة العربيّة، انتصر أيضًا  للأسماء الكبيرة في المسرح الفلسطينيّ التي رحلت عنّا والتي ما زالت تتنفس مسرحًا. من حق المخرج أن ينتصر لبيته، أن ينتصر للعش الدافئ، من حق المخرج أن يدافع عن الخشبة التي تحمل الفكرة. وإذ نتفق ونختلف على حيوية ذكر أسماء زملاء مسرحيين على خشبة المسرح ضمن النّص وبشكل تظاهريّ، فإن سؤالًا محرجًا يفرض نفسه علينا: من يخلد هؤلاء الفنانين الكبار؟ من يعرفهم من الجيل الشّاب الصاعد؟ كم عملًا مسرحيًا قُدم تحيًة لأرواحهم؟ قد نختلف أو نتفق، إلّا أن المخرج قال كلمته الأخيرة وذوَّت أسماء هؤلاء المبدعين في الفضاء أمام الجمع الغفير: يعقوب إسماعيل، مازن غطاس وفرانسوا أبو سالم.    

ومن حق المخرج الممثل أن يصعد ويرفع شعارات أصبحنا نشكك بأهميتها وبقداستها. لم تعد الحركة المسرحيّة مفهومة ضمنًا، وها هو المخرج، الذي لما يستسلم للمال، ولا للمؤسسات ولا للدول المانحة ولا لسلطة ولا لاحتلال ويقضي معظم يومه متنقلًا بين أزقة القدس وحواجزها، يقول ويصرخ نحن هنا، ننقل الراية للجيل القادم.
 

الجيل القادم

مرة أخرى أبحث عن العلامات المُضيئة الكبيرة في هذا العمل المسرحيّ الذي يناور ويقاتل في حالة الحصار، لن أُنهكه بالعبث بنواقصه، لن أبحث بالهامش لأعيق طاقات المُحرّك الذي يبذل قصارى جهده للعمل وسط الخراب. في ' خارج السّرب' يفتح المسرح الوطنيّ ومخرج العمل الباب واسعًا لاحتضان الطاقات الشّبابيّة، لاستقطاب المواهب الصاعدة، في 'خارج السّرب' فتح الباب على مصراعيه أمام من يحلم بالوقوف على خشبة المسرح. في بلد لا يعرف مدرسة للمسرح وللتمثيل، في بلد يغيب وتُغيَّب أكاديميّة المسرح، يقوم مسرح الحكواتيّ بفتح أبوابه ليشكّل كلية ميدانيّة لهؤلاء الشّباب والشّابات. هذه الخطوة ليست اعتياديّة في زمنٍ يسير فيه معظمنا نحو استهلاك الموجود وإدمانه، وفي زمن يقل فيه عدد الذين يزرعون البذورـ ليس لمالهم ولبيتهم الخاص بل من أجل أن تزهر الأرض لكل الناس. هذه العلامة المضيئة ليست هامشيّة ولا عابرة، إنها نموذج لكيفية البناء الثقافيّ، ونموذج معاكس للشعار 'ما كان هو ما سوف يكون' و ' لا جديد تحت الشّمس'. فقد كان هناك جديد، وهذا الجديد لا يستهان به.

الأسماء الجديدة أضاءت ليل القدس المظلم، فليس هناك أجمل من هذا المشهد،  جمهرة من الناس المحبين تحيط ممثلة شابة صعدت المسرح لأول مرة وتحتضنها وتقول لها: 'أنت تمتلكين العالم'، وتقول لنفسها بداخلها: 'أنا هنا، أنا موجودة، أنا مركز العالم، أنا البلاد، لم تكسرني الكُتل الإسمنتيّة الاحتلاليّة على مداخل الأحياء'. ولا تحتاج  قارئة هذه السطور اشتراط  مشاهدة المسرحيّة  لكي تكون حكمًا على رؤيتي هذه حين أورد أمامها هذا الكم من الأسماء الجديدة: فاطمه صباح، زياد هيدمي، مريم باشا، محمد مشعل، هاني سلمان، محمد براهمه، أمينة عديله، فاطمه أبو عالول، وعد عايش، سماح خير، مراد وعري، ياسمين محمود، إيمان عقل ودانا الزغيّر.

عزت النتشة يُغرد خارج السّرب

في ألوقت الذي إختارت بعض الأعمال المسرحيّة الممثل الشّاب عزت النتشة ليلعب أدوارًا  في الصفوف الخلفيّة والوسطى  للأعمال الفنية، فقد ذهب مخرج العمل كامل الباشا ليراهن على قدرات عزت النتشة بالوقوف في مُقدمة العمل. غامر الباشا مغامرة ناجحة باختيار هذا الفنان الشاب ليغرد خارج السّرب. لماذا يجب استقدام ممثلين مخضرمين؟ وكأنه يقول: 'لماذا يجب أن نُبقي الكبار كبارًا والصغار صغارًا؟ لماذا لا نقلب الطاولة على الاعتياديّ في طواقم الأعمال المسرحيّة؟ لقد قاد عزت النتشة العمل ببهلوانيّة شيقة، جذابة ومهنيّة. بهلوانيّة الحركة، الحسّ والصّوت ومهنيّة استيعاب الفكرة، الفكرة الماغوطيّة وتحويلها لحضور يتفاعل معه الجمهور.

عزت النتشة (جسّد دور عاطف، عامل النّظافة)  مارس الحلم في 'خارج السّرب'، بأن يكون روميو العاشق، وحاول التّهرب من النّص الكلاسيكيّ الذي يفرض مصيرًا محكمًا، موتًا 'اختياريًا'. في المرحلة الأولى من العرض، حاول جاهدًا التّأثير على المخرج لإخراج روميو من رتابته ونصه المستديم، وفي المرحلة الثّانيّة رفض أن يلعب دور روميو كما أراد له المسؤول  الحاكم حين سيطر على خشبة المسرح. كان النفس الأخير الحيّ تمامًا، كما في أعمال الماغوط التي وصلتنا بقوة من مسرحية ' كاسك يا وطن' ومن مؤلفه 'سأخون وطني'، نجد الشّخصيّة الشّعبيّة السّاخرة الرّافضة التي تحاول، رغم حالة السّقوط العارمة، الإبقاء على نفس أخير يصارع من أجل  الحياة.

حضور متميز: جولييت والقذافي

من بين المواهب الشّابة التي تألقت على المسرح، أشير بشكل خاص إلى الممثلة الصاعدة مريم الباشا، التي لعبت دور جولييت.  تبدي مريم انتماءً حقيقيًا للمسرح، وتبشر بعون حقيقي للحركة المسرحيّة التي تعاني من نقص جدي في مشاركة العنصر النّسائيّ. 'خارج السّرب' أظهرت أيضًا الممثل داود طوطح بأفضل أدواره. لقد لعب طوطح دورًا مركزيًا متقلدًا دور المخابراتيّ ودور الحاكم. ونجح هو أيضًا بالتقدّم من الأدوار الثّانويّة للأعمال المسرحيّة نحو أداء أدوارًا مركزيّة. نجح طوطح بخطف الأضواء بتقليده الرائع لشخصية معمر القذافي محاطًا بـ 'نساء القذافي'. وأضيف بأن دوره ساهم بشكل كبير في رفع الجوانب الفنّيّة للعمل المسرحيّ. وإن كنت أريد الإشارة لحضورٍ إضافيّ ملفتًا للأنظار، فأذكر الحضور المتميز للحركات وللرقصات الشّعبيّة التي انسجمت مع حركات أخرى للأيادي التي تواصلت مع موسيقى فرقة 'صابرين'.

البحث عن الأدوات للخروج من الحضيض

حين تتسع دائرة عدم الاهتمام بالمسرح في حالة الحضيض السّياسيّ وحالة الحصار والخنق الشاملين، وفي ظلّ تحريمه دينيًا، يصير لزامًا على  المخرج والمسرح أن يبحثا عن آفاق لتطوره، لإخراجه من حالة الغرق، يصير ملحًا زيادة حدّة التّجريب والبحث، البحث عن صيغة تشدّ المسرح لقلوب الجمهور وتعبّر عن طاقات الجمهور وقدراته. فليس بالضرورة أن نتمسك بأدوات وتعابير المسرح الغربيّ الكلاسيكيّ، بل يمكننا أيضًا البحث عن أصالة المسرح الشّعبيّ الملتصق بقضايا الناس. في النّهاية، المساحات الفنّيّة الثّقافيّة حيويّة لمنع ولتدارك الانهيار التّام، والأعمال الجادة والنّخبويّة  الجيّدة منها ستفرض نفسها على المشهد المسرحيّ، والمسرحيات السّاخرة الجيّدة  التي تحاكي كل الناس، ستتخذ شرعيتها من مستواها الفنّيّ ومن حبّ الناس وبقاء المسرح مفتوحًا أمام الجميع، وكما قال الماغوط: 'أكتب لمن لا يعرفون إذا كانت اللومند تصدر في باريس أو في أبو ظبي.. أكتب للعامل الذي ينعي فطوره على ظهر دراجته.. أكتب لأعيش'.