العودة من البرزخ

رؤى بزيع في برزخ | عدسة جاد حكواتي

تقف رؤى بزيع على خشبة المسرح في جامعة القدّيس يوسف في صيدا، ترفع ذراعيها في الهواء باستسلام، يُضاء أسفل ظهرها بمربّع صغير، يُعرض عليه فيديو مصوّر بطريقة الرّنين المغناطيسيّ، فنرى عمودها الفقريّ ومشرط الطّبيب يتحرّك بين السّلسلة.

 مستعينة بجداريّة محمود درويش، وبثلاث أطر شفّافة لتكون شاشات عرض لفيديو أنطوان مايير، تحاول فرقة 'منوال' (جاد حكواتي، ورؤى بزيع)، أن تسرد حالة اللّاوعي الّتي اختبرتها بزيع في الواقع، إثر تعرّضها لحادثة سير أدّت إلى توقّف قلبها مدّة 35 دقيقة، وخضوعها لعمليّة إنعاش، دخلت أثناءها  إلى عالم البرزخ، المستوحى منه اسم المسرحيّة، 'برزخ'.

جئت قُبَيْل ميعادي

تبدأ المسرحيّة بشرح تفصيليّ بيولوجيّ عن وظيفة القلب، تلقيه رؤى علينا، تذهب بعده خلف الإطار الشّبكيّ الشّفاف الموضوع وسط المسرح، وتستلقي عدّة دقائق بجمود تامّ على طاولة سوداء، كتلك الّتي نجدها في العيادات الطّبّيّة. في هذا المشهد، تتحوّل إلى جثّة مكفّنة بفستان أبيض، مندمجة بالفيديو المسلّط عليها.

تصبح الممثّلة جزأ من الأوتوستراد والسّيّارات، فيتناقض جمودها مع الحركة السّريعة وإيقاع الموسيقى (ربيع سلامة، وساري موسى)، ما يولّد حالة توتّر وترقّب لدى المشاهد، تنكسر مع تسارع دقّات قلبها وتوقّفها عن الخفقان فجأة، وبدء تلاوة سورة ياسين! هنا تنفصل صورة جسدها في الفيديو عن جسدها المستلقي على المسرح، فنراها جالسة على الإطار ورأسها  موجّهة نحونا، تشرح بكلمات محمود درويش العالم الّذي دخلته: 'جئت قبيل ميعادي/ فلم يظهر ملاك واحد ليقول لي: ماذا فعلت، هناك، في الدّنيا؟'

عدمٌ، وأمل

رؤى الآن جالسة في اللّا مكان، الأفكار في رأسها متناقضة، تتمثّل بصوت سلبيّ يقول: 'خَسِرْتِ الكثير من الدّماء، ستموتين.' وآخر يردّ: ' هلّأ لمّا تفيقي حييجي، زحيلو بركي بنام حدّك.' فنراها تصارع  بين الاستسلام والأمل؛ الاستسلام للعدم العالقة فيه، حيث لا يمكنها أن تسمع صوتها أو أن تجد من يفسّر لها كلّ هذا البياض، والأمل المتمسّك  بفكرة استلقاء من تحبّه إلى جانبها في حال عادت. ويفهم المشاهد لاحقًا أنّ هذا الأمل بالعودة إلى الحياة، والّذي لا يولّده سوى الحبّ، يرافقه شعور بالذّنب بسبب موقف حصل بينها وبين جاد قبل الحادثة. 

تنقل 'برزخ'، وتحديدًا من خلال الفيديو، لمدّة 40 دقيقة، الحياة داخل الجسد وخارجه، بتفاصيلها الّتي نختبرها جميعًا دون أن نتوقّع أنّ الموت موجود في كلّ مكان، وبإمكانه أن يمسّ من نحبّ بسبب قرارات عاديّة وعشوائيّة كالذّهاب إلى البحر وعدم الوصول، فنفهم للحظة واحدة الأشياء المهمّة فعلًا، كأن تكون عودتنا من الأماكن الّتي نعلق فيها نتيجة وجود أشخاص يحبّوننا وينتظروننا، ونحبّهم بدورنا، أكثر من السّلام والبياض الأبدي. 

أهلًا بسيّدنا عزرائيل!

 تعود رؤى بسبعة ضلوع مكسورة، وبتقبّل للموت خالٍ من الخوف، فترحّب بسيّدنا عزرائيل، وتطلب أن نفكّر بالموت كلّ يوم، ولو لأربع دقائق، كي نكفّ عن الخوف منه. تقع وتتعلّم أن تمشي من جديد، وأن تتكلّم من جديد، وأن تفكّر وتعيش وتحبّ من جديد. تتساءل إن كان على الإنسان أن يفقد كلّ شيء  ليتجرّد من الرّواسب ويصبح أقرب إلى جوهره. 

تروي رؤى وتفسّر ماذا يحدث الآن، فنفهم الحالة الّتي تتملّكها، ويعود بنا الفيديو إلى البداية، ليُظهر لنا تسلسل الأحداث الّتي أدّت إلى هذه النّتيجة، فنشاهد كيف حلمت أنّها تخرج من معبد في الطّيّونة، لتجد أنّ بيروت كلّها بَحْصٌ ومقسّمة إلى مناطق صغيرة. تضع يدها على بطنها، تجلب السّرير من وراء الشّاشة، تتكلّم عن الموت بقوّة، كأنّه قاربَ شخصًا كانته يومًا ولم يعد موجودًا سوى في القصّة وعلى هذا المسرح. 

تميّزت المسرحيّة من النّاحية التّقنيّة والبصريّة بدقّة العمل، وسهّلت الاستعانة بالفيديو وصول ذكريات واحتمالات تجربة رؤى إلى المشاهد بسلاسة ووضوح، ما عوّض عن ضعف النّصّ في مشاهد معيّنة. لقد استطاع كلّ من جاد ورؤى عرض قصّتهم بطريقة ترجعنا إلى التّفاصيل الأساسيّة في حياتنا الّتي نأخذها من المسلّمات، كما قاما ببلورتها بأسلوب بعيد عن الدّراما، يظهر كيف أنّ هذه التّجربة شكّلت نقطة تحوّل في مسار حياتهم، دفعتهم لاستثمارها على الصّعيدين الشّخصيّ والعامّ.

.............

عن برزخ:

رؤية فنّيّة وإخراج: جاد حكواتي.
نصّ: جاد حكواتي ورؤى بزيع، ونصوص من الجداريّة للشّاعر محمود درويش.
أداء: رؤى بزيع.
فيديو: أنطوان مايير.
سينوغرافيا: جاد حكواتي.
إضاءة: هاغوب ديرغوغاسيان.
تصميم صوت و موسيقى: ربيع سلامة (عود) و ساري موسى.
تصميم الملصق والمطبوعات: كريم فرح.
دعاية وإعلام: بي كلت.

أُنْتِجَ هذا العمل بمنحة من المورد الثّقافيّ، وبالتّعاون مع مركز الدّروس الجامعيّة في لبنان الجنوبيّ، والمعهد الفرنسيّ في صيدا.