حكايا المقدسيّين في "البسطة"

أحد عروض مسرح "البسطة" في أسواق القدس

'البسطة'، مسرح شبابيّ سياسيّ اجتماعيّ، اختار أن يكون من النّاس وإليهم، بعيدًا عن شروط ولوجستيّات المموّل. ذهب إلى النّاس، انطلق من الشّارع وقابلهم فيه، بكوميديا ساخرة ناقش قضايا حياتهم السّياسيّة والاجتماعيّة، وكلّ ما في جعبته عربة بأربع عجلات وفكرة لاذعة وطرقات.

في ليلة الحادي عشر من رمضان، نزلت مهرولة باتّجاه سوق الخواجات، لألحق بعرض مهرجان 'الفُرْجِة'، وهو إنتاج مسرح 'البسطة' الخاصّ في رمضان. اخترقت الجموع الّتي احتشدت باب العامود بانتظار أمسية رمضانيّة، وهو مشهد نادرًا ما تراه في مدينة تقف على حافة الانفجار.

من الشّارع

في سوق خان الزّيت، كان المشهد مغايرًا تمامًا؛ الهدوء يخيّم على المكان، وبعد خمس دقائق من المشي، وما أن وطئت قدماي سوق العطّارين، حتّى بدأت الأصوات تتعالى... تقدّمت وانحرفت يسارًا، فإذ بي في السّوق، أرض مسرح 'البسطة'. البسطة مركونة في الوسط، المعدّات التّمثيليّة البسيطة والممثّلون على أهبة الاستعداد، وجمهور بسيط كان عدده يتزايد مع كلّ دقيقة تمرّ، وكان لأفراد منه أدوارا ارتجاليّة.

 

 

انطلاق مسرح 'البسطة' من الشّارع لم يكن عبثيًّا. خرج منه ليقول إنّه محتجّ على الوضع الّذي يعيشه المسرح الفلسطينيّ بعامّة، والمقدسيّ على وجه التّحديد. رسالة موجّهة إلى محتكري المسرح من الجيل القديم، الّذين أغلقوه في وجه المواهب الحديثة؛ وفي الشّارع حيث تتقلّص المسافات بين الجميع، اتّخذ 'البسطة' موقفًا سياسيًّا يؤكّد على عروبة المدينة وقدسيّتها، فالشّارع حرّ، ووجود الجميع فيه طبيعيّ.

أمّا 'البسطة'، فمن منّا لا يعرفها؟ من منّا مشى في شوارع وأزقّة القدس ولم يلحظها؟ من خلالها مرّت بيانات الانتفاضة الأولى، فحضورها مرتبط بهويّة المدينة وتاريخها. هي أداة لافتة لإيصال الفكرة، متحرّكة سهلة الوصول لكلّ مكان. خلفها جلس الرّاوي لابسًا الطّربوش، يقصّ بسخرية لاذعة جرعة من الكوميديا السّوداء، أمّا الأبطال فيترجمون الحبكة والنّهاية بلهجة البلد المحكيّة.

القدس - دمشق

انطلق مسرح 'البسطة' نهاية عام 2015، مع خمسة ممثلين رئيسيّين، يزداد عددهم وينقص، فالبسطة ترحّب بالجميع ليشاركها التّنقّل والتّجوال في عروضها، شعارها القدس - دمشق، فالفنّ لا يعرف حدودًا، وعروضها لا تقتصر على القدس، بل تجوب فلسطين التّاريخيّة، وربّما سيأتي اليوم الّذي تصل فيه دمشق.

اليوم، في رصيد 'البسطة' خمسة عشر عملًا مسرحيًّا، نصوصها من الشّارع، من أحاديث النّاس وقصصهم ومشاكلهم وأوجاعهم، وهو يباغت الشّارع في تقديمه في كوميدياه السّاخرة، إذ يؤمن أنّ مهمّته الأساسيّة تتلخّص في تنويع ذائقة الجمهور الفنّيّة وتقوية علاقته بالمسرح، ليلتفّ حوله ويدعمه، وليساهما معًا في إحداث التّغيير، التّغيير الّذي لم تنجح المسارح المغلقة في إحداثه، فولّدت الاغتراب بينهما.

خلال ثمانينات القرن الماضي، كانت الحركة المسرحيّة المقدسيّة في أوج نشاطها وتطوّرها، إنتاجات قليلة، فرق وممثلّون أقلّ، لكن يحسب لها التّنوّع والتّميّز؛ وعقب توقيع اتفاقيّة أوسلو، بدأ التّدهور يطرق أبواب المسارح، هي ذاتها الأبواب الّتي دخلت منها المؤسّسات الأجنبيّة ومؤسّسات الـ NGO’s، لتحتكر المضامين مقابل التّمويل، وتزيد من الكمّ على حساب النّوع.

بعيدًا عن النّخبويّة... وبالمجّان

اعتدت مشاهدة المسرحيّات داخل الأبواب المغلقة، في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ – الحكواتي، حيث  العتمة وحرمة الكلام أو الهمس، أمّا آخر ما حملتني قدماي لمشاهدته في المسرح، فكانت مسرحيّة 'خارج السّرب' الّتي كتب محمّد الماغوط نصّها، وأدّاها شباب مقدسيّ طموح، وسبقتها مسرحيّة 'خيل تايهة'، الّتي شاهدتها مرّتين مشدودة بالحبكة وبالمقاطع الغنائيّة والشّعريّة البدويّة الّتي قدّمتها الفنّانة ريم تلحمي.

في هذين العرضين، وما سبقهما من عروض، لاحظت كما غيري نخبويّة الجمهور، وهذه تهمة توجّه دائمًا لجمهور المسرح من المقدسيّين، فهو نخبويّ بطريقة اختياره للأعمال الّتي يحتاج إنتاجها لمسارح كبيرة قادرة على تقديم ملاحم مسرحيّة تلبّي أذواقهم، أمّا البسطاء، فوجدوا ضالّتهم في 'البسطة'، وبالمجّان!