عمون لمسرح الشباب؛ جملة احتمالات

في الوقت نفسه من كلّ عام، ينتظر الكثير من جمهور المسرح الإعلان عن بدء فعاليّات مهرجان 'عمّون لمسرح الشباب'، فالأمر تمامًا مثل لعبة الحظ، مخرجون جدد يقدّمون أعمالهم الأولى، وربّما الثانية في حدّ أقصى، على الخشبة، وهنا تبدأ جملة الاحتمالات؛ من منهم سيكون مفاجأة العام؟ وأيّهم سيصنع بعمله البكر دهشة للحاضرين، إضافة إلى لذّة الوقوف أمام أفكار وعقول لم نألفها سابقًا؟

ثمانية أعمال

استضاف 'عمّون لمسرح الشباب' في دورته الخامسة عشر ثمانية أعمال، هي: 'هلّا تأتون قليلاً' للمخرج بلال زيتون، و'كان وما يزال' لسهاد الزعبي، و'ستّ شخصيّات تبحث عن مؤلّف' لعماد نايف، و'ذاكرة جسد' للمعتمد المناصير؛ إضافة إلى مسرحيّة عرض الافتتاح التي كات مشاركة في دورة العام الماضي، 'عرس الدم'، لأحمد سرور.

كما اختير عدد من مشاريع التخرّج لطلّاب المسرح بالجامعة الأردنيّة لتكون على هامش المهرجان؛ دماء جديدة ستحاول إثبات نفسها في أوّل واقعة مسرحيّة رسميّة لها؛ فوقع الاختيار على مسرحيّة 'الصمت' لدانية الصمادي، و'خطبة لاذعة ضدّ رجل جالس' لجمانة سماوي، و'لم لا؟' لأسامة الجرّاح.

من الاحتفال الافتتاحيّ

وممّا كان لافتًا، حصول عرض 'هلّا تأتون قليلًا' للمخرج بلال زيتون، على معظم الجوائز المهمّة في المهرجان؛ أفضل إخراج، أفضل ممثّل، أفضل ممثّلة، أفضل ممثّل واعد.

هلّا تأتون قليلاً؟!

دائمًا ما أكون في انتظار عرض ممتع ومهمّ يقدّمه بلال زيتون للجمهور، إن كان ممثّلًا أو مخرجًا، فهو من الفنّانين الذين أحببت نظرتهم للمسرح بمتابعتي عدّة أعمال له، ومن بين العروض المشاركة جميعها، كنت في انتظار 'هلّا تأتون قليلًا'، المُعدّ عن مسرحيّة الكاتب التركيّ عزيز نيسين، والتي تحكي قصّة صانع النايات 'موّال' ومساعده الأحدب، اللذان يحاولان صنع ناي يصلون من خلاله إلى صوت موسيقيّ خالد لن يموت أبدًا، والصراع الذي يعيشانه إثر ظهور تاجر ثريّ يودّ شراء جميع ناياتهم بسعر مغرٍ، مستغلًّا على الضائقة الماليّة التي يعيشانها.

استعان المخرج بمجموعة مميّزة من الممثّلين الذين استطاعوا تقديم العرض بأداء محترف، فبدا الاشتغال واضحًا على شخصياتهم، لا سيّما شخصيّة الأحدب التي قدّمها الفنّان إبراهيم النوابنة، ونال عنها جائزة أفضل ممثّل في المهرجان، وكذلك الفنّان ثامر الخوالدة، الذي جسّد شخصيّة 'موّال'. ولا شكّ أنّ الفنّان محمّد الإدريسيّ، الذي جسّد شخصيّة التاجر، ونال عنها جائزة أفضل ممثّل واعد، كان من مفاجآت هذه الدورة، فأداؤه يبشّر بممثّل أصيل، يعرف كيفيّة الاشتغال على شخصيّاته.

شخصيّات فائضة

ومثلما كانت الشخصيّات والممثّلون الذين جسّدوها من عناصر تميّز العمل، إلّا أنّها في الوقت نفسه كانت من الأمور التي أضعفته في جوانب أخرى؛ فالمتابع للعرض سيدرك أهمّيّة الشخصيّات الرئيسيّة الثلاث؛ الأحدب، وموّال، والتاجر، لكنّه سيلاحظ أمرًا مخالفًا مع الشخصيّات الثلاث الأخرى، وهي الزوجة، والابن، والابنة، إذ لم تكن لها ضرورة دراميّة تؤثّر على سير الأحداث، أو تسبّب تغييرًا في الصراع القائم، وإن كان المخرج أراد من وجودها قيادة صراع الطمع لبيع نايات الأبّ، فيكفي إظهار شخصيّة 'موّال' وهي تعيشه وتتحدّث عنه في مشاهد معيّنة.

موّال والأحدث في 'هلّا تأتون قليلًا؟!' لبلال زيتون

كان من الممكن الاكتفاء بشخصيّة واحدة فقط منها على الخشبة، الزوجة ربّما، أو الاكتفاء بتقديمهم حالة متخيّلة، وإن حاول زيتون حذفها من العمل، فإنّ ذلك لن يؤثّر على بنية العرض أبدًا.

أمّا على مستوى السينوغرافيا؛ فربّما لم يوفّق الفنّان ربيع درويش جدًّا في صناعة إضاءة تخدم العمل وتناسب مضامينه، فاعتمد على 'بهرجة' كبيرة وانتقالات ضوئيّة مزدحمة وغير مفهومة ولا محسوبة بمجمل مشاهد المسرحيّة، مستعينًا بالكثير من أشكال الورود والأشكال الهندسيّة والزخرفة بالمؤثّرات البصريّة، التي كانت بعيدة عن العمل ومحتواه وحالاته الإنسانيّة والفكريّة.

'الصمت'

لطالما أحببت المسرحيّ الإنجليزيّ هارولد بنتر، ولطالما قادتني أعماله العبثيّة إلى أسئلة عديدة، وأكون صادقًا حين أعترف أنّني لم أتوقّع بأن يتبنّى أحد المخرجين الجدد أيًّا من أعماله لصعوبة طرحها وفهمها، ولنظرته الخاصّة إلى المسرح وأساليبه المتفرّدة بعرض مضامينه؛ حتّى فاجأتني المخرجة الشابّة دانيا الصمادي، التي كانت تشارك على هامش المهرجان بمشروع تخرّجها في كلّيّة الفنون بالجامعة الأردنيّة، بتقديمها مسرحيّة 'الصمت'، إحدى أهمّ أعمال بنتر.

لفت انتباهي منذ اللحظة الأولى تصميم الإضاءة، إذ وُزّع الممثّلون الثلاثة على الخشبة، قبالة الجمهور، في بقع إضاءة على شكل مربّع لكلّ واحد منهم.

مسرحيّة الصمت' لدانية الصمادي

يطرح العمل قصّة شابّين وفتاة، يحكي كلّ واحد منهم كيف التقى بالآخر، ومشاعرهم من هذه اللقاءات، حكاياتهم في الحبّ والخيانة والصدق والكذب، تضارب دواخلهم بالخوف والشجاعة والندم. وقد كانت مدرسة بنتر العبثيّة تفرض نفسها على إيقاع وحوارات وشكل العمل، حتّى النهاية التي كلّلتها المخرجة بمشهد متقن يرمز إلى اغتصاب الشابّين للفتاة.

وسعدتُ حين لاحظت قدرة المخرجة على تقديم مسرح وأسلوب بنتر عبر رؤيتها الخاصّة، ما دلّ على موهبة كبيرة ومستقبل مهمّ لفنّانة شابّة في أوّل أعمالها، وإيصالها ما يسعى العبث لإيصاله إلى الناس، من انتظار وضياع وعدم فهم، وضجر التكرار الذي يعدّ أساسيًّا في هذه المدرسة، فأثبتت إدراكها جيّدًا لما قدّمته.

السينوغرافيا، هي الأخرى، أوصلت تمامًا ما تريده الصمادي من عملها، إذ اعتمد مصمّمها على تكرار نفس أوامر الإضاءة التي تنقل الحدث بين الشخصيّات الثلاث على المسرح، لتكون لغة فنّيّة وظيفيّة تخدم العرض.

إشكاليّة النصّ المترجم

وبالرغم من أنّ العمل كان من العروض المهمّة في المهرجان، والتي تركت أثرًا لديّ، إلّا أنّ النصّ والممثّلين لم يؤدّوا الدور المطلوب منهم على أكمل وجه، فقد كان أداء الممثّلين ضعيفًا، وكثيرًا ما كانت فيه مبالغة. كما وقعت المخرجة في إشكاليّة النصّ المترجم وغير المُعَدّ مسبقًا، فكان واضحًا من مونولوجات وحوارات العرض عدم الإعداد الجيّد للنصّ، ما أدّى إلى ظهور جمل متناقضة وأخرى غير مفهومة، وربّما غفلت المخرجة عن أنّ بنتر يعتمد على التلاعب بالكلمة الواحدة، والجملة الواحدة، ليمنحها معاني متعدّدة يخدم من خلالها العمل.

الفنّان لؤي الدوايمة في مسرحيّة 'الصمت'

'عمّون لمسرح الشبابمهرجان مهمّ في تطوير الحركة المسرحيّة في الأردّن وإغنائها، فهو يعرّف الجمهور والعاملين في مجال المسرح، وكذلك النقّاد، إلى طاقات إبداعيّة جديدة بصورة دائمة، ويرفد المشهد المسرحيّ بأفكار وأعمال ذات رؤيا شبابيّة تسير نحو المستقبل