"ألاقي زيّك فين علي": الشهيد والشهادة من زاوية أخرى

رائدة طه في المونودراما | عدسة علي مواسي

أُنْتِجَ عن الشهيد والشهادة في السياق الفلسطينيّ الكثير، ووُلدت أعمال إبداعيّة في مختلف الحقول، لكنّ قليلًا منها، بل قليل جدًّا، ما استطاع أن يحرّر الشهيد من الإطارات الرماديّة الضيّقة والمتناسخة التي نزجّه فيها؛ من مُلْصَقِ الحائط حتّى إحياء الذكرى، إن حصلت، مرورًا بالجنازة والبيانات والخطب.

أمّا أسر الشهداء، التي يحتفظ أبناؤها بتفاصيلهم اليوميّة وذكرياتهم، ويشعرون، دون غيرهم، بمعنى الفراغ وحجمه الكبير، فهي نادرًا ما تحضر في منتجنا الثقافيّ لتروي حكاية الراحلين، وحكايتها مع الفراق.

فتحيّة بردان

'فتحيّة... فتحيّة بردان... طلعيني من هون علشان أروح أنا وإنت والبنات على بيتنا... فتحيّة يلّا علشان نرجع على القدس... يلّا علشان نلقّط التّينة... طلعوني... طلعوني.'

همس الشهيد في عتمة المسرح لزوجته فتحيّة، من قلب الثلّاجة التي احتُجِزَ فيها مدّة سنتين، لأُصابَ بقشعريرة قاسية، وبألم سيُسْمَعُ بكاءً خافتًا وتنهّدات في صفوف الجمهور. في لحظة ما، قال أحد الجالسين بالقرب منّي: 'دبحتينا!'

علي طه ورفاقه في عمليّة 'سابينا'

في مسرح الميدان بمدينة حيفا، قبل أيّام، استطاعت رائدة طه أن تشعرني عميقًا بمعنى 'ألاقي زيّك فين يا علي؟'، عنوان المونودراما التي تتناول قصّة والدها الشهيد علي طه، قائد عمليّة اختطاف طائرة 'سبينا' البلجيكيّة عام 1972، والتي اقتادها هو وثلاثة فدائيّين فلسطينيّين آخرين إلى مطار اللدّ، مطالبين بالإفراج عن 100 أسير، إلّا أنّ القوّات الإسرائيليّة الخاصّة، وبعد 20 ساعة من المفاوضات مع الإسرائيليّين والبلجيكيّين والصليب الأحمر، استطاعت اقتحام الطائرة، بعد أن تنكّر أفرادها بزيّ عمّال أدخلوا الطعام والشراب للرهائن، إثر موافقة المُختطفين التابعين لمنظّمة 'أيلول الأسود' على ذلك، فقُتِلَ علي طه وعبد العزيز الأطرش، واعتُقِلَتْ تيريزا هلسة وريما عيسى.

وصيّة

لم تتناول رائدة طه أيًّا من تفاصيل العمليّة، فليس هذا المهمّ هنا، إذ يمكنك أن تجد تلك التفاصيل موثّقة في مراجع عديدة، كما لم تتناول سيرة علي السياسيّة والنضاليّة، قبل استشهاده، سوى بقليل من الإشارات، أهمّها وصيّته التي كتبها بخطّ يده في تاريخ 29/04/1972، مبيّنة رؤياه ومواقفه، جاء فيها وكأنّه يخاطب الجمهور بما يلائم المرحلة السياسيّة الراهنة، فلسطينيًّا وعربيًّا: 

'هناك أمانة نطلبها منكم، أمانة تعتبر من أمنيات كلّ ثائر شريف، أمانة تحقيقها واجب وطنيّ مهما كانت التضحيات، وهي أن تبعدوا المندسّين في صفوفنا، تبعدوا الشكّاكين المرتزقة، تبعدوا كلّ من يرتبط بهذه الثورة لتحقيق منافع شخصيّة، ولا شكّ بأنّهم كثيرون جدًّا، وهم أشدّ خطرًا علينا لأنّهم بلا ضمير، بلا شرف، همّهم الأوحد تأمين ملّذاتهم الشخصيّة، والشيء الآخر هو أن تهتمّوا بأسر الشهداء، ولا تُشعروا الأيتام بأنّهم أيتام قبل بلوغهم سنّ الرشد، علّموهم علمًا نعتزّ به، علمًا نحارب به العدوّ. إلى شهدائنا الأبرار، عاشت ثورتنا، عاش كلّ المناضلين الشرفاء، وثورة حتّى النصر.'

 

فسيفساء الحكاية

حكت رائدة ما لم يُحْكَ، وما لا نتوقّع عادة أن يُحكى متى اقتربنا من منطقة 'الشهادة' المقدّسة، ناظمة بخيطِ عليّ مجموعة من المشاهد والصور والحكايات والأخبار والمفارقات والعواطف، عبر ثلاث شخصيّات مركزيّة تستحضرها جميعًا وتحكي باسمها؛ هي نفسها، الابنة الكبرى لعليّ، وكان عمرها 7 سنوات عندما فقدته، وأمّها فتحيّة، الصبيّة الثكلى ابنة الـ 27 عامًا، التي تركها زوجها وحيدة مع أربع طفلات، وعمّتها سهيلة، التي أصرّت على تحرير جثمان أخيها علي من برد ثلّاجة الاحتلال وعتمتها، وقد نذرت على نفسها النوم دون غطاء، صيفًا وشتاءً، حتّى تستعيد الجثمان، إلى أن كان لها ذلك ودفنته في الخليل، بعد أن رفض الاحتلال تنفيذ وصيّته بدفنه في القدس.

بكنبة ثلاثيّة المقاعد، وبإضاءة تتراوح بين الأبيض والأصفر، حضرت رائدة طه في عمر الخمسين، بشعر عسليّ أملس، وبثوب أزرق قصير، وحذاء أسود، وعقد تدلّت منه صورة عليّ في إطار بيضاويّ ذهبيّ لمّاع. وفي مساحة الكنبة الضيّقة، أخذتنا في رحلة شديدة الاتّساع، تحاول استعادة والدها، عليّ، أو بالأحرى، استعادة نفسها، رحلة في الذاكرة والوعي واللا وعي؛ ابتداءً من القائد العامّ، أبو عمّار حتّى علي طه براون، مرورًا بعشرات أسماء الأشخاص والأماكن التي شكّلت فسيفساء الحكاية، مثل تونس، وعمّو غازي، وكسينجر، والأستاذ قيصر حدّاد، وبيروت، وجورجينا، والصديقة سمسم، ومدرسة النجاح الوطنيّة للجبهة الشعبيّة في برج البراجنة، ومنطقة الروشة، والصليب الأحمر، ومحلّ الزهّار للملابس، وسلوان، وبيت إيل، والشيخ الجعبري، وغيرها الكثير.

بالصوت والصورة

قطّعت لينة أبيض، مخرجة العمل، الحكي إلى مقاطع، تفصل بينها لحظة عتمة مع انتهاء كلّ مقطع، بدأت المقاطع قصيرةً وسريعة، ثمّ راحت تطول حتّى وصولنا إلى الثلث الأخير من المونودراما، حيث تستحضر الممثّلة شخصيّة عمّتها، سهيلة، لينساب الكلام دون انقطاع، متوافقًا مع صخب رحلة استعادة جثّة الأخ الشهيد.

عبد القادر الحسيني - من الموادّ البصريّة المستخدمة في العمل

كما جاء العمل غنيًّا بالمادّة البصريّة والصوتيّة، مستفيدًا، أساسًا، من المادّة الأرشيفيّة التي جمعتها رائدة طه في رحلة بحثها نحو إنجازه، وقد وُظِّفَتْ تلك المادّة بصورة جماليّة وبحساب دقيق للمقادير، حتّى يظلّ الحضور الأبرز لصوت رائدة طه القويّ، ولإيماءات جسدها.

على شاشة كبيرة عُلِّقَتْ يمين المنصّة، عُرِضَتْ مرتبطةً بمادّة الحكي، صورٌ بالأبيض والأسود، جاءت في قلب تصميمات تزخر بالألوان والأشكال الربيعيّة، في تأكيد على البعد 'الإحيائيّ' للشهيد وذكراه، بالإضافة إلى فيديوهات تصف بعض المشاهد الكلاميّة، مثل مشهد بيت عائلة علي طه في بيروت لدى بلوغ نبأ استشهاده، حيث الاكتظاظ الفوضويّ لفناجين القهوة الفارغة، ومنافض السجائر، والجرائد التي تحمل صوره. كما وُظّفت الأغاني والمقاطع الصوتيّة؛ صوت الأذان، وهتاف 'بالروح بالدمّ نفديك يا شهيد' في الجنازة الرمزيّة ببيروت، ومقطع من أغنية 'طلّ سلاحي' لفرقة العاشقين، و'إنت عمري' لأمّ كلثوم، و'ألاقي زيّك فين يا علي' لصباح، وغيرها. وقد خُتِمَت المسرحيّة بفيديو تظهر فيه العمّة سهيلة تُهاهي لعلي الشهيد: 'أويها نزل سيف من السما صايغه بدر البدور/ أويها لا تشمتوا يا عدانا راح سور وضلّ سور'، لتنتقل منها إلى 'ألاقي زيّك فين يا علي' أيضًا بصوت العمّة سهيلة، ثمّ أخيرًا بصوت الفنّانة صباح، حيث راحت ترقص على ألحانها رائدة طه، مختتمةً المونودراما بهذا المشهد.

إذن، فقد التقى الكلام بالمادّة الأرشيفيّة والتوظيفات البصريّة والصوتيّة الغنيّة، لا لتحيي ذكرى علي طه بعد 44 عامًا من استشهاده فحسب، إنّما لتحكي، في الأساس، حكايات ثلاث نساء بعد ذلك الاستشهاد، يلتقي في تفاصيلها الخاصّ والعامّ؛ فهنّ يمثّلن مجتمع أسر الشهداء، كما نجد في حكاياتهنّ صورًا لفلسطين الداخل والشتات، مكانًا وثقافةً وفعلًا مناضلًا ومجتمعًا سياسيًّا.

العمّة سهيلة

 

إضحاك مربك

تميّز أداء رائدة طه في المونودراما بأربعة أمور؛ الصدق الفنّيّ، والعفويّة، والسخرية، والنقد الجريء إلى حدٍّ ما. فقد كانت صادقة فنّيًّا ومقنعة لأنّها كانت تروي ما هو ذاتيّ وقاسٍ دون أيّ تكلّف وفائض بلاغة وفجائعيّة، كما كانت عفويّة بخروجها عن النصّ كثيرًا، كاسرة الحاجز بينها على الخشبة وبين الجمهور، دافعة إيّاه للتفاعل معها عبر تعليقات وحوارات قصيرة جدًّا، كانت في أغلبها فكاهيّة مضحكة، وهو ما تلاءم مع لجوء طه إلى السخرية كثيرًا في عرض تفاصيل حكايتها، وتحديدًا لدى تقديم شخصيّات تلك الحكاية، مستعينة في ذلك بتمكّنها من عدّة لهجات نتيجة انتمائها لبيئات مختلفة واحتكاكها بعدّة ثقافات فلسطينيّة وعربيّة، فكان أبو عمّار متى استُحضِرَ يتحدّث بالمحكيّة المصريّة، والعمّة سُهيلة بمحكيّة أهل الخليل، وصبرا، صديق والدها القديم الذي يعمل في فندق ماميلّا، بمحكيّة أهل القدس، وأمّ سمسم بمحكيّة أهل بيت أُمّر، وسيّدة لبنانيّة بمحكيّة البيروتيّين المطعّمة بالفرنسيّة، أمّا رائدة نفسها، فبمحكيّة فلسطينيّة مدنيّة تجمع بين محكيّة رام الله وعمّان.

لقد كان توظيف السخرية والفكاهة على طول المونودراما، والانتقال، بشكل مفاجئ أحيانًا، من حالة الحزن إلى الضحك، أمرًا مربكًا جدًّا، فأنت في منطقة الشهادة والشهداء وأُسَرِهِم، التي تستدعي في أعرافنا هيبة ووجومًا وسوادًا، لكنّ الصدق الفنّيّ في تصوير الواقع بعيدًا عن الشعار والكلاشيهات، بما يتضمّنه من مفارقات وخليط من الأمل والألم، والسعادة والتعاسة، والنكتة والجدّيّة، زلزل تلك المنطقة بصيغتها المعتادة، وأعاد تقديمها لنا بصورة تختلف عن المألوف، لتنطبق عليها، فعلًا، مقولة 'شرّ البليّة ما يُضحك'.

نقد

اختارت طه أن توجّه نقدها لمجتمعها وسياسيّيه، منطلقة، في الأساس، من أرضيّة نسويّة وجندريّة، فافتتحت المونودراما بالحديث عن حادثة تحرّش جنسيّ بها من قبل أحد العاملين في منظّمة التحرير، وذلك عندما كانت تعمل سكرتيرة في مكتب ياسر عرفات متنقّلة معه عبر البلاد، وكيف كانت ردّة فعل عرفات الغاضبة حينها، علمًا أنّ هذا المشهد بدا مقحمًا على المونودراما وأقلّ صدقيّة من المشاهد الأخرى، وكأنّ الغرض منه، بالإضافة إلى مشاهد أخرى تستحضر عرفات، بيان تلك العلاقة بين أسرة طه والأخير، دون مبرّرات فنّيّة مقنعة تضيف للعمل ما هو ضروريّ.

ومن نقاط النقد أيضًا، التعامل مع أمّها الأرملة من قبل مجتمع النساء في بيت العزاء، حيث فرضن عليها مسح طلاء الأظافر الأحمر (المناكير) رغم إصرارها على بقائه، لأنّ زوجها عليّ كان يحبّه، لكنّها الآن زوجة شهيد ولا يمكن لها ذلك. لقد صارت، إذًا، في موقع اجتماعيّ جديد يفرض عليها شروطًا مختلفة!

وفي مشهد طويل نسبيًّا، لا يخلو من سخرية وفكاهة، وجّهت طه نقدها لرجالات 'الثورة' التابعين لمنظّمة التحرير، وبعضهم كان مقرّبًا من والدها، وذلك لسعيهم إلى التقرّب من أمّها، فتحيّة، والتودّد لها، إشباعًا لغرائزهم ولنزواتهم، وهي بعدُ في حالة صدمة من فقدان زوجها.

كما أنّ العمّة سهيلة في رحلة تحريرها لجثمان أخيها عليّ، والتي قادها إصرارها إلى مقابلة كسينجر في فندق 'ماميلّا' في القدس لتقدّم له رسالتها بهذا الخصوص، تمثّل حالة احتجاج على ثقافة مجتمع لم يؤمن أنّها قادرة على فعل ذلك، فأخوها، مثلًا، يصف ما تقوم به بأنّه 'شغل زلام'، لتسائله بدورها عن 'الزلام' وما فعلوه من أجل قضيّتها.

حضور غير مباشر

حضور عليّ لم يكن مباشرًا في المونودراما، إنّما من خلال حكايات الشخصيّات الثلاث المركزيّة، الابنة رائدة، والزوجة فتحيّة، والأخت سهيلة، وعلاقة تلك الشخصيّات به وما يشعرن تجاهه ويتذكرنه عنه، بالإضافة إلى صوته وهو يخاطب زوجته في منامها من قلب ثلّاجة الاحتلال، وبتوظيف مكثّف لصوره بتصميمات مختلفة تزخر بالأشكال والألوان الربيعيّة، وبوصيّته قبل استشهاده وبإحدى رسائله إلى زوجته، كتبها وهو في إحدى رحلاته: 

'زوجتي الحبيبة فتحيّة، تحيّة حبّ وشوق وإخلاص، لقد طالت الغربة رغم قصر المسافات وقساوة الظروف التي تحيل البعد والفرقة إلى قرب ونشوة وحنان. لقد أصبحت حزينًا للفراق وقلقًا من الانتظار، وحاقدًا على هذه الظروف التي فرضت علينا هذا، ولكن حبّي وشعوري نحوك يصبّرني القليل ويزيدني ثقةً وحبًّا وإخلاصًا، صورتكم لا تغيب عنّي مطلقًا، ضحكاتكم التي تسعدني، نظراتكم التي كلّها شوق دائمًا لي لا تبعد عن خيالي. حبّك علي.'

علي طه وزوجته فتحيّة

كأنّ رائدة طه ولينة أبيض أرادتا أن تبقيا على المسافة بين الشهيد والفعل المسرحيّ المتشكّل على الخشبة، تمامًا كما هي المسافة بينه وبين واقعنا، واستعاضتا عن غيابه المقصود بموادّ بصريّة وصوتيّة وإشارات ووصفٍ لشخصه في مادّة الحكي، وبذلك فإنّه يكون ولا يكون، وكأنّ العمل يعترف بقصوره، مسبقًا، عن الاستحضار المشتهى والمُشْبِعِ للشهيد بالنسبة لابنته وعموم أسرته.

إحياء

لقد استطاعت صاحبة الحكاية ومؤدّيتها، رائدة طه، ومخرجة المونودراما، لينة أبيض، بفنّيّة وصدق أداء، إحياء ذكرى شهيد قضى قبل أكثر من أربعة عقود، وتعريف الأجيال الحديثة به وبزمانه السياسيّ النضاليّ، وهذا مهمّ لمشروع حفظ الذاكرة الفلسطينيّة وتوثيقها وتقريبها من الناس عبر الفنّ؛ بالإضافة إلى تسليط الضوء على مناطق لطالما كانت في الظلّ، عبر تجميع فسيفساء حكايات نسائيّة مليئة بالتفاصيل اليوميّة، لا تخلو من نقد لبعض الظواهر الاجتماعيّة والسياسيّة، وبسخرية عذبة تحمل رسائلها القويّة، فكانت المونودراما بذلك إحياءً لتفاصيل حَيَوات ثلاث نساء ما زلن بيننا، بقدر ما هي إحياء لذكرى شهيد.

 

علي مواسي

 

 

شاعر وصحافيّ. يعمل محرّرًا لمجلّة فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة ومدرّسًا للغة العربيّة وآدابها. صدرت له حديثًا مجموعة شعريّة بعنوان 'لولا أنّ التفّاحة' عن الدار الأهليّة للنشر والتوزيع في الأردنّ. عمل سابقًا في مشاريع إعلاميّة وثقافيّة مع العديد من المؤسّسات الفلسطينيّة.