"أماكن أخرى": صورة واحدة لا تفي بالغرض

ممثّلو "أماكن أخرى" | عدسة حبيب سمعان

قبل مشاهدتي إحدى مراجعات مسرحيّة 'أماكن أخرى'، وخلال انضمامي، منسّقةً إعلاميّة، إلى الإنتاج المسرحيّ الجديد لمسرح خشبة  والمسرح الوطنيّ الفلسطينيّ – الحكواتي، طلبت من المخرج بشّار مرقص والممثّلة خلود طنّوس أن يرسلا إليّ صورة أرفقها إلى البيان الصحافيّ، مهمّة ليست صعبة؛ يمكن التقاط صورة جميلة وذات جودة عالية بكاميرا الهاتف النقّال، لكن كليهما، بشّار وخلود، قالا مرارًا إنّ اختيار صورة واحدة تمثّل العمل المسرحيّ الجديد هي المهمّة الصعبة. فوقع الاختيار على صورة تضمّ طاقم الممثّلين والممثّلات المشاركين والمشاركات في المسرحيّة أمام مدخل مسرح خشبة في شارع الخطيب بمدينة حيفا.

'هويّة في مختبر'

لم أستوعب عندها، تمامًا، فكرة 'عدم وجود صورة واحدة تعكس العمل بشموليّة وتحكي عنه'، إلى أن شاهدت إحدى مراجعات المسرحيّة في مسرح الميدان بحيفا، قبل أن ينتقل طاقم العمل إلى القدس عشيّة افتتاح جولة عروضه انطلاقًا من مسرح الحكواتي؛ فهذا عمل مسرحيّ يحكي الهويّة والذاكرة والشتات، ومركّبات كلّ منها التي لا تنتهي، من خلال قصص أفراد فلسطينيّين، من مختلف أماكن وجودهم التي وُلدوا فيها، أو القسريّة، أو الاختياريّة. إذًا، فالعمل مجموعة قصص مجسّدة مسرحيًّا، لا يمكن لصورة واحدة أن تعكس شكله المسرحيّ الكامل.

بدأت فكرة العمل من بحث حول مفهوم الهويّة، أُطلق عليه اسم 'هويّة في مختبر'، وكانت رغبة مسرح خشبة ألّا يقتصر البحث على الفلسطينيّين في فلسطين، إنّما السفر إلى الخارج والالتقاء بـ 28 ممثّل وممثّلة فلسطينيّين في عمّان وبروكسل وبرلين، بالإضافة إلى حوارات مع غزّة أجراها بشّار مرقص عبر السكايب. فانطلق البحث من السؤال 'ما هي الهويّة؟' و'ماذا تعني الذاكرة؟'؛ أسئلة حول الإنسان، المكان والزمان. في النصّ التعريفيّ لمسرحيّة 'أماكن أخرى'، كُتب: 'أردنا البحث في معنى الهويّة، فوجدنا أنفسنا نبحث في معنى الشتات. كيف أصبح الشتات هو الهويّة؟'

قصص

ضمّت المجموعات البحثيّة فلسطينيّين وفلسطينيّات من حيفا، والجليل، ورام الله، وبيت جالا، ومخيّم العزّة، وغزّة، والناصرة، والقدس، ومخيّم اليرموك، ولاجئين في فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، والأردنّ، ومقيمين في بلجيكا، وغيرهم. كلّ منهم أحضر قصّته مع الهويّة؛ الإنسانيّة والوطنيّة والسياسيّة والجندريّة، وغيرها، بالإضافة إلى علاقتهم ببعضهم البعض، وعلاقتهم بالمكان والزمان والتاريخ والذاكرة. وإن كان العمل في صلبه يحكي الشتات الداخليّ لكلّ منّا، الممتدّ من عام 1948، أفرادًا وجماعة، فهو، بالأساس، يحكي الحاضر ويسلّط الضوء، أكثر، على مأساة الفلسطينيّ الراهنة، كلّ في مكانه وواقعه المشتّتين.

ترتبط القصص، كثيرًا، بالممثّلين الذين شاركوا في ورشات البحث، فهي قصصهم الخاصّة النابعة من ماضي وحاضر كلّ منهم، ومخاوفهم وأحلامهم التي رسمت ملامحهم. وعلى الرغم من خصوصيّها، إلّا أنّها، في الوقت نفسه، ترتبط مع قصص آخرين، لا في فلسطين فقط، بل في العالم أيضًا.

وطن/ رحلة/ سياق

تسنيم فريد، اللاجئة من اليرموك والمقيمة في إيطاليا، تصف لفُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة تجربتها في ورشة البحث التي أُقيمت في برلين خلال أيلول (سبتمبر) الماضي: 'لم أتخيّل أنّني سأجد، حيث التقينا، ما وجدت؛ وطني الذي انتظرني وانتظرته حضر، كأنّه كان مخبّأ معهم في حقائب السفر'.

أمّا محمّد تميم، اللاجئ من اليرموك والمقيم في ألمانيا، فيصف تجربته في ورشة برلين: 'أستطيع القول إنّني كنت في رحلة بفلسطين الحقيقيّة التي نريدها، نحن الشباب، إذ تعرّفت على هويّتي في حيفا والضفّة وغزّة، وفي كلّ بقاع الشتات، عبر النقاط التي تتقاطع بيننا، فلسطينيّين'.

وقال كامل بدرانة من الناصرة، والذي يقيم في بروكسل، في حديثه عن تجربته في ورشة بروكسل: 'منذ أوّل جلسة تبادل أفكار، تبيّن أنّ نظرتنا تجاه الهويّة تختلف، فالأماكن والظروف التي جئنا منها، نحن الثلاثة المشاركون في الورشة، مختلفة. إلّا أنّ هذه الظروف، وعلى الرغم من اختلافها، جمعتنا في سياق واحد، والذي له أسماء كثيرة: هجرة، غربة، بُعد، لجوء... أنا أسمّيه ’بَرّة‘. وجودك ’بَرّة‘ يخلق مساحات واهتمامات وهمومًا متبادلة مع الفلسطينيّ أو المغربيّ أو الصوماليّ الموجود ’برّة‘'.

تجريب بلا خوف أو كسل

تعيش في مسرحيّة 'أماكن أخرى' قصصًا كثيرة لأفراد غائبين عن مكانهم، ولأفراد غيّبوا عن مكانهم قسرًا، ولأفراد ما زالوا هنا. تتنقّل القصص بين حيفا، وقلنديا، وغزّة، ومخيّم العزّة، ومخيّم اليرموك، وفرنسا، وألمانيا، وتقرّب النكبة أكثر من الحياة اليوميّة التي يعيشها كلّ منّا. لا تحكي المسرحيّة قصصًا عرفناها أو سمعنا أو قرأنا عنها، على الرغم من أنّها أصبحت جزءًا أساسيًّا من كياننا الإنسانيّ وهويّاتنا، بل تحضر قصصًا نعرفها أكثر، سواءً عشناها أو من خلال علاقاتنا الإنسانيّة التي بُنيت في العالم الجديد، والتي أتاح الإنترنت لنا معرفتها من خلال أصحابها أنفسهم، بأصواتهم وصورهم وحكاياتهم، ونحاول بها أن نلملم أشلاءنا، ونحكي عنها بجرأة، وأحيانًا بسخرية سوداء، مدركين أنّ هذه النبرة الإبداعيّة الجريئة والقويّة هي ما يميّز جيل اليوم، بلا أيّ تقليل من شأن الماضي.

الروائيّ علاء حليحل، والذي حرّر النصّ المسرحيّ (دراماتوجيا)، يحكي عنها: 'ما يجعل أعمال مسرح خشبة مثيرة ورائدة، في نظري، إصرار الطاقم على التجريب وممارسته بلا خوف أو كسل. كلّ عمل جديد رحلة نحو المجهول، تبدأ بالاستقصاء والبحث، ثمّ بمحاولة كتابة نصّ أوّليّ، ثمّ بالمراجعات والتغييرات الكثيرة. إذا كانت ثمّة طريقة مثلى في عصرنا للعمل على مسرحيّة، فهي هذه الطريقة. ’أماكن أخرى’ عمل جديد لخشبة، يطرق أبوابًا مريبة، تتعلّق بنا وبذاكرتنا ومفهوم الوطن/ الشتات، وعلاقتنا بما نفعل ونقول في هذا السياق. هي رحلة بحث جذريّة يسيّرها الطاقم بأعين معصوبة وببصيرة ثاقبة'.

'بازِل' في 'بازِل'

اليوم، وبعد مشاهدتي للعروض الافتتاحيّة في القدس، أستطيع أن أؤكد على أنّه ما من صورة فوتوغرافيّة واحدة تستطيع أن تحكي شموليّة العمل المسرحيّ 'أماكن أُخرى'، وأنّ كلّ صورة 'بازِل' بأكمله، وفي الوقت نفسه، هي بمثابة قطعة 'بازِل' لقصّة أكبر، قصّة الجماعة.

يعيد هذا العمل المسرحيّ الاعتبار إلى قصّة الفرد وخصوصيّتها، ويثير، من جديد، السؤال: 'شو هو الإشي المهم إسّا؟' ويرمي بسلّم الأولويّات إلى البحر. كلّ القصص مهمّة، بلا ترتيب أفقيّ أو عموديّ؛ هي دائرة كبيرة تتّسع مع الوقت، ولكلّ منّا مكانه فيها، في الماضي والحاضر، وكلّ منّا قادر أن يحكي عن الهويّة بالصور والكلمات والآلام والأحلام التي يراها مناسبة.

'أماكن أخرى' نصّ لبشّار مرقص وطاقم المشروع، باشتراك كلّ من الممثّلين/ ات رائدة غزالة؛ شادن قنبورة؛ خلود طنّوس؛ حسام العزّة؛ هنري أندراوس. إخراج بشّار مرقص، وتصميم خشبة مجدلة خوري (سينوغرايفا)، وإعداد مسرحيّ علاء حليحل (دراماتوجيا)، وإضاءة فراس طرابشة، وإدارة إنتاج لورا حوّا، ومساعدة إنتاج سوار عوّاد.

 

رشا حلوة

 

كاتبة وصحافيّة ثقافيّة من مواليد عكّا. حاصلة على بكالوريوس علم الاجتماع وعلوم الإنسان (الأنثروبولوجيا) من جامعة حيفا. تكتب مقالات وتقارير متخصّصة في الثقافة والفنّ، وكذلك الثقافة بمفهومها الأوسع؛ قصص الناس، وطقوس حياتهم، والسفر، وغيرها. حصلت عام 2016 على إقامة صحافة ثقافيّة من 'أكاديميّة العزلة' في مدينة شتوتغارت الألمانيّة، وكان مشروعها خلال إقامتها التي استغرقت خمسة شهور، الكتابة عن حضور الثقافة العربيّة في ألمانيا تحديدًا، وأوروبّا بعامّة، من خلال تغطية نشاطات ثقافيّة وفنّيّة، ومن خلال قصص الناس. تكتب في مدوّنتها الإلكترونيّة 'زغرودة' منذ عام 2007.