ألاقي زيّك فين يا علي: محاكمة ذكوريّة الثورة

رائدة طه

يمكن للمسرح أن يحقّق انطلاقات عديدة في اتّجاهات مختلفة، تستطيع ملامسة الجذور والرؤوس وما بينهما من واقع اجتماعيّ وسياسيّ، فالإنتاج المسرحيّ سعي متواصل إلى ملامسة هذا الواقع والمجازفة، أيضًا، في قراءة الشخصيّ ضمن الإطار الكلّيّ، وإحداث التحام وانفصال وصراع بين الخاصّ والعامّ.

إنّ الشغف في الإنتاج الفنّيّ، غالبًا، لا يميل نحو السرد التوافقيّ، المفهوم ضمنًا والمعروف مسبقًا، بل يميل إلى صيغة نقديّة صداميّة مع العلاقات السائدة. وترى الأدبيّات أنّ الإنتاج المسرحيّ الذي ولد من أجل التسلية العابرة والجادّة، بجانبيها الترفيهيّ والتثقيفيّ، يسعى لإحداث حالة من الشغف، يصبح فيها المسرح تسلية عظيمة نافعة.

عوالم خلفيّة

مسرحيّة 'ألاقي زيّك فين يا علي' التي قُدّمَتْ في فلسطين مؤخّرًا، ضمن جولتين فائقتي النجاح من حيث الإقبال الجماهيريّ، تقدّم شغفًا مسرحيًّا نقديًّا لواقع الثورة الفلسطينيّة الاجتماعيّ والسياسيّ، كما تقدّم قراءة نسويّة مميّزة لمسيرة الثورة، لا سيّما أنّ طاقمها، الذي أشرف على تفاصيلها وإخراجها، نسائيّ. وقد نجحت القراءة النسويّة في خلق تجربة مسرحيّة فرجويّة لافتة، عبر تفاعل النصّ المسرحيّ مع قصص الجمهور.

أتاحت لنا المسرحيّة التي تؤدّيها الفلسطينيّة رائدة طه، ومن إخراج اللبنانيّة لينا أبيض، إطلالة نادرة على عوالم خلفيّة للثورة الفلسطينيّة؛ فحضور رائدة، ابنة الشهيد علي طه، على خشبة المسرح، بما تحمله من مخزون سرديّ، يمكّننا من الخوض في قراءات جديدة لاجتماعيّات الثورة والعلاقات الجندريّة في سياقها. صحيح أنّنا تواصلنا مع بعض أسماء الفدائيّات الرياديّات، اللواتي شكّلن رموزًا لسنوات طويلة، إلّا أنّنا لم نجرؤ على رؤية الجوانب الذكوريّة والسلطويّة في الثورة، ككثير من ثورات العالم، ولم نمتلك نصوصًا جادّة تفسح المجال لنقض تصوّرنا الرومانسيّ لـ 'رجال الثورة'.

لينا أبيض

بين السخرية والجدّيّة، فُتِحَت نوافذ على بيوت عزاء الشهداء، وعلى أمّهاتهم وبناتهم، ومدارس أبنائهم، من خلال قراءة مونودراميّة تمتلك كلّ تفاصيل المشهد الذكوريّ المتعلّق بقيادات وكوادر الثورة الفلسطينيّة، وتمتلك تفاصيل عالم النساء في هذا المشهد، وتحدث خدوشًا مهمّة، مقدّمة محاولة جادّة لفهم موازين قوى وشبكة علاقات تشمل رهبة رجال التحرير وخضوع النساء لهذه الرهبة.

كسر وتحرير

تطغى الكوادر الذكريّة على الإنتاج المسرحيّ في وطننا العربيّ بعامّة، وقليلة هي الأعمال التي تشكّل فيها النساء طاقة إخراجيّة كاملة، وكادرًا تمثيليًّا مبادرًا، مهيمنًا ودافعًا إلى الأمام. وقليلة، أيضًا، الأعمال المسرحيّة التي لا تقدّم كادرًا نسائيًّا عاملًا فحسب، بل تتجاوز الجنس البيولوجيّ نحو تقديم النوع الاجتماعيّ، كحالة فاعلة تنظم الخطاب المسرحيّ بمستوياته كافّة، وتحدّد سقف نصّه، ليس بما يتناسب مع منطق العرض والطلب، بل لتقدّم الأنا الأنثى عبر تفاصيل هي تقرّرها من دون اعتبارات مقصّ الجمهور.

يحاول النصّ المسرحيّ في 'ألاقي زيّك فين يا علي'، والعمل بمجمله، تحرير المرأة من أمكنتها المعدّة لها سلفًا في العمل الوطنيّ والاجتماعيّ. مع أنّ النصّ شخصيّ للغاية، إلّا أنّ النصّ الجيّد هو الذي ينجح في أن يحمّل المونودراما الشخصيّة سيرة الناس، وهموم العامّة وأزماتهم؛ فبعيدًا عن الإحساس بالتفوّق النسويّ المعروض في الجزء الثاني من المسرحيّة، والمتمثّل بكفاح الأخت لاستعادة جثّة أخيها الشهيد، إلّا أنّها تحاول عرض توازن بين الأفراد وتحريرهم جميعًا، وخلق علاقات إنسانيّة لا تسلّم بدونيّة الدور النسائيّ. النصّ المسرحيّ، هنا، تحدٍّ للوجع الشخصيّ، بل تحريره، وكسر لنمطيّة المرأة، زوجة وابنة وأخت الشهيد، التي من هذه المكانة تمتدّ مكانتها الاجتماعيّة الرمزيّة المقدّسة، دون اكتراث لأهوائها، ودون التفات لأحلامها وكينونتها، ولا حتّى للمخاطر المحدقة بها.

ذكوريّة

شكّل العمل المسرحيّ قدرًا من انتفاض المرأة على الذات وعلى الموروث الداخليّ، ببعديه الشخصيّ والعامّ، ليحوّل جسد الممثّلة، وحركتها، ونظراتها، وصوتها، إلى حركة متكاملة ترفض الكبت وتعرّي الأشياء من حولها. ما زالت الممثّلة تدرك العالم الذكوريّ الثوريّ المحيط بها، إلّا أنّها نجحت في خلق حركة دراميّة تمرّر خطابًا غير اعتياديّ حول علاقتها بذاتها، وعلاقاتها هي بذواتنا، وبالتالي تترك أثرًا في علاقتنا نحن بالذات. نجحت رائدة طه في جمع أحاسيس الطفولة، والوجع الجسديّ والنفسيّ، وأوجاع المحيطين بها، وأنفاس المتربّصين بجسدها، وتحويل سيرتها وسيرة والدها وأمّها وعمّتها إلى شغف مسرحيّ يواجه خدوشنا وجروحنا.

قد لا يكون الطرح النسويّ هو الموضوع الشاغل للمثّلة المؤلّفة، إلّا أنّ المسرحيّة حين تنطلق، يصبح سقفها الخطابيّ ولغتها ملكًا للمشاهد أيضًا، فالمرأة التي تخرج ذاتها من خانة التبعيّة 'لذكوريّة الثورة'، وتتناول المخزون النقديّ تجاه هذه الذكوريّة لتحوّله إلى نصّ مسرحيّ لاذع وساخر، فإنّها توجّه طرحًا نسويًّا نقديًّا مهمًّا، تجلّى، أوّلًا وأساسًا، بكتابة هذا النصّ المسرحيّ من قبل امرأة.

مساحات نسويّة

إنّ صورة المرأة الخاضعة للقوى السلطويّة الذكوريّة، على المستويين الاجتماعيّ والسياسيّ، في وطننا العربيّ بعامّة، أدّت إلى نشوء مساحات مسرحيّة نسويّة، وإن كانت محدودة، تتّصف بالتمرّد على هذه القوى؛ فشهدنا بعض الطاقات الإخراجيّة والتمثيليّة المنتفضة على البنى السائدة، وكان للمخرجة اللبنانيّة لينا أبيض مساهمة جادّة في نشوء هذه المساحات.

في 'ألاقي زيّك فين يا علي'، أدّت أبيض دورًا فنّيًّا وفكريًّا في خروج العمل بهذه الصيغة التي تدمج بين الخاصّ والعامّ، بين الذاتيّ والسياسيّ، وهو ما ركّزت عليه في أعمال مسرحيّة سابقة كـ 'سجن النساء'، إذ تسلّط الضوء في أعمالها على كيان المرأة وتحرّره، وتصرّ على الربط الأيديولوجيّ بين وجود الكبت في الحيّز الخاصّ، وخضوعه لآليّات قمع عليا مرتبطة بالمستوى السياسيّ.

بعيدًا عن الخطابيّة

شكّل نصّ رائدة طه فرصة إضافيّة لعصف فكريّ وفنّيّ لدى لينا أبيض؛ فأمامنا نصّ كتبته امرأة، في واقع مسرحيّ يتّسم بندرة النصوص النسائيّة، وواقع تتداخل فيه الحالة الفلسطينيّة بالحالة اللبنانيّة، والذي شكّل في ذهنيّة المخرجة، كما أرى، منظومة معرفيّة رصينة، حقيقيّة ومعيشة، مكّنتها من الإلمام بأحاسيس النصّ، وتفاصيله، وشخوصه، وأوجاعه، وأحلامه. شكّل النصّ في نظر المخرجة مادّة فكريّة إخراجيّة جريئة؛ والجرأة في الأعمال المسرحيّة المتعلّقة بالمرأة، غالبًا ما يرتبط مفهومها بالجنس، إلّا أنّ الجرأة التي وفّرها النصّ هنا مختلفة، هي جرأة الخوض النصّيّ والمسرحيّ في واقع المرأة، من خلال رهبة وقدسيّة المشهد الاستشهاديّ الذي يحيّد ويقصي، غالبًا، كيان المرأة.

وقد نجحت أبيض في إحداث انتقال موفّق من الفضاء الفلسطينيّ اللبنانيّ إلى الفضاء الفلسطينيّ الداخليّ، والانتقال من واقع المرأة التابعة في المشهد الفلسطينيّ اللبنانيّ، إلى واقع السيّدة المبادرة المتحدّية على الأرض الفلسطينيّة، وذلك متمثّل بدور عمّتها. وتنجح الممثّلة والمخرجة، في تجربتيهما المتداخلتين، في إيجاد التوازن بين اللغة المسرحيّة والحركات الفنّيّة والمضامين الفكريّة التحرّريّة، من دون الوقوع في مطبّ الخطابيّة السياسيّة التي تفقد الحالة المسرحيّة خصوصيّتها.

ملحميّة وسخرية

في معالجتها المسرحيّة، قدّمت أبيض خلفيّة متواضعة، لكنّها حيّة ومؤثّرة وتولّد النوستالجيا. شاشة خلفيّة تستعرض شريط صور من مسيرة الثورة الفلسطينيّة، يتداخل فيها شخص وجسد الشهيد مع مشاهد أخرى وأغانٍ ثوريّة. أهمّ هذه المشاهد التي أبدعت المخرجة في تقديمها، صور العزاء بسواده الطاغي، والقهوة والكراسي، وما يتضمّنه المشهد من قطبيّة في مكانتي الرجل والمرأة. في حين كان نبض الممثّلة يسير بدقّة كبيرة ومتوازية نحو تنفيس وتبسيط دراماتيكيّة المأتم الذي لا نجرؤ على السخرية من تفاصيله المقيتة، إلى أن تقوم بتفكيك الحدث الجلل وتفجير كمّ هائل من الضحك.

الشاشة تضفي على المسرحيّة بعدًا ملحميًّا، من عرض صور لقيادات الثورة وشهدائها وأغانيها، وعلى الخشبة ثمّة سخرية تولّدها طه، ولسان حال الجمهور 'مش عارف أضحك وِلّا أبكي!' وفي هذا ذكاء إخراجيّ كبير.

كان للانتقاء المحدود لإكسسوارات العمل المونودراميّ دور في التركيز على الممثّلة الواقفة على المسرح والتحديق في تعابيرها، في حركتها ولون لباسها، لون أريكتها، بل وتوقّع أن يلتقط الجمهور أنفاسه عند تناولها كوب الماء.

قليلة هي الأعمال التي تنجح في أن تجمع بين السيناريو المسرحيّ المحدّد والحالة الجمعيّة المرتبطة بالجمهور على نحو دقيق وكبير، وقليلة هي الأعمال التي تحوّل التابوهات والمواقف الجادّة إلى حالة ضحك عارمة، وتحوّل المسرح الساخر من حالة يتقنها ويعيها الفنّان إلى حالة يتحوّل فيها الجمهور إلى شريك في العمل. وبهذا، تتوافق هذه المسرحيّة مع مقولة المسرحيّ برتولد بريخت، إنّ المسرح يستطيع أن يقترب إلى أقصى حدّ من استعمال تفاصيل الحياة موادّ للتسلية المستخلصة من الحوادث التاريخيّة والاجتماعيّة، ويمنح المشاهد فرصة التمتّع بالأخلاقيّة التي تتّحد بالنشاط الإنتاجيّ.

برد شديد

استطاعت المسرحيّة هذه في جولة عروضها، وأخصّ عروض مدينة القدس، أن تخلق حالة 'مشاركة' حسّيّة لدى شريحة كبيرة من الجمهور، فلا يمكنهم إلّا أن يصبحوا جزءًا من تفاصيلها وأوجاعها، وأن يشعروا أنّ النواة المحرّكة للنصّ المسرحيّ، جثّة الشهيد المحتجزة في ثلّاجة، هي نواة قصّتهم.

كان ثمّة نوع من ولادة 'النشوة' المسرحيّة لدى الجمهور؛ فكان الضحك من الحالة الجماعيّة المتعثّرة التي نهاب أن نحوّلها إلى حالة ساخرة، وفي الوقت ذاته البكاء على سخريتها. لقد حوّلت سيّدة قصّتنا جميعًا، إلى حالة لهو وحزن. هذه النشوة تصل ذروتها حين يتحدّث الكثيرون بعد العرض عن شعورهم ببرد شديد في الظهر والكتفين، متأثّرين من سرديّة ثلّاجة الشهيد. يضاف إلى هذه التجربة الفرجويّة، لقاء واحتضان بين عدد من الحاضرين والحاضرات الذين يحملون أوجاع قصص مشابهة، والممثّلة رائدة طه.  

تقرير مصير

لا يمكن قراءة المسرحيّة بصفتها إنتاج يضاف لسلسلة الأعمال الموجودة حول الحقّ الوطنيّ في تقرير المصير فقط، بل هي تطرح طرحًا إضافيًّا حول تقرير مصير المرأة أمام محاولات الهيمنة على شكل أوجاعها، وعلى حدود مشاعرها وتعابيرها الحسّيّة والجسديّة. محاولات تحرير جسد الشهيد رافقه انتفاض أخته على الواقع الذكوريّ، وانتهى بنصّ مونودراميّ استثنائيّ، صاغته ابنة الشهيد لينطلق خطابًا سياسيًّا، واجتماعيًّا تحرّريًّا، وقبل كلّ شيء، ولادة عمل فنّيّ متميّز.

يقول بريخت، مجدّدًا، إنّ على المسرح أن يندمج في الواقع بقوّة إذا كان يريد له الحقّ والإمكانيّة في خلق صورة أكثر صدقًا لهذا الواقع. لم يكن لهذا العرض أن يقف مثل هذا الموقف لولا التحامه بالوقائع الاجتماعيّة والسياسيّة والشخصيّة، لتقديم متعة نافعة حول مسائل كبرى.

 

 

فايد بدارنة

 

من مواليد قرية عرّابة في فلسطين. باحث في العلوم السياسيّة، حاصل على البكالوريوس في علم الاجتماع والإنثربولوجيا والعلوم السياسيّة، والماجستير في مجال السياسات العامّة من الجامعة العبريّة في القدس، كما يحمل شهادة في الدراسات الثقافيّة. يحضّر لرسالة الدكتوراه في موضوع المجتمع المدنيّ وبلورة الهويّة الوطنيّة في الجامعة العبريّة. كتب عدّة مقالات في السياسة، والنقد الموسيقيّ والمسرحيّ، والسينما.