مرّة نصرواي وغزّاوي وخليلي فاتوا على "ستاند – أب كوميدي"

JAMES HEIMER

 

لا تخلق كوميديا الـ "ستاند - أب" وهمًا، لا تختلق قصّة ولا توثّق واحدة، لا تسرقنا ساعة من هذه الكوميديا إلى مكان أو زمان عينيّين، إنّما تُبقي الناس في مكانهم وزمانهم وتنطلق منهما. يأتي المسرح عاريًا؛ لا أقنعة ولا "سينوغرافيا"، لا حبكة ولا مقولة. لا تشتغل هذه الكوميديا في بناء واقعٍ ونقله، إنّما تُبنى على صور الواقع المعروفة للناس – من حالات اجتماعيّة، وأحداث تاريخيّة، ولحظات إنسانيّة حميميّة، ومواضيع الساعة، وشخصيّات سياسيّة - وتحوّلها موضوعًا لفعلتها الأساسيّة: تؤوّلها حتّى تكشف المفارقة "المضحكة" فيها.

 

منطقة "الدناءة"

يعمل فنّ الـ "ستاند - أب" في منطقة تسمّى "الدناءة" أو "الحقارة"، منطقة "النبذ"، وهي ترجمات مختلفة لمصطلح Abjection، مثلما تُستخدَم في نصوص العربيّة الّتي تتناول أفكار جوليا كرستيفا. فلنُفسّر: تُطلق كرستيفا هذا الاسم على ما يسقط بين الذات والموضوع، بين الأنا والشيء الآخر، "ما يسقط بين الذات والموضوع" جزء منّا، من ذاتنا، من جسدنا مثلًا، لكنّه في الوقت نفسه خارجنا – شيء آخر نرفضه، نرفض أن يكون جزءًا من ذاتنا؛ البول مثلًا، أو الدم، أو العرق، أو اللعاب، أو الأظافر، هي جزء منّا، لكنّ هذا الجزء في الوقت ذاته يتناقض معنا. هذا التناقض الّذي يهدّد حدود ذاتنا الواضحة، هو العامل الجوهريّ في شعور القرف أو الغثيان، وينسحب هذا على مجالات أخرى، منها الاجتماعيّة والأخلاقيّة، وفي كلٍّ منها يمكن الوصول إلى هذه المنطقة "المقزّزة"؛ وذلك من خلال تهديد الحدود الواضحة لذاتنا الفرديّة أو الجماعيّة (كشف هشاشة القانون، وكشف النفاق الدينيّ، إلخ ...). تقول الفيلسوفة البلغاريّة - الفرنسيّة: "ليس نقص النظافة أو الصحّة ما يؤدّي إلى الدناءة، إنّما ما يزعزع الهويّة".

هذا التناقض الّذي يهدّد حدود ذاتنا الواضحة، هو العامل الجوهريّ في شعور القرف أو الغثيان، وينسحب هذا على مجالات أخرى، منها الاجتماعيّة والأخلاقيّة، وفي كلٍّ منها يمكن الوصول إلى هذه المنطقة "المقزّزة"؛

 

يستخدم الكاتب والباحث الأمريكيّ جون ليمون هذا الإطار النظريّ؛ ليصف فنّ كوميديا الـ "ستاند – أب": "إنّ ما ينتصب في الـ ’ستاند – أب‘ هو الدناءة، الـ ’ستاند – أب‘ هو الطريقة لإبراز الدناءة؛ ومن ثَمّ العبث بها. الكوميديا هي طريقة لإعلان الدناءة والتنصّل منها، في الوقت ذاته".

 

بئر من تحت أقدامنا

كلّ نكتة في عرض "ستاند – أب كوميدي" مؤلّفة من قسمين: استعراض لحالة إنسانيّة، ثمّ تفجيرها بواسطة كشف دناءتها. المعطى الأساسيّ الّذي لا يتغيّر في أيّ عرض "ستاند – أب"، أنّه في الجزء الأوّل من النكتة، "التجهيز Setup"، تُستحضر حالة إنسانيّة نحن جزء منها، ثمّ تأتي الضربة "Punch-Line"، لتقلب هذه الحالة الإنسانيّة إلى مفارقة مستهجنة ومستنكرة، وكلّما عرفنا هذه الحالة الإنسانيّة بشكل أفضل، تماهى المشاهد مع الحالة المستحضرة، وشعر بأنّها تمثّله - أيْ جزءًا من هويّته وذاته - وكانت الضربة أثقل؛ فتصبح حينئذٍ مضحكة أكثر، وكلّما كانت "الحالة الإنسانيّة" جامعة لأكبر نسبة من الجمهور، ربح الفنّان أكبر قدر من الضحك.

يعرّف جون ليمون فنّ الـ "ستاند – أب" بأنّه "يحوّل ما يُفترض أن يكون أفقيًّا ’ظاهريًّا‘ إلى عموديّ ’باطنيّ‘. إنّ الجزء الأوّل من النكتة يجعلنا نقف على سطح ما". كلّما كانت "الحالة الإنسانيّة" أقرب إلينا، كنّا أكثر تماهيًا معها، وكلّما كانت معرفتنا بها واقفة بحدّة ووضوح على هذا "السطح"، كانت الضربة في نهاية النكتة تفتح، بلحظة واحدة مفاجِئة، بئرًا من تحت أقدامنا، وكلّما كان وقوعنا أعنف، كان الضحك أعلى؛ عمليًّا: يورّطنا الفنّان، في أن نشعر بأنّ ما يتحدّث عنه جزء من ذاتنا، ثمّ تأتي الضربة لتحوّله إلى نقيضنا، إلى ما نستغرب منه ونستهجنه، ولا نفهم منطقه، ويهدّد حدودنا ونظامنا الاجتماعيّ والحياتيّ الواضح. هذا ما يجعل كوميديا الـ"ستاند - أب"، غير مرتبطة بأيّ شيء غير جمهورها.

إنّ النظريّات الأساسيّة الّتي تتعامل مع الـ "ستاند – أب" على أنّه فنّ قائم بذاته، تضع الجمهور في مركز إطارها النظريّ، وتميّز الـ "ستاند – أب" بأنّه فنّ، لا محكمة عليا فيه إلّا ضحك الناس

 

إنّ النظريّات الأساسيّة الّتي تتعامل مع الـ "ستاند – أب" على أنّه فنّ قائم بذاته، تضع الجمهور في مركز إطارها النظريّ، وتميّز الـ "ستاند – أب" بأنّه فنّ، لا محكمة عليا فيه إلّا ضحك الناس: 1 - إذا ظنّ الجمهور أنّه مضحك فإنّه مضحك. 2 - النكتة غير مضحكة إلّا إذا ضحك الجمهور. 3 - ضحك الجمهور هو الخلاصة الوحيدة للـ "ستاند – أب". لماذا؟ لأنّه فنّ لا يعمل إلّا من خلال زعزعته لهويّة الجمهور، ولحدوده الشخصيّة، ولتصوّرنا (مخيّلتنا) الفرديّ والجماعيّ تجاه ذاتنا.

 

سؤال فلسطينيّ

البحث في هذا الإطار النظريّ للـ "ستاند - أب كوميدي" يؤدّي إلى سؤال فلسطينيّ: ما الّذي يحدث عندما تكون الهويّة ممزّقة؟ ما الّذي يحدث، عندما تنعدم العوامل الّتي تخلق مخيّلة مشتركة، وهويّة "مُهيمنة ومنسجمة" للناس؟ كيف يمكن فنًّا لا يرتبط بشيء غيرها، أن يتعامل معها؟ فهذه مخيّلة لا تنشأ بعفويّة؛ إنّما هي صنيع "الوكالة الأيديولوجيّة" للدولة، الّتي تقول للناس "في الدول القوميّة الحديثة" ما المركزيّ، وما حدود "الأخلاقيّ"، وأين تنتهي "الحرّيّة"، وما "الرموز" الأساسيّة، وغير ذلك كثير.

إنّ مناطق التجربة الحياتيّة المشتركة لكلّ الفلسطينيّين ضيّقة ومخنوقة، والامتداد الجغرافيّ مقطّع، وطبيعة السلطة السياسيّة مختلفة وتخلق ثقافات سياسيّة مختلفة، والاقتصاد والمعيشة يختلفان، ومناهج التعليم، وأنماط الترفيه؛ وهذا كلّه يعدم وجود "التيّار المركزيّ" (Mainstream) المشترك للكلّ، وهو ليس إيجابيًّا بالضرورة؛ بل قائم على طمس هويّات وإعلاء واحدة، في اللغة والفنون ومواضيع الساعة وغيرها.

تعتمد الفنون كلّها على إطار المخيّلة الموحَّد هذا، على الهويّة الواحدة. كيف يتعامل الـ "ستاند – أب كوميدي" مع وضعٍ تتشتّت فيه المخيّلة المشتركة؟ كيف "يخلق اضطرابًا في حدود الهويّة" أمام جمهور هويّته غير متماسكة هشّة الحدود؟ وهل يشكّل هذا المعيقَ الأساسيّ في وجه الكوميديا الفلسطينيّة؟

 

تعتمد الفنون كلّها على إطار المخيّلة الموحَّد هذا، على الهويّة الواحدة. كيف يتعامل الـ "ستاند – أب كوميدي" مع وضعٍ تتشتّت فيه المخيّلة المشتركة؟ كيف "يخلق اضطرابًا في حدود الهويّة" أمام جمهور هويّته غير متماسكة هشّة الحدود؟ وهل يشكّل هذا المعيقَ الأساسيّ في وجه الكوميديا الفلسطينيّة؟

 

أهل كفر ياسيف

هذه المعضلة الّتي يحتاج فنّ الـ "ستاند – أب" إلى أن يفكّ شيفرتها: هل يمكن "شورت" جبريل الرجوب أن يكون مضحكًا في الناصرة؟ هل يمكن نكتة عن زهير فرنسيس أن تفجّر ضحك الناس في النقب؟ هل نكتة عن قضيّة شهاب الدين يمكنها أن تجعل الناس يدمعون من الضحك؟ هل نكتة غزّيّة، عن العادات اليوميّة في ظلّ انقطاع الكهرباء، يمكنها أن تلمس الجمهور في حيفا؟ وهل نكتة جنسيّة - ولو أضحكت الجميع - يمكنها ألّا تنتهي برشق المسرح بالـ "مولوتوف"؟ أم أنّ وظيفة فنّان الـ "ستاند - أب" البحث دائمًا عن نكتة مشتركة بين جميع الفلسطينيّين، مثل أنّ أهل كفر ياسيف لا يصلون إلى العرس، قبل منتصف الليل ... فهذه قد تكون معرفتنا الجماعيّة الوحيدة ...

 

مجد كيّال

 

صحافيّ وروائيّ. وُلد في حيفا عام 1990 لعائلة مهجّرة من قرية البروة. صدرت له رواية "مأساة السيّد مطر" عن الدار الأهليّة، ودراسة "كيف يتغيّر النظام الصهيونيّ؟" عن مركز "مسارات".