«بيوت»... مثل صندوق العجب

العرض الأدبيّ المسرحيّ «بيوت»

 

مربّع يعتليه مثلّث، يتوسّطه باب مغلق يفتقر غالبًا إلى يد لفتحه، وعلى جانبَي الباب شبّاكان صغيران ذوا أربع قسائم قد تكون زجاجيّة، وشجرة ربّما تكون مثلّثة كالسروة أو بيضويّة مجعّدة الحوافّ كبرتقالة تزيّن أحد جانبَي البيت. هذا هو بيتي الّذي كنت أحرص على رسمه في طفولتي – كما كان معظمنا – بيت يلتصق بالأرض بعيدًا عن طوابق الأعمدة الّتي قضيت فيها أيّامًا طويلة، من صيف طفولة أنهكها اللعب تحت أشعّة شمس حارقة، تحوّلت هذه في ما بعد إلى مصفّات للسيّارات المتكاثرة بين بيوتنا.

بيتي على الورق قد يكون ملعبًا للرغبة في العيش في حيّز صغير حميميّ الأجواء، وحيدًا في مكان مجهول تحيطه السماء والشمس، يحلّق فوقه عصفوران، وربّما غيمة وجبل بعيد. يزداد جمال بيوتنا على الورق حين نبعث فيها حياة الألوان، لكن لطالما كانت دواخل بيوتنا هذه سرًّا.

 

«بيوت» على شاكلة بيوتنا

على شاكلة بيتي المرسوم على الورق، تُحْمَل إلى مسرح العرض الأدبيّ المسرحيّ «بيوت»*، من إخراج كامل الباشا، ستّة مجسّمات كرتونيّة ثلاثيّة الأبعاد، ذات ضوء خافت يبعث الحياة في أحياز مغلّفة بلون الأسمنت الرماديّ، كأنّها بيوت الرواة السبعة الّذين يفتحون برفق أبوابًا، ويقتادون عواطفنا وأذهاننا نحو حكايات قد تكون وليدة الحقيقة أو نسج خيال.

يستحيل وضع معرفة الرواة أو الصداقة معهم جانبًا، مع ذلك، فإنّ البساطة في الأزياء والديكور، والهدوء الّذي يفرض نفسه، جديرة بجعلنا نحاول، بكلّ ما أوتينا من إصغاء، متابعة السرد والسير بالنظر إلى حيث ينظر كلّ راويةٍ وراوٍ، هناك في أفق قصير المدى تُلْقى الكلمات وتُتْرَك؛ لتحوم في هذا الفضاء الّذي يجمعنا لنكتشف أنّنا جميعًا شركاء في التجارب والآلام، وتفاصيل ما قد يُعْتَقَد أنّها أسرار البيوت.

 

من العرض الأدبيّ المسرحيّ «بيوت»

 

يأخذنا إياد برغوثي في جولة بين كراتين تنقّلت من بيت إلى آخر، يكشف محتوياتها المُضْجَرَة بالاختبارات الإنسانيّة، ويفتح شبّاكًا يطلّ على صراع قوميّ وآخر وجوديّ، عابق برائحة المواليد الجُدُد. كراتينه محطّات ذكريات تتركّب من تفاصيلها قصّة شريكين كأنّهما شاحنة نقل، يحملان في قلبيهما بيتًا ومحتوياته، وخرائط ترميماته المنهكة، وزوّاره، والكورونا، وأنفسهما، ويطوفان به بين مدينة وأخرى، أو قد يكون بين شارع وآخر في ذات المدينة تلك، كما العديد من الأزواج الشابّة العرب.

ترشّ رجاء غانم بعض رذاذ الأمل على يد متعبة لأمّ ترهقها طلبات أحبّتها من سكّان البيت، هي واحدة من تلك النساء الّتي تبني البيت مجازًا بالإرادة والحبّ. يمرّ اعترافها أمام أعيننا صورًا لامرأة عصاميّة قد تكون أحاديّة الوالديّة، أو زوجة تتقن فنّ الكتابة الّتي تروي الروح؛ فتتفتّح منها ذكريات في بيت اغتيل في مدينة بعيدة أرهقتها الحرب.

 

ألبومات البيوت

بنصّ غنيّ بالاستعارات، يقف علي قادري أمام ألبومات البيوت، يطالع أوراقًا تحمل ذكريات قد يرغب الناس في نسيانها أو تذكّر ما قد نسوه. نستشعر فجأة أنّ ألبوماتنا زرّ يعيد إحياء تيّار الحنين، فيسري في التفاصيل الصغيرة الغائبة. ذكّرنا عليّ أنّ الحجارة قصص؛ فكلّ حجر في البيت قد يكون مخزن ذكريات، تصطفّ الحجارة جنبًا إلى جنب دون حراك، مؤدّية واجبها كما هو حال الألبوم.

تطرق مي كالوتي باب غضبي، مذكّرة إيّاي بأمّي المهووسة ببياض الغسيل الناصع، والزجّ بالأغراض إلى أقصى كلّ رفٍّ حدّ الالتصاق بالحائط، مثل كثير من النساء حولنا. تستفزّ مي ما نعرفه ونتجاهله من تفاصيل الحياة اليوميّة في البيت، الّذي يتشاطر والمهنة والزوج والأولاد حصصًا من طاقات النساء، مطيعات نداء واجب التنظيف، وهوس التأكّد من كلّ شيء مرّتين، كأنّهن ناقصات عقل وتركيز.

يجدّد محمود أبو عريشة رعشة الخوف فينا، الخوف الّذي يزرعه كبار كلّ بيت في الصغار؛ رغبة منهم في السيطرة على التصرّفات الطفولية الشقيّة، يعيد للأذهان ما قد غاب عنها من شخصيّات مرعبة، مصحوبة بموسيقى فترات زمنيّة من تاريخ «التلفزيون الأردنيّ» الّتي كانت تسحر مسامعنا. يوقظ الخوف من العتمة والنسيان وهجران الأمّ، يوقظ الحنين إلى هيبة التصريحات السياسيّة المصيريّة، وعبئًا قد يحمله الوليد بسبب سنة ولادته.

 

من العرض الأدبيّ المسرحيّ «بيوت»

 

يطلّ علي مواسي حاملًا قصّة قد تجوّلت سنوات طوالًا بين جذوع زيتونات وادي الخرّوبة، يغازل الأرض وما عليها من حيوات تحمل رائحة تشرين. تصبح هوامش البلدة فجأة لوحة فنّيّة تتعثّر فيها الألوان بين النحاسيّ والأخضر والبنّيّ، وتشتبك أصوات الحيوانات بصوت لهاث أطفال يتراكضون. تكبر حكاية طفل، ومواسم غنيّة، تلاصقها حكاية مستعمرة تنهش بهاء المكان، وتغيّب بشرًا كانوا يستلقون هنا في نهاية نهار زراعيّ حافل لالتقاط صورة.

تحمل فردوس حبيب الله قلبها وتدخل به مسارات دموعنا، فرغم أنّها تبدو كمَنْ تعلّمت السير بين النقاط وإن كانت دمًا، لم يكن من السهل أن نتجاهل أحد قلبيها وهو يطوف، ما بين حضورها على المسرح وصوت الابتهالات في الخلفيّة. دخلنا بيتها ورأينا قلبًا يهوي وينكسر، بعد أن تعلّم كيف يأكل وينام ويغتسل ويجلس في حضن دافئ، يتابع برنامجًا تافهًا في التلفزيون. نعيش معها تجارب الأمّهات وهنّ ينجبن قلوبًا صغارًا ويفتحن لهم بالقلوب شبابيك الحياة لينطلقوا منها.

 

صناديق تحفظ الذاكرة

هذا العمل ببساطة قالبه الخارجيّ مثل ’صندوق العجب‘، تفتح أبوابه فتخرج منه نصوص مسرحيّة نواتها تجارب الجسد أو القلب أو الروح، يقف فيها الراوي مصارحًا ومشاركًا، كأنّه يفتح لنا باب بيته ويتركنا نحوم فيه ونستكشف لنروي ظمأ حبّ استطلاعنا؛ فنفتح الكراتين والألبومات ودفاتر الشعر المخبّأة بين كتب مهملة، وننبش سلال الغسيل، ونشمّ رائحة مكبّات النفايات، وتتجسّد أمامنا ساحرات طويلات الشعر مخيفات، وبعض الصور من الأخبار المحلّيّة. ربّما نتساءل عن ارتباط كلّ نصّ بقائله، ولا نقوى على ألّا نفعل، إذ نتقاسم مع هذه النصوص الكثير من التجارب الجمعيّة، والكثير من الضحك، وأطنانًا من الانفعال.

 

من العرض الأدبيّ المسرحيّ «بيوت».

 

لا يمكن للكراتين ولا الجرائد ولا المخازن المقفلة أن تغلّف الذكريات وتحميها من الفقدان، لكنّ النصّ قادر، والصورة، والشريط المصوّر، والموسيقى كذلك. لم تكن هذه بيوت أصحابها فقط، هي بيوتنا جميعًا؛ فالمشاهد يشعر أنّ بإمكانه استبدال الراوي، أو استبدال شخصيّة مألوفة الرائحة والملمس بشخصيّاته، فأنا وأمّي وحارتنا النائية والجبل القريب والنبعة، وكراتين الجرائد القديمة المدفونة تحت الدرج، وألبومات صور أبي واقفًا بين أعمدة البنايات في طبريّا، وصورة نظّارتي الأولى الفضّيّة اللون، وصور احتفالاتنا بميلاد أخي الصغير، أو زيارة أقاربنا من مخيّمات اللجوء، ولوحة تحمل خبر تنحّي عبد الناصر، مع شريط أسود على طرفها الأيمن كأنّها إعلان وفاة، وزجاج الباب الأخضر الّذي كسره ابن عمّي وهو يقلّد لاعبي المصارعة، وساحة بيتنا الخشنة الّتي تتّسخ المرّة تلو الأخرى بسبب أوراق الشجر، ورائحة ياسمينة كبرت في حاكورتنا، رغم أنّي سرقتها من حاكورة أحد البيوت المجاورة للمدرسة وأنا في الصفّ الرابع، وجدّتي آمنة الجالسة في الغرفة الغربيّة تحمي شنطة بيضاء اللون مثقلة بعلب الأدوية، كأنّ حياتها معلّقة بها، ورائحة شعرها المصبوغ بالحنّاء، وتجاعيد يدها وهي تمسك سمّاعة هاتف ذي قرص، تستمع إلى أصوات بعيدة، وتبكي أخاها الرازح تحت القصف... كلّ هذه قامت فجأة من سباتها؛ فقد لاقت ما يشبهها في هذا العمل.

خرجت من بيتي محصّنة بعطش لحدث ثقافيّ، ودخلت قاعة المسرح معتقدة أنّني سأشاهد سبعة أشخاص، يلقون على مسامعنا بعضًا من نصوصهم الشعريّة أو الأدبيّة، وقد حيكت بشكل إبداعيّ يسهّل ارتباطها والتنقّل في ما بينها. لم أكن أعرف أنّي سأدخل بيوتًا أخرى، وسأجلس مستمعة ومستمتعة، وأخرج وقد فاضت منّي مشاعر حنين لطفولتي الّتي تبعد عنّي مسافة أربعين عامًا، لأشخاص أفتقدهم فلا أجد غير صور لمواساتي، أو ربّما افتعال حديث يعيد حضورهم رغم غيابهم وترديد أسمائهم على مسمعي، وحبًّا حتّى الدمع لأشخاص غابوا عنّي للأبد، تاركين على جبهتي وحاجبيّ ندوبًا تحفظ الذكرى.

 


 

* العرض الأدبيّ المسرحيّ «بيوت» (2022)، إخراج كامل الباشا، بمشاركة مجموعة الكتّاب والشعراء إياد برغوثي، رجاء غانم، علي قادري، علي مواسي، فردوس حبيب الله، محمود أبو عريشة، مي كالوتي.

 


 

سماح بصول

 

 

 

مواليد الرينة في الجليل. ناقدة سينمائيّة، وكاتبة في مجال الفنون البصريّة والأدب. تحمل شهادة البكالوريوس في«الأدب المقارن»  والماجستير في «ثقافة السينما».