«قيد الانتظار»... حيوات في قبو الذكوريّة

من مسرحيّة «قيد الانتظار»

 

تسرد مسرحيّة «قيد الانتظار»، تأليف غسّان ندّاف وإخراج خليل البطران، والحائزة على المركز الثالث في مسابقة التأليف المسرحيّ لـ «الهيئة العربيّة للمسرح»، لقاء بين صوفي (شذى ياسين)؛ امرأة في أربعينيّة موت زوجها، ونبيه (منذر بنّورة)؛ دائن جاء إلى بيت الفقيد لاسترجاع نقوده. في البداية يَصعب تحديد ماهيّة العلاقة بين هذين الغريبين وماَلاتها، وسرعان ما تتحوّل لحظة لقائهما إلى ملحمة من الأفكار والمشاعر، وكأنّها لحظة بنيويّة يسبق ظهورها على السطح سنوات من التشكّل، ولها امتداد تاريخيّ ونفسيّ يتكثّف على خشبة المسرح، طارحة قضايا اجتماعيّة أبرزها الأدوار الجندريّة، والعيش في ظلّ منظومة ذكوريّة، وحالة وجدانيّة تُحاكي لحظات انكشافنا على ذواتنا في حضور آخر يشبه مرآة تنعكس فيها مخاوفنا وقلقنا وماضينا بما يحمل من ثقل؛ لتصبح علاقتنا به بمنزلة تجربة نفسيّة نتغيّر بها ومن خلالها، ونمرّ عبرها في مسارات من التحوّل تحتمل مجموع ذواتنا ونُسخنا المختلفة.

 

نبيه وصوفي... الرغبة أو الاختيار

نبدأ بالتعرّف على نبيه وصوفي بالتوازي، من خلال تفاعلهما مع بعضهما بعضًا؛ إذ لا نستطيع أن نتعرّف على واحد بمعزل عن الآخر؛ الأمر الّذي يتماشى مع  فكرة المرآة برمزيّتها، المرآة فعلَ انعكاس نفسيّ لا مجرّد أداة تعكس لنا هيئتنا الخارجيّة؛ فالمرآة الّتي كانت جزءًا من ديكور المسرحيّة لم تكن حقيقيّة، كانت عبارة عن لوح شفّاف يسمح للجمهور رؤية ما خلفه، وكـأنّ في هذا إشارة تدعونا إلى البحث عن المرآة الحقيقيّة داخل سياق المسرحيّة.

المرآة فعلَ انعكاس نفسيّ لا مجرّد أداة تعكس لنا هيئتنا الخارجيّة؛ فالمرآة الّتي كانت جزءًا من ديكور المسرحيّة لم تكن حقيقيّة...

نبيه؛ الشابّ العمليّ والمنطقيّ، وصوفي؛ الأنثى الحالمة والمثقّفة والعاطفيّة، الّتي تزوّجت في سنّ الثامنة عشرة، ولم يكن بحوزتها من التجارب إلّا أربع عشرة دورة شهريّة، وعشرة أقلام أحمر شفاه. وكان زوجها ذو النفوذ والسلطة، لا يرى بها إلّا جسدًا ووجهًا جميلًا، حيث لم يكن يسمعها أو يناقشها، بل لم يكن قادرًا على إدراك كينونتها، وريثما كان يملّ منها يذهب إلى نساء أخريات، وبهذا فقد كان يختزل كيانها كلّه، ويتغاضى عن وحدتها وكلّيّتها، وبالتالي حقّها في الإرادة الحرّة الواعية، أو الرغبة أو الاختيار.

يُطلق مصطفى حجازي على هذه الوضعيّة الوجوديّة مصطلح الهدر، ويُعرّفه على أنّه حالة اعتداء شخص ذي قوّة على الحصانة والقيمة، وحقّ الوجود لشخص آخر أقلّ قوّة، ويشكّل تهديدًا وجوديًّا لقيمته واعتباره  الذاتيّ، أو يعرقل ويعيق صناعة مشروع وجوده وصيرورته، حيث يُعَرَّف الإنسان المهدور بأنّه الإنسان الّذي فقدت إنسانيّته قيمتها والاحترام الجديرة به؛ وبهذا يتحوّل إلى شيء؛ إلى أداة أو وسيلة، إذ تبخس قيمته.

لم يفلت نبيه من حالة الهدر هذه؛ إذ كان هو الآخر يعيش تحت سلطة عمّته نبيهة، الّتي عبّر عنها خلال المسرحيّة بأنّها امرأة مستبدّة، تحاول السيطرة على حياته. هنا تخرج المسرحيّة عن الأفكار النمطيّة حول الذكر والأنثى، وتجعل رمزيّة السلطة القمعيّة في حياة نبيه أنثى؛ لندرك أنّ بنية القهر يمكنها أن تُوقع الذكر والأنثى في ذات الخندق، بغضّ النظر عن النوع الاجتماعيّ القاهر؛ إذ يمكن للأنثى أن ترسّخ أيضًا البنية الذكوريّة، وبهذا يشترك نبيه وصوفي في القهر، بالرغم من اختلاف نوعهما الاجتماعيّ وأدوارهما الجندريّة.

 

قبو الأدوار الاجتماعيّة 

لم تكسر المسرحيّة الأفكار النمطيّة عن الأنثى والذكر، والفرق بينهما، بل أعادت إنتاج التنميط الجنسيّ، وأقرّت بوجوده، ولكن مع محاولة  فهم السياق، حيث رسّخت المسرحيّة فكرة أنّ المرأة متردّدة وصعبة الفهم، ولكنّها عرفت جيّدًا أين تشير إصبع الاتّهام؛ فقد بيّنت أنّ المنظومة كلّها تواطأت لجعل المرأة هكذا، وهو أمر طبيعيّ في ظلّ كلّ ما هو غير طبيعيّ؛ فصوفي المرأة الّتي قرّرت أمّها أنّها صالحة للزواج؛ فقط لأنّ جسدها نضج بما فيه الكفاية، وزوّجتها في سنّ الثامنة عشرة من رجل متسلّط وذي نفوذ، يتعامل معها كشيء من ممتلكاته، ويضع لها كاميرات المراقبة في كلّ مكان.

رسّخت المسرحيّة فكرة أنّ المرأة متردّدة وصعبة الفهم، ولكنّها عرفت جيّدًا أين تشير إصبع الاتّهام؛ فقد بيّنت أنّ المنظومة كلّها تواطأت لجعل المرأة هكذا...

 كيف لها ألّا تكون متردّدة وخائفة؟ كيف سيفهمها الرجل عندما تشعر بأنّه اقتحم مساحتها، وفي لحظة أخرى تُسمّي هذا الاقتحام مشاركة جميلة؟ وكيف يفهم هوسها في إعادة المَشاهد؟ حيث رأينا في المسرحيّة أنّ صوفي كانت تطلب دائمًا من نبيه أن يعيدوا مشهد لحظة لقائهما من جديد، قائلة: "مش هيك كنت أتخيّل اللقاء"، وهذه الرغبة تحديدًا في البدء من جديد، وإعادة ترتيب اللحظة تعبّر عن الحالة النفسيّة للمرأة المصدومة الّتي تحتاج إلى الاستشفاء، لا سيّما أنّها تعاملت مع نبيه على أنّه محطّ إسقاط لتجاربها السيّئة مع زوجها، وكأنّها تحاول معه أن تحلّ قضايا الماضي الّتي لم تُحَلّ، وتصبّ عليه مشاعر الغضب الّتي حملتها معها من علاقتها السابقة بزوجها. يبدو أنّ نبيهًا كان بالنسبة إلى صوفي الخطّ الّذي سيُغلق دائرة الأعمال غير المكتملة.

أمّا هو فقد كان أيضًا يعزّز الفكرة السائدة عن الذكور؛ فقد كان الشابّ المنطقيّ والعقلانيّ الّذي يتّسم بالسطحيّة، وكان يكرّر جملة: "أنا شخص منطقيّ، بفهمش إلّا بالمنطق"، وأنّ هذا التكرار ما هو إلّا محاولة لتأكيد شيء ليس بالضرورة أن يكون موجودًا، وكأنّه يتقمّص الدور المتوقَّع منه مجتمعيًّا أكثر من كونه يعيش بذاته الحقيقيّة. يُسمّي مصطفى حجازي هذه الحالة، استلابًا عقائديًّا، حين يتبنّى الإنسان فيها الصورة المتوقّعة عنه، ويقتنع بها، ويبرّرها بوصفها جزءًا من وجوده وكينونته، ويقبل الأطر الّتي وضعه الآخرون بها. بخلاف صوفي الّتي بدت في لحظات ما، بأنّها تتبنّى قيمًا وسلوكات تتماشى مع القهر الّذي تعيشه، ومقتنعة بالدور الّذي رسمه لها المجتمع المتخلّف، كجسد يلبس ويعتني، إلّا أنّها غير راضية في هذا الواقع، وواعية لخطر وجوده.

كان اللقاء بين صوفي ونبيه، يحمل بذور ثورة على المستوى النفسيّ والوجدانيّ، فكلاهما يتوق إلى التحرّر من أعباء حياته؛ صوفي تريد أن تتخلّص من الماضي بما يحمل من آلام، وتخرج من السِجن الّذي وُضِعت فيه مع زوجها؛ إذ عبّرت عن إحساسها بأنّها داخل زنزانة مقتبسة من الأسير وليد دقّة، حين كتب في رسالته من الأسر: "بتعرف شو أكثر شيء مشتاقله برّه، أو حتّى ممكن يبكيني؟ إنّه واحد يسألني سؤال في أمر عادي جدًّا، يسألني مثلًا ’معك فراطة؟‘، مش مهمّ يكون معي أو ما يكون، المهمّ يسألني... من زمان ما حدا سألني إذا معي ’فراطة‘"؛ لندرك كم تشعر صوفي بأنّها سجينة، وهنا كان ثمّة ظهور، وإن كان عابرًا وسريعًا للسياق السياسيّ المحلّيّ الّذي تجري فيه المسرحيّة؛ إذ يحمل هذا الاقتباس مقاربة بين حالات الأسر والسجن في فلسطين، الّتي يمكن أن تكون سياسيّة، ويمكن أن تكون اجتماعيّة تَحكمها الذكوريّة.

 

من مسرحيّة «قيد الانتظار»

 

 

دوار الحرّيّة

كانت صوفي تريد أن تبيع المنزل وتبدأ حياتها من جديد، لكنّها كانت مليئة بالقلق. تشبه صوفي قصّة امرأة متزوّجة تحدّث عنها سارتر لوصف القلق الوجوديّ، كانت تُصاب بنوبات من الرعب حين كان زوجها يخرج من المنزل ويتركها وحيدة؛ ففي كلّ مرّة كانت تجد نفسها بمفردها بعد رحيله، كانت تسيطر عليها فكرة أن تجلس خلف النافذة، وتنادي المارّة على طريقة بائعات الهوى. يقول سارتر إنّه لم يكن ثمّة شيء في حياة هذه السيّدة يبيّن سبب الذعر الّذي يتملّكها، إنّه فقط ’دوار الممكن‘، الّذي يُصيب الإنسان عندما يجد نفسه حرًّا ومنفتحًا على احتمالات لامتناهية. فقد وجدت صوفي نفسها حرّة لأوّل مرّة بعد وفاة زوجها، وهذا ربّما ما يفسّر حالة القلق الّتي تُصيبها، والّتي تصل ذروتها عندما تصبح احتماليّة الحبّ واردة مع نبيه، فقد اقتبست صوفي من سارتر أنّ القلق هو الثمن الباهظ للحرّيّة؛ هي امرأة وجدت نفسها حرّة، بعد إحساسها الدائم بأنّها داخل سجن؛ سجن نظرة الآخر – الذكر – إليها، وسجن الفكر الذكوريّ.

أمّا نبيه فقد كانت ثورته تشتعل مع اقتراب احتماليّة الحبّ، فعندما أصبح خيار الحبّ متاحًا، وقف نبيه أمام المرآة، وفي شيء من الكوميديا، أصبح يتحدّث مع نفسه، قائلًا إنّه لن يسمح لعمّته نبيهة في التحكّم بحياته من الآن فصاعدًا، وأنّه يريد أن يعيش مع صوفي، ويقضي حياته معها.

 


 

غدير محاجنة

 

 

 

باحثة وطالبة ماجستير في برنامج «علم النفس المجتمعيّ» في «جامعة بير زيت». كتبت في عدد من المجلّات والمنصّات العربيّة.