أفضل معلّمة في العالم ممنوعة من زيارة قبور أجدادها

حنان عبيد الله – الحروب هي المعلمة الفلسطينيّة التي فازت مؤخرًا بجائزة أفضل معلمة في العالم من قبل صندوق ڤاركي البريطانيّ. قامت الصّحافة في شتى أنحاء العالم بتناول موضوع الجائزة بانفعال شديد لكون الفائزة باللقب هي لاجئة فلسطينيّة نشأت في مخيم للاجئين ونجحت بالوصول إلى ما وصلت إليه متحدّية كل الظّروف ومذللة لكل الصّعاب وسابحة ضدّ التّيار.

الصّحافة الفلسطينيّة تغنّت بالإنجاز التّاريخيّ الذي جلب مفخرة على الشعب الفلسطينيّ كله، وهو فعلًا بحاجة إلى لحظات كهذه ترفع من معنوياته في عهد العجز والإحباط. وقام المباركون على اختلاف مراكزهم وتنوّع مواقعهم، في مناطق الداخل وداخل الداخل، في الوطن والشّتات، في السّلطة الفلسطينيّة وفي البرلمان الإسرائيليّ بإرسال أجمل عبارات المباركة والأمنيات للفائزة وللشعب برمّته. وتطرقت الصّحافة الفلسطينيّة أيضًا إلى توقيت الجائزة إذ يحصل المعلم/ة الفلسطينيّ/ة على تقدير عالميّ في الوقت الذي تتهجّم فيه شرطة السّلطة الفلسطينيّة على جمهور المعلمين المتظاهرين والمضربين احتجاجًا على ظروف عملهم وسوء معاملتهم.

أما الصّحافة الإسرائيليّة فقد تساءلت خلال تغطيتها للخبر بشكلٍ سطحيّ وغير مفاجئ عمّا إذا كان البرنامج التربويّ الذي طورته حنان، لا للعنف، سيؤدّي إلى تخفيف 'عنف' الشّباب الفلسطينيّ ضدّ الجنود الإسرائيليّين. كعادتها تبقى الصّحافة الإسرائيليّة عمياء البصيرة لا ترى بالاستبداد والاحتلال والقمع والعنصرية والاستعمار سببًا للتمرّد وإنما سلوك الفلسطينيّين ذاته هو السبب. وعليه، فالمطلوب هو تربية الفلسطينيّين. تقع عليهم وعلى مدرّستهم حنان المسؤوليّة للتربية ضدّ العنف، حتى إزاء جنود الاحتلال. إلّا أن المعلمة الأفضل في العالم، رغم حرصها على سلامة طلابها وطالباتها وتربيتهم على تفادي أسلوب العنف داخل المجتمع الفلسطينيّ، لم تقصد الاكتراث والحرص على سلامة جنود الاحتلال. فهي لا تربّي على تقبّل الظلم أو التسليم بالأمر الواقع والتّعايش مع الاستبداد.

وعلى كل حال، فإن المعلومة عن ولادة ونشوء الفائزة باللقب في مخيّمٍ للاجئين، وفي حالة حنان في مخيم الدهيشة قرب بيت لحم، لم تستنهض السّؤال البديهيّ، لماذا؟ لماذا في مخيّم للاجئين؟ من أين لجأت وكيف ومتى. لم تكن الصحافة الإسرائيليّة هي الوحيدة التي تجنّبت التّساؤل حول 'لجوئيّة' حنان، وربط استمراريّة اللجوء الفلسطينيّ بالمسؤوليّة الإسرائيليّة، وقضيّة عودة اللاجئين واللاجئات الفلسطينيّين إلى ديارهم ومتى وكيف سيتمّ ذلك، إنما أيضًا الصّحافة العربيّة، بما فيها الفلسطينيّة، والناطقون والناطقات باسم المؤسسات والشّخصيّات الوطنيّة، لم يطرحوا هذه الأسئلة.

لو كان موضوع عودة اللاجئين الفلسطينيّين فعلا على رأس الأجندة الفلسطينيّة لتمّ استغلال هذه الفرصة الذهبيّة لإعادة طرح موضوع العودة إلى عناوين الأخبار في كل أنحاء العالم وإلى الخطاب العامّ في المحافل والأوساط المناسبة، لتكون - لو حصل ذلك - مقولة سياسيّة واضحة وموقفًا فلسطينيًّا حازمًا بشأن العودة. وبالمقابل فإنّ عدم حصول ذلك هو أيضًا مقولة سياسيّة. وهي مقولة سياسيّة خطيرة. حيث تبعث رسالة إشكالية ضبابيّة عن مدى تذويت ثقافة العودة في ممارساتنا الحياتيّة اليوميّة وعن مدى ثقتنا بضرورة العمل من أجل تطبيق العودة، وليس فقط إيواؤها في حجرة الأحلام بعيدة المنال، إن لم نقل مستحيلة التحقيق.


نكبة القبو

شاءت الصدف، أني كنت قد أجريت مقابلة مع السيد حامد عبيد الله، والد حنان، حول النكبة وتهجيره مع أهل قريته القبو، في قضاء القدس، عام 1948، وقد قمنا بجولة بين أطلال القرية المدمّرة التي أنشأ الاستعمار الإسرائيليّ على أنقاضها وعلى ثرواتها غابة ومتنزّها، تحت إشراف الصّندوق القوميّ اليهوديّ، باسم 'متنزّه بيـچن' على اسم مناحم بيـچن رئيس وزراء إسرائيليّ أسبق ومؤسس عصابة الإرچون 'إيتسل' قبل إقامة الدولة اليهوديّة. وقد بنى الاستعمار الإسرائيليّ كذلك مستعمرة 'مڤو بيتار' على أراضي قرية القبو. ومحا عن وجه الأرض معالم القبو وبيوت لاجئيها، والمسجد والمدرسة. 

رافق حامد عبيد الله، أبو جمال، ابنته حنان إلى دبي لحضور حفل تسليم الجائزة، وقد ظهرت على وجهه النضر، رغم تقدمه في السنّ إلى حولِهِ الثمانين، علامات الفخر والانفعال. ميّزتُه من الصّور. فها هو في دبيّ يحتضن ابنته بحنان، وهناك في القبو احتضن مفتاح بيته المدمّر. ولربما كان يحفظ نفس مفتاح العودة خلال تواجده في دبي في الجيب الأيسر لمعطفه. ولكنّ أحدًا لم يسأله عنه.

تتبعنا خطوات أبو جمال وهو يمشي في قريته القبو. كان ذلك في أيار (مايو) 2010. طريق ترابيّ على جانبيه أكوام من الركام والحجارة. أبو جمال يشرح ويمشي ويشرح. لا يكلّ ولا يتعب. علمه واسع. ذاكرته حادّة. عاطفته جياشة. ونحن نمشي خلفه، نسمع شرحه، نلقف علمه، ندمع دمعه. 'أنا كل دقيقة بقول يا ربي تميتني في بلدي. هذه الشجرة اللي أبوي زرعها أنا انحرمت منها، أنا بكيت عليها، هذا مسقط رأسي، ومستعد أبني خيمة وأسكن فيها. أنا بطلب منك خذني للشجرة اللي كنت أقعد تحتها وأنا صغير'. واستمر في دربه وفي قوله: 'بيتنا كان في نص البلد. منه ممكن تشوف أراضي القبو الواسعة. كل الأراضي اللي تشوفها من بيتنا هي تابعة لأهل القبو. أهل البلد كانوا ملاكين. لكل عائلة كانت أرض ملك شخصي. غرب البلد راس أبو عمار ومن الجنوب وادي فوكين، ومن الشرق بتير وحوسان، من الشمال الولجة. بلدنا ما كانت كبيرة. كانت قرية من القرى. 300 نسمة. من سنة ال 48 وإحنا بمأساة'. ومشينا حتى وصلنا مقبرة العائلة وهناك كانت الصدمة. 'المقبرة منتهكة وممكن تشوف العظم فيها' ثم صاح 'هذا عظم أهلي. هذا قبر جدي، أبو أبوي، محمود مصطفى عبيد الله'. هذه عظام أجداد المعلمة الأفضل في العالم. تسكن حنان على بعد ربع ساعة سفر فقط من قبور أجدادها، أو ما تبقي منها. لكن الحاجز الإسرائيليّ الفاصل بين مخيمها المؤقت وقريتها الأصليّة يحرمها من الوصول إلى هناك حتى للزيارة، وهو الذي يمنعها وأهلها منذ 68 عامًا من العودة إلى القبو والسكن فيها من جديد.

'تحت البلد باتجاه الولجة من هون كانت سكة الحديد. كان بالبلد جامع وكان فيها ولي (مقام) وكان فيها مدرسة. المدرسة والجامع جنب بعض. غير الجامع اللي عند العين. وكان مطحنتين قمح. عام 48 إحنا ظلينا لآخر مرحلة. بعد الرملة واللد وبعد دير ياسين. كثير بلاد هربت على سمعة دير ياسين مثل عرتوف، دير أبان، بيت نتيف، جراش، علار، بيت عطاب. الناس خافت على أولادها وبناتها وهربت'.  وكانت قمة الانفعال حين وصلنا البيت الذي ولد فيه أبو جمال واضطر إلى تركه: 'هذا البيت كان لأبوي وعمّي. كانوا ساكنين فيه حوالي 40 نفر. وجيراننا كانوا دار محمود عبد الله وكان فاتح دكانة، وهناك كانت دار محمود أبو غلوس. دارنا كانت طابقين. وحواليها حاكورة. كنت لما أطلع على سطح الطابق الثاني أشوف البحر من هون. أنا متذكر وأنا صغير كيف كنت أشوف البحر. إحنا لما طلعنا من الدار خلينا فيها أواعي وأغراض وقمح، ما أطلعناش أغراضنا، وسكّرنا البيت بالمفتاح، على أمل إنّا نرجع. وهذا هو المفتاح'. وأخرج المفتاح من جيبه الأيسر الداخليّ لمعطفه. 'هذا المفتاح أنا محتفظ فيه أكثر من ستين سنة'.

لماذا؟

ما أغفله الإعلام وسكت عنه المباركون في ماضي ومستقبل حنان الحروب، كان النكبة والعودة. وهو أمر مستغرب في سياق حدثٍ نجمته لاجئة فلسطينيّة تطالب بالعودة ككل اللاجئات واللاجئين الفلسطينيّين. ربما عرجوا على النكبة خجلين ولكن العودة بالتأكيد لم تحضر. وكأن تاريخ حياتها يبدأ في مخيم الدهيشة وينتهي في مخيم الدهيشة. أو كأن هناك من يريد أن تنتهي القصة في المخيّم، لا أبعد من ذلك. فما هي الدروس والعِبر التي يمكن استخلاصها من هذا التعامل؟ وما هي الرسالة التي يمكن أن يفهمها الفلسطينيون، وخاصة اللاجئون واللاجئات الفلسطينيون داخل الوطن وخارجه؟