محمود تيمور بك يتحدّث عن: القصّة المصريّة وأدباء الشباب...

من مجلّة "المنتدى" [01 أيّار 1945] | جرايد

 

المصدر: "المنتدى" - المجلّة العربيّة الفلسطينيّة.

موعد النشر: الثلاثاء، 01 أيّار 1945.

موقع النشر: جرايد.

 

محمود تيمور بك يتحدّث عن:

1- القصّة المصريّة وأدباء الشباب

2- ظواهر تطوّر القصّة بعد الحرب

 

"نشرنا في عدد سابق من أعداد ’المنتدى‘، جانبًا من حديث رئيس التحرير مع القاصّ الكبير، الأستاذ محمود تيمور بك، عن العوامل الخمسة الّتي يجب أن تجتمع للقاصّ، وها نحن نتابع في عددنا هذا نشر بقيّة هذا الحديث القيّم حول القصّة العربيّة".

ما رأيك في القصّة المصريّة الحديثة، وإلى أيّ حدّ نجح أدباء الشباب في صوغها؟

كان حديث القصّة المصريّة قبل ربع قرن من الزمان يكاد يعدّ من صيد الخيال، وكان الأدب التقليديّ يكاد لا يعترف للقصّة بمكانتها السامية، ولا يفسح لها مجالًا بين الألوان الأدبيّة الرفيعة. وكنّا حين نقلّب الصحف والمجلّات، ونتصفّح الكتب، ونرتاد المسارح في ذلك العهد، لا نصادف إلّا أدبًا قديمًا يتجدّد بالتكرار، أو مترجمات من آثار الغرب، أو مقتبسات منها في حدود ضيّقة. أمّا اليوم، فإنّ العين لا تقع على صحيفة من صحف الأدب إلّا صادفت فيها ذلك اللون القصصيّ الجديد يتبوّأ مكانه الكريم. كذلك تخرج لنا المطابع في الفينة بعد الفينة جهودًا مشكورة في سبيل النهوض بالفنّ القصصيّ، ونلمح على المسرح والستارة البيضاء طلائع طيّبة من القصص المصريّ، حتّى أصبح ذلك اللون عنصرًا من عناصر الأدب معترفًا بقدره.

 

 

وفي الحقّ أنّ ما خرج حتّى الآن من القصص المصريّة يدلّ على أصالة الاتّجاه، ويبشّر بمستقبل حميد. بيد أنّ هذا السيل الزاخر الّذي تفيض به الصحف والمجلّات من القصص، وإن لم يخل من روائع فنّيّة، نراه مفتقرًا إلى طول تجربة ومرانة كي يبلغ النضج. وأظهر ما يُلاحظ في القصّة الحديثة من عوامل الضعف، هو أنّ القاصّ لا يراعي الفارق بين نوعي القصّة القصيرة والطويلة، فالأولى – أعني الأقصوصة – ليست إلّا صفحة من حياة. والأخرى – وهي الرواية – في الأغلب موضوع كامل الحياة أو حيوات تامّة. لذلك نرى بعض كتّاب الأقصوصة كثيرًا ما يعالجون في الحدود الضيّقة للقصّة القصيرة موضوعات كاملة، ناهجين منهج الإدماج والتلخيص، فتخرج الأقصوصة عن نطاقها الفنّيّ، وتغدو مختصرًا هامد الروح.

وممّا يُلاحَظ في القصّة الحديثة إجمالًا، أنّ بعض كتّابها يركنون إلى السرد، مغفلين جانب التحليل، ولا يعنون برسم الشخصيّات ونوازعها النفسيّة، ولا يدعمون ذلك بتعاقب الحوادث والمشاهد. فنرى أولئك القصّاص يعوّلون على الوصف الإخباريّ المجرّد. ولشدّ ما يحسّ القارئ بأنّ في القصّة فجوات تقطع الصلة بين أجزائها، أو يجد فيها نتائج مفاجئة دون تمهيد طبيعيّ من سياق التحليل.

ما هي ظواهر التطوّر الّتي ستلحق القصّة بعد الحرب؟

ليس الأدب على وجه عامّ، والقصّة على وجه خاصّ، إلّا مرآةً للمجتمع، وصورةً تفصح عن جوانبه ونفسيّات أهله. وقد شهدنا بعد الحرب الماضية ما لحق القصّة من تطوّرِ قوى، طوعًا لما لحق الحياة الاجتماعيّة كلّها من التطوّر. فلولا تلك الحرب لكان التغيير في مذاهب القصّة وأساليبها الفنّيّة بطيء الخطى، يستغرق مديدًا من الزمن. ولكنّ الحرب بفورتها العنيفة هدمت كثيرًا من المذاهب، وبدّلت ألوانًا من النظم، وأقامت في عالم الفكر صرحًا جديدًا سرعان ما توطّدت دعائمه. وحسبنا أن نشير إلى تطوّر المرأة وأثره في المحيط الاجتماعيّ، لنتبيّن منه عظم الفارق بين ما قبل الحرب وما بعدها. فقد وثبت المرأة في سبيل حرّيّتها ونشاطها في المجتمع، وثبات بعيدة المدى، ممّا كان له أثر لا يُنكَر في صبغة الأدب ومنحى القصّة. وكذلك إلى التطوّر الصناعيّ والاقتصاديّ الّذي أعقب الحرب، فقد كان سلطانه عظيمًا في تحديد الاتّجاهات السياسيّة والاجتماعيّة للطبقات، وكان لتلك الاتّجاهات صداها المدوّي في مضمار الأدب القصصيّ.

ولذلك، كان طبيعيًّا أن يَعُدَّ النقّاد تلك الحرب حدًّا فاصلًا بين أدبين: أحدهما أدب ما قبل الحرب المتّسم بطابع المحافظة وروح التقاليد الموروثة، والآخر أدب ما بعد الحرب الّذي يُعَدّ ثورة تجديديّة عامّة. ونحن في مصر قد أحسسنا بهذه الظاهرة في أدبنا العربيّ. فقد نجمت دعوات ونزعات في الإصلاح لم تخل من المغالاة، ولكنّها أفادت في توجيه الفكر العصريّ، وخلق لون جديد من أدب مصريّ.

وإنّ ما حدث عقب الحرب الماضية سيحدث عقب الحرب الّتي يكتوي العالم اليوم بلظاها. بيد أنّ التطوّر سيكون أعمق وأعنف من ذي قبل. ونكاد نحسّ منذ الآن اضطرابًا ينبئ بانقلاب في شتّى مناحي الحياة الاجتماعيّة والفكريّة. ولا مراء أنّ الأدب مُلاقٍ من ذلك الانقلاب نصيبه الأكبر. فنراه صفحة تختلج عليها مظاهر الروح الجديدة في المستقبل المنتظر.

ولمّا كان أدب القصّة في مصر حديث النشأة، ربيبًا للقصّة الأوروبيّة، ما برح يترسم خطواتها، فإنّه مهما يحتفظ بطابعه المستقلّ لن يكون بمنجاة من التأثّر بالمنازع الجديدة الّتي ستصطبغ بها القصّة الغربيّة في تطوّرها المقبل.

وإذا طمع القارئ في أن نتناول بالحديث حدود هذا التطوّر وسماته، فإنّه يريدنا على أن نلقى الكلام رجمًا بالغيب، وتكهّنًا بطوارئ الغد، وسبقًا للحوادث والملابسات الّتي يترتّب بعضها على بعض، والحديث في مثل هذا لا يؤمَن معه الشرود.

 

 

عَمار: رحلة دائمة تقدّمها فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، ليقفوا على الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين قبل نكبة عام 1948، وليكتشفوا تفاصيلها؛ وذلك من خلال الصحف والمجلّات والنشرات الّتي وصلت إلينا من تلك الفترة المطموسة والمسلوبة، والمتوفّرة في مختلف الأرشيفات المتاحة. ستنشر فُسْحَة، وعلى نحو دوريّ، موادّ مختارة من الصحافة الفلسطينيّة قبل النكبة، ولا سيّما الثقافيّة؛ لنذكر، ونشتاق، ونعود.