الموسيقار العربيّ الفلسطينيّ سلفادور عرنيطة

المؤلّف الموسيقيّ سلفادور عرنيطة يقود فرقة أوركسترا في القدس (1941) | المتحف الفلسطينيّ

 

المصدر:  جريدة الوحدة.

موعد النشر: 27 نيسان (أبريل) 1946.

موقع النشر: جرايد.

 

منذ إحدى عشرة سنة خلت، وبينما كنت أتسامر في جمعيّة الشبّان المسيحيّة، طرقت مسامعي أنغام عزف رائع على البيانو. تحرّيت آنذاك عن هويّة العازف، شابّ ذو شعر لوستوكي (طويل)، فقيل لي إنّه عربيّ، وقد أخذتني الدهشة ساعتئذ لغرابة هذا الحدث. كان يعزف موسيقى الكلاسيك، ثمّ تطرّق لشيء من مؤلّفاته، سألت عن اسمه فأجابوني: سلفادور عرنيطة، ممّا جعلني أعتقد لأوّل وهلة أنّ العازف إيطاليّ الجنسيّة، وفي الواقع لم يكن الفنّان إلّا عربيّ مولود في القدس، فتعرّفت عليه وواصلت التحرّيات عن أعماله ومبتكراته، وها أنا ذا أعرض على القرّاء نبذة عن حياته.

لهذا الشابّ شغف مفرط للموسيقى، فقد أصبح يجيد العزف على الأرغون ويقود جوقة الموسيقى في «دير الفرنسيسكان» في الشام، وهو في الثالثة عشرة من عمره، بينما كان في الوقت نفسه، يتلقّى علومه في كلّيّة «الرهبان العازريّون».

اقتبس هذا الفنّان أوّل دروسه الموسيقيّة، في مدرسة «الآباء الفرنسيسيّون» في القدس، وأخذت أعماله في التنوّع سنة 1930، عندما عُيٍّن عازفًا للأرغون ومعلّمًا لجوقة «كاتدرائيّة القدّيسة كاترين» الموسيقيّة في الإسكندريّة، حيث اكتسب القسم الأكبر من هذا الفنّ، وهو أيضًا خرّيج «جامعة القدّيسة سيسيل» في روما، منذ سنة 1934، وقد قدّم عدّة حفلات في إيطاليا في ختام أعوام دراسته، منها أنّه عزف في جوقة موسيقيّة تحت قيادة المرشد العظيم برنارديفو موليناري، الّذي كان قد ترأّس «الأوركسترا الفلسطينيّة» في هذا البلد منذ مدّة ليست ببعيدة.

 

«ليلة شرقيّة»، أوركسترا دولة بيلاروسيا، 2015.
تأليف: سلفادور عرنيطة.

 

من الصعب ذكر هذه الحوادث لأثبت ما لهذا الموسيقار الفلسطينيّ الشابّ من ماضٍ متين راسخ. أمّا من حيث اتّصاله الوثيق بوطنه، فلم يكن ليُذكر قبل الآونة الّتي تعرّفت بها عليه، يوم قابلته في «جمعيّة الشبّان المسيحيّة»، وقد تطوّع لخدمة موسيقى بلاده عندما عيّنته الجمعيّة أستاذًا للموسيقى، حيث سطع نجمه في هذا الفنّ، خصوصًا في فلسطين، وأصبح العَلَم الأوحد فيه بين اليهود العديدين في هذا البلد. إنّ أعماله الشاقّة الّتي قام بتأديتها على أكمل وجه، وهذا الأرغون الموجود في الجمعيّة، والمحتوي على أكبر مجموعة فنّية من الأصوات في الشرق الأدنى عامّة، جعلته مع ما يقدّمه من معزوفات صباحيّة كلّ يوم سبت، أن يتبوّأ مركزه العالي في الموسيقى، وبعد أن حصل على مركزه في «جمعيّة الشبّان المسيحيّة»، نظّم أعمالًا باهرة محلّيّة في هذا الحفل، ثمّ زار إنجلترا حيث حصل على دبلوم الموسيقى من «جامعة جلدهول»، وكان لهذا الفنّان الحظّ في إذاعة بعض القطع الموسيقيّة من محطّة الإذاعة البريطانيّة وإقامة الحفلات في أشهر المسارح الملكيّة، ومنها حفلة أُقيمت في مسرح «آلبرت الملكيّ»، مع «أوركسترا السمفونيّة للإذاعة البريطانيّة» تحت قيادة المرشد القدير، السير هنري وود.

ومن البلدان الّتي زارها باريس، حيث لعب مع أوركسترا السمفونيّة الباريسيّة، بقيادة هنري تومازي، ثمّ رحل إلى البلجيك، ولعب في صالة «قصر الفنون الجميلة»، وإذاعات أخرى خارجيّة، ثمّ انتقل إلى سويسرا، وأمّا ظهوره للمرّة الأولى، فقد كان في صالة «فرانس لستزفي» في بودابست، وللسيّد عرنيطة الفضل في تبيان مسألة معقّدة للشعوب الغربيّة، وهي أنّ العربيّ الفلسطينيّ يمكنه التطرّق إلى باب الموسيقى الكلاسيكيّة، وأن يُجاري، لا بل ويتفوّق على منافسه اليهوديّ في هذا البلد. لا يغرب عن بال القرّاء أنّ الدراسات المتّبعة الّتي يقوم بها عرنيطة للموسيقى العربيّة، تشهد له بأنّه المؤلّف الوحيد في هذا القُطْر، وهو منعش الموسيقى الشعبيّة، مع الحرص التامّ على الإبقاء على القواعد والمتفهّمات الموسيقيّة الصحيحة. وختامًا، أتوجّه بالسؤال التالي إلى القرّاء فيما لو قام مواطنونا العرب، بتجربة ما في سبيل الاستفادة من ذكاء هذا الموسيقار، أم أنّهم جعلوا نصب أعينهم المثل العالميّ القائل بأنّ لا مجد وإكرام للنبيّ في بلده.

 

جريدة الوحدة، 27 نيسان (أبريل) 1946

 

 

عَمار: رحلة دائمة تقدّمها فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، ليقفوا على الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين قبل نكبة عام 1948، وليكتشفوا تفاصيلها؛ وذلك من خلال الصحف والمجلّات والنشرات الّتي وصلت إلينا من تلك الفترة المطموسة والمسلوبة، والمتوفّرة في مختلف الأرشيفات المتاحة. ستنشر فُسْحَة، وعلى نحو دوريّ، موادّ مختارة من الصحافة الفلسطينيّة قبل النكبة، ولا سيّما الثقافيّة؛ لنذكر، ونشتاق، ونعود.