ساعة مع الأستاذ خليل السكاكيني

خليل السكاكيني وزوجته (أرشيف السكاكيني، جامعة بير زيت)

 

المصدر:  «صحيفة المنتدى».

موعد النشر: 1 آذار (مارس) 1944.

موقع النشر: أرشيف السكاكيني، جامعة بيرزيت.

 

ساعة ليتها كانت ساعات!! فإنّ من عرف أبا سري في منزله، فقد عرف اللطف والكرم والمرح والعلم والأدب، عرفها كلّها ملتئمة في جوّ نقيّ، خالٍ من الأنانيّة الممقوتة ومن حبّ الظهور الذي يشين الكثيرين منّا… من أجل ذلك كانت دار السكاكيني ناديًا أدبيًّا بالمعنى الصحيح، فالأبواب أبدًا مفتوحة، والوجوه أبدًا باشّة مؤنسة، وأبو سري أبدًا يُحدّث ويستمع - وهو لتواضعه يدخل في روعك، إنّه هو الذي يستفيد ويتعلّم مع أنّه هو الذي يفيض فيفيد محدّثه من حيث يدري ومن حيث لا يدري، ومجالسه أشبه شيء بالنوادي الأدبيّة الشهيرة في فرنسا وإنكلترا في القرن الثامن عشر، فهي تجمع بين المعرفة والتواضع وبين الفلسفة والدعابة، وهي إلى ذلك رحبة كريمة، خالية من التكلّف، فلا فضل للخاصّة فيها على العامّة إلّا بالصراحة والإخلاص.

العلم والأدب: الأستاذ السكاكيني في الأقطار العربيّة كلّها أدب خطير، فكتبه ورائله ودراساته وخطبه قد شغلت أذهان الكثيرين مدّة ربع قرن أو يزيد، وأسلوبه سلس شائق، سهل ممتنع، ملؤه الفكاهة وملؤه أشعار وقصص قد أحسن اختيارها وأبع دروايتها… أمّا في بلده فلسطين، فهو قبل كلّ شيء معلّم كبير له على الجيل الناشئ كلّ الفضل. ولقد غدا كلّ بيت عربيّ يردّد كلماته وأقواله ليلًا ونهارًا، وإنّا لنغبط إخواننا وأبناءنا كلّما رأيناهم يدرسون “الجديد” فيجدون سهلًا ممهّدًا ما كنّا نجده وعرًا عسيرًا. كُلّف السكاكيني بالتعليم منذ حداثة سنّه، فدرس على المعلّم نخلة وسلك مسلكه، وكانت له منذ ذلك العهد في التعليم نظرات صائبة وأفكار جديدة، وقف على تحقيقها جهوده وأمواله، وطبّقها بنفسه، ونادى بها شابًا وما زال ينادي بها بعد أن تقاعد من هم في سنّه وتقاعسوا.

أرشيف صحيفة المنتدى

قلنا له “كيف تلخّصون رأيكم في التعليم؟” فقال: الغرض الأوّل من التعليم خلق نوع جديد من البشر، يحكّون عقلهم في كلّ أمر، ويشعرون بكرامتهم وعزّة أنفسهم، ويبنون الميول الإنسانيّة الشريفة ويكافحون الغضب والأثرة والانتقام، وواجب المعلّم الأوّل أن يحرّر التلميذ ويعزذه، ويحبّب إليه الفضيلة، ويرهف عقله إرهافًا بدلًا من أن يحشوه حشوًا، أمّا الضرب والتهديد وأمّا التوبيخ والوعيد فأمور لا نؤمن بها، وإنّما نؤمن بأن لا إكراه في العلم.

الشيخ الشاب: أستاذنا - أطال الله بقاءه، في العِقد السابع من العمر، ولكنّه مع ذلك يستحمّ بالماء البارد كلّ يوم، ويكتفي بقميصه الرقيق في الصيف والشتاء، ولا يُغادر فِراشه إلّا بعد أن يقوم بأنواع من التمارين، يروّض بها يديه وقدميه وجبينه وأذنيه، ولو سألته لأخبرك بأنّ للأذن عشرين تمرينًا مختلفًا، وللأنف أحد عشر وللرأس أربعين، ومتى نهض روّض صدره وساقيه، واستحمّ وتمتّع بأكل شهيّ، وبدأ عمله مرحًا وانتهى به مرحًا.

سألناه عن رأيه في العيش فقال: “هاك أسلوبي، الألعاب الرياضيّة والاستحمام بالماء البارد والطعام المغذّي والمطالعة والكتابة والموسيقى - هذا هو الأسلوب الذي سيتغلّب على العالم كلّه، وإذا ساعدك الحظّ، فكان لك أصدقاء كرام أذكياء على جانب من العلم والأدب والذوق السليم فاجلس إليهم أو اخرج معهم إلى الطبيعة تعش معهم سعيدًا إن شاء الله، وإن كنت متزوّجًا فاجعل بيتك فردوسًا تنعم به إلى أن يحين الأجل، فتذهب قرير العين مذكورًا بالخير مأسوفًا عليك. ولا تلق أحدًا من أصدقائك إلّا هززت يده هزًّا عنيفًا وسألته هل لعبت؟ هل استحممت؟ هل أكلت؟ هل قرأت؟ أو كتبت؟ هل غنّيت أو لعبت على آلة طربك؟

أليس هذا أمرًا يدعو إلى الإعجاب والإكبار؟ أليس جميلًا أن يفهم رجل هذه الحياة ويكتشف وسائل الصحّة والمرح… ثمّ يزهد في أكل اللحوم سبعة عشر عامًا تعفّفًا عن الفتك بالحيوان الضعيف المظلوم؟ جاء في خطاب له ألقاه في النادي الأرثوذوكسيّ في القدس قوله: “وإذا أردنا التوسّع قليلًا، قلنا إنّ الحيوان - ولا سيّما القرود - من أقاربنا، إذا أكلنا لحم حيوان فكأنّنا أكلنا لحم إنسان، وإذا ركبنا حيوانًا فكأنّنا ركبنا إنسانًا لو فطنّا”.

إنسان إن شاء الله: بطاقات الزيارة التي يحملها الأستاذ السكاكيني تختلف عن سائر البطاقات لورود هذه الكلمات فيها: “خليل السكاكيني… إنسان إن شاء الله”، وهي في جدّتها وصراحتها تشبه ما أثبته على حائط مكتبته “لا إعارة ولا تأجير ولا إهداء”، وكذلك قوله “لن نرضى”. قال الأستاذ فيما قاله “كلّ الكائنات الحيّة مرّت في تطوّرها من دور الصيرورة إلى دور الاستقرار إلّا الإنسان، فإنّه لا يزال في دور الصيرورة… وإذا سمّيناه إنسانًا فليس لأنّه إنسان ولكن على أمل أن يكون إنسانًا كما يفعل بعض طلبة الطبّ قبل أن يصيروا أطبّاء فإنّ الواحد منهم يضع تحت اسمه في بطاقته هذه العبارة “طيّب إن شاء الله”…

لمّا دخلنا مكتبة الأستاذ السكاكيني ألفيناه منهمكًا في دراسته العميقة الدقيقة التي تُبقي ولا تذر، وجدنا أمامه كتابيّ (العدالة والحريّة) و(معرض الآراء الحديثة). ثمّ ألقينا نظرة على أكداس الكتب المحيطة به من كلّ صوب، فإذا معظمها في الفلسفة، وإذا هي بين عربيّة وإنكليزيّة. فسألناه عنها فأجاب بتواضعه المعروف أنّه يدرس هذه الكتب حتّى تُعينه على استيعاب كلّ كلمة وفكرة يصادفها في الكتابين الجديدين، وما كدنا نتطرّق إلى بحث الفلسفة حتّى أخذ يردّد أفكاره وآراءه، بروح مشبعة بالحماسة والاهتمام، فقرأ لنا شطرًا من فلسفة أبي بكر الرازيّ، وجعل يُثني على قدماء العرب ويُكبر حبّهم للفلسفة وسعيهم وراء الفضيلة، ويرثي جهلنا اليوم وتمسّكنا بالفتور والعبارات. ثمّ سألناه عن فلسفته في الحياة، فقال أحد الحاضرين “لقد عرفت الأستاذ مدّة أعوام كثيرة، وإذا أذن لي بالإجابة، قلت إنّ فلسفته في الحياة هي فلسفة المرح والدعابة والسرور”.

ثمّ استأناه بالخروج ورجوناه أن يسمح لمصوّرنا بالتقاط صورته للمنتدى، فأشار إلى الصورة التي تراها مع هذه الرسالة وقال بصوت خافت مضّطرب: “تمثّل هذه الصورة قمّة حياتي، ولا أشعر بعد أن ذهبت أمّ سري إلّا بأنّني روح هائمة بلا جسد” - نرجو الله أن تظلّ هذه الروح الشريفة العالية، المرحة الفكهة، وهذا القلب الكبير وهذه النفس الكريمة، ذخرًا لأبناء هذا الجيل، فما أشدّ حاجتنا إليك وإلى أمثالك يا سيّدي الأستاذ!

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.