هل الفكرة الصهيونيّة موجودة في أدب كافكا؟ | أرشيف

فرانز كافكا

 

المصدر: «مجلّة الآداب».

الكاتب (ة): صالح الرزوق.

زمن النشر: 10 تمّوز 1993.  

 


 

في كتاب «واقعيّة بلا ضفاف» يحتفي روجيه غارودي بالأدب الكافكاويّ، ويعتبره شهادة واقعيّة صارخة عن القلق الوجوديّ الحديث، شأنه في ذلك شأن رسوم بيكاسو وأشعار سان جون بيرس. ويرى جورج لوكاش، مؤلّف «معنى الواقعيّة المعاصرة»، أنّ كافكا يحقّق في أعماله إدراك الواقع[1]، وأنّ قلق كافكا هو التجربة الّتي تصوّرها حركة المحدّثين بلا منازع[2]. ولم تُشرْ أيّ من الدراستين الرائدتين السابقتين إلى صهيونيّة كافكا من قريب أو من بعيد.

إنّ مسألة «صهيونيّة» كافكا أو عدم صهيونيّته مسألة مقلقة ومحيّرة، وذلك للأسباب التالية: أوًّلًا، إنّ أعمال كافكا الضخمة مثل «القصر»، و«المحاكمة»، و«أمريكا»، وأعماله الأخرى – القصص القصيرة – لا تقوم على فكرة لمّ الشتات أو الاندماج، وليست فيها أيّة إشارة إلى الأرض المقدّسة. إنّ أدب كافكا، على خلاف أعمال حاييم بوتوك، وليون بوريس، وهرمان ووك، لا يضمّ في طيّاته الهاجس بوحدة «الشعب اليهوديّ»، كما أنّ لغته لا تبتهل بورع دينيّ لإله بني إسرائيل.

"القلق الإنسانيّ في أدب كافكا غيرُ مرتبط بالضرورة بظروف يهود «الشتات» في أحيائهم الخاصّة (الغيتو)"...

 

إنّ ما تقدّمه كتابات كافكا، والنصوص الإبداعيّة منها حصرًا، عن ضياع الإنسان المعاصر، وعن قلقه، وتأزّمه، لا يختلف عمّا تحدّث عنه كثير من الأدباء المحدّثين أمثال فوكنر، وبو، وجويس. ويعتبره الناقذ الأميركيّ ليسلى فيدلر في حديثه الممتع عن «الحبّ والموت في الرواية الأمريكيّة» قمّة الاتجاه الحديث، ويعتقد أنّ روايته «أمريكا» تنظر غربًا لا بعنوانها فقط وإنّما بحكايتها أيضًا[3]؛ أي أنّها لا تلتفت إلى الوراء لتنظر بانكسار إلى الضياع في سيناء، بل تعالج انكسار المواطن المفرد العاديّ واغترابه في خضمّ تناقضات الحياة الغربيّة الّتي سرقت من الإنسان طفولته الأولى، وشاعريّة الإحساس بها.

وهذا يعني أنّ الحديث عن القلق الإنسانيّ في أدب كافكا غير مرتبط بالضرورة بظروف يهود «الشتات» في أحيائهم الخاصّة (الغيتو).

ثانيًا، إذا كانت أعمال كافكا الإبداعيّة ذات شموليّة وعمق إنسانيّين، فإنّ رسائله ومفكّراته، كما قدّمها صديقه ماكس برود، تنمّ عن إيمان عميق وثابت بالجانب الإنسانيّ لا السياسيّ من الفكرة الصهيونيّة. وإذا كان من الصعب جدًّا الفصل بين الناحيتين الإنسانيّة والسياسيّة في أيّة أيديولوجيا، إلّا أنّ كافكا كان مصرًّا في الكثير من المواقف على فصل يهوديّته، (وهذه ذات اهتمامات إنسانيّة كما يقول)، عن صهيونيّته.

فهو يقول في رسالة إلى أبيه منقولة عن «كتاب كافكا»:"تاريخ اليهود يمتاز بطابع الحكاية والأسطورة الّتي يرميها الطفل، فيما بعد، مع طفولته في قاع النسيان". ويذكر في يوميّاته بتاريخ 1914:"ما الّذي يجمعني باليهود؟ لا شيء جماعيّ يربطني بنفسي. وإنّه لخير لي أن أقبع بهدوء تامّ في زاوية من الزوايا. وإنّي لفي غاية السرور بكوني قادرًا على التنفّس"[4].

إلّا أنّه يناقض نفسه بنفسه في رسالة بعثها من براغ إلى صديقته فيليس بوير بتاريخ 29 تمّوز 1916 يحثّها فيها على التطوّع في خدمات «بيت الشعب اليهوديّ» الّذي أسّسه سينغريد ليهمان. يقول لها في هذه الرسالة:" أنا شديد اللهفة لسماع خبر اشتراكك ومساهمتك". ولا يلبث أن يضيف متنصّلًا من ارتباطه بالفكرة الصهيونيّة: "ما يهمّني – ويهمّك أيضًا – ليس الصهيونيّة، بل ذاك الشيء تحديدًا، وما يمكن أن يفضي إليه"[5].

 

المقالة الأصليّة | أرشيف «الشارخ»

 

فما هو ذاك الشيء الّذي يشير إليه كافكا؟

يقول في رسالة إلى صديقته مؤرّخة في 11 أيلول 1916: "العنصر الإنسانيّ هو الأساس، العنصر الإنسانيّ فقط. أرغب حقًّا في سماع المزيد عن ذلك"[6].

أمّا عمّا يمكن أن تفضي إليه خدمات «بيت الشعب اليهوديّ»، فهذا ما يحدّده سينغريد ليهمان مؤلّف «مفهوم الاستيطان اليهوديّ وبيت الشعب». كان كافكا وكذلك صديقته فيليس يعرفان تمام المعرفة أنّ فكرة الصهيونيّة تُدرَّس في «بيت الشعب اليهوديّ»، كما أنّ فكرة الاستيطان تترعرع هناك. يقول في الرسالة المؤرّخة في 11 أيلول 1916:"وبالمناسبة، فيما يتّصل بالمحاضرة، يبدو أنّكِ كنتِ محظوظة بصورة خاصّة، إ إنّها عالجت المسألة الجذريّة الّتي لا سبيل إلى إبقائها في حالة سبات، بل يجب أن تلتهب وتتوهّج مرارًا، لتهزّ ركائز الصهيونيّة ذاتها"[7].

وفي رسالة أخرى بتاريخها 2 آب 1916، يقول:"الزاوية الأدبيّة، وهي ليست كما يجب، تعكس جوًّا صهيونيًّا غريبًا، ورغم ذلك، فإنّه لا حاجة بك للارتياب في «البيت اليهوديّ» من خلال الصهيونيّة، تلك الّتي لستِ تعرفينها بعدُ بصورة كافية. من خلال «البيت اليهوديّ»، الأكثر قربًا من قلبي، تتحرّك قوى أخرى وتمارس تأثرها؛ وأمّا الصهيونيّة، اللصيقة بمعظم يهود اليوم، فهي في حواشيها الخارجيّة على الأقلّ مدخل إلى شيء أبعدَ وأكثر أهميّة"[8].

إنّ التردّد الّذي تعكسه المقتطفات السابقة ليس إلّا جزءًا من ماهيّة كافكا كإنسان وكأديب. فهو يصرّ على الجانب الإنسانيّ من المسألة، ويتنصّل من الصهيونيّة كفكرة سياسيّة، وهو يشيح عن اليهوديّة التقليديّة ويعتبرها مجرّد حكايات وأساطير تليق بالأطفال، ولا يرى أواصر قويّة تجمعه باليهود؛ ومع ذلك فإنّه يحثّ صديقته على تقديم خدماتها إلى «البيت اليهوديّ»، وهو يبدو متردّدًا في أشياء عامّة أخرى مثل الزواج والنشر.

"يصرّ كافكا على الجانب الإنسانيّ من المسألة، ويتنصّل من الصهيونيّة كفكرة سياسيّة، ويشيح عن اليهوديّة التقليديّة ويعتبرها مجرّد حكايات وأساطير تليق بالأطفال"...

 

غير أنّه لا مجال للتردّد حين تقرأ رسالته إلى فيليس، وهي مؤرَّخة في 12 أيلول 1916، ففيها يقول: "الرابطة بين هذا كلّه وبين الصهيونيّة، وهي رابطة واردة عندي، لا عندك، بالضرورة، تكمن في حقيقة أنّ العمل في «البيت» يَسْتَمِدُّ من الصهيونيّة منهجًا شابًّا نشطًا نشاطًا شابًّا في صورته العامّة، وحين تفشل الوسيلة الأخرى فهي تضيء الطموحات القوميّة باستثارة الماضي السالف المذهل، مع الإقرار بالقيود والحدود الّتي لا تستطيع الصهيونيّة بدونها أن تقوم. إنّ كيفيّة وصولك إلى اتّفاق مع الصهيونيّة مسألة خاصّة بك؛ أيّ اتفاق معها (واللامبالاة غير واردة) سوف يجلب لي السرور... ولكن إذا شعرتِ يومًا بأنّك صهيونيّة، وأدركت بالتالي أنّني لست صهيونيًّا، وهو إدراك قد ينبثق من تجربة وتدقيق، فإنّ الأمر لن يقلقني، ولا حاجة لأن يقلقك أنتِ، فالصهيونيّة ليست أمرًا يفرّق أصحاب المقاصد الراسخة"[9].

في هذا الديالوج الطويل نسبيًّا، وهو ما أرى فيه مونولوجًا له شكل الديالوج، يقطع كافكا حيال التفسير والتأويل ويعلن على الملأ انفصاله عن الأيديولوجيا الصهيونيّة.

ثالثًا، يذهب بعض الباحثين في الأدب الكافكاويّ إلى أنّ «ثيمات» أقاصيصه ورواياته تخدم الفكرة الصهيونيّة. ويتوسّلون إلى ذلك بحلّ رموز نصوصه بطريقة حسابيّة بعيدة كلّ البعد عن التحليل الأدبيّ[10]. والحال أنّ «قصّة بنات آوى وعرب»[11]، ليست بعيدة، ولا سيّما في الجانب الحواريّ منها، عن الجذور التاريخيّة المدفونة للصراع العربيّ الإسرائيليّ. إلّا أنّها لا ترقى بأيّ حال من الأحوال إلى مستوى يفلسف القضيّة الصهيونيّة أو يبرمج عناصرها وأبعادها.

رابعًا، لا يمكن أن يُجعل من يهوديّة كافكا وحدها سببًا لنبش الرموز الصهيونيّة في أدبه. وإنّه على الرغم من صعوبة الفصل بين الدوافع الإنسانيّة الظاهرة لإنشاء «البيت اليهوديّ»، والدوافع السياسيّة المحضة، فليس من حقّ أحد أن يزعم أنّ أدب كافكا أدب صهيونيّ أو يبشّر بالصهيونيّة.

إن كاتب سيرة كافكا ومعدّ مؤلّفاته للنشر بعد وفاته، أقصد صديق عمره ماكس برود، قد أضفى على كافكا بعض الملامح الصهيونيّة. ولكنّ أحاديث كافكا الصريحة إلى صديقته فيليس بوير تنفي تورّطه بالحركة الصهيونيّة، ولا تنفي متابعته لأخبارها وعدم عدائه لها.

"يقطع كافكا حيال التفسير والتأويل ويعلن على الملأ انفصاله عن الأيديولوجيا الصهيونيّة"...

وفي كلّ الأحوال، فإنّ قراءة كافكا، وهو الكاتب الّذي تُرْجِمَ إلى العربيّة مرارًا وتكرارًا، أمر ضروريّ، لا لأنّه من المحدّثين الّذين استوعبوا فاجعة الفرد في قلب الحضارة المعاصرة، واغترابه، وانسحاقه فحسب، ولكن لأنّه يتحدّث في مفكّراته ورسائله كذلك عن الفكرة الصهيونيّة الّتي عاش عصر انبثاقها وتطوّرها. ونحن دائمًا بحاجة لأن نعرف المزيد عن الآخر مثلما نحن بحاجة إلى معرفة أنفسنا.

 


إحالات

[1] جورج لوكاش، معنى الواقعيّة المعاصرة، ترجمة: أمين العيوطي، دار المعارف: مصر، 1971، ص 43.

[2] المرجع السابق، ص 44.

[3] صلاح حاتم، أضواء على موقف كافكا من اليهوديّة والصهيونيّة، مجلّة المعرفة، عدد 241، ص 44.

[5] فرانز كافكا، رسائل حول البيت اليهوديّ، مجلّة الكرمل، عدد 5، 1982، ص 297.

[6] المرجع السابق، ص 298.

[7] المرجع السابق.

[8] المرجع السابق.

[9] المرجع السابق ص 299.

[10] كاظم سعد الدين، حول رموز كافكا الصهيونيّة، مجلّة الأقلام، عدد 6، 1974.

[11] فيصل دراج ومحمود موعد، محاولة قراءة في الفكر السياسيّ لكافكا، مجلّة الموقف الأدبيّ، عدد 9، 1979.


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.