معين بسيسو لا يجلس على مقعد الغياب | أرشيف

معين بسيسو (1926-1984)

 

المصدر: «مجلّة الكرمل».

الكاتب (ة): محمود درويش. 

زمن النشر: 1 كانون الثاني 1984. 

 


 

لا يترك مقعدًا لغيابه. ولا نقوى على توجيه الخطاب المألوف، لأنّ قوّة الحضور فيه هي ما يدلّ عليه، وعلينا أحيانًا. إنّه يجلس الآن أو يقف وسط بياض الورق والوداع زحامًا كاملًا لينشر علينا الصعوبة. وها أنذا أُعلن أنّه يحاصرني تمامًا، ويدلق عليّ حبر تاريخ لا يتماسك في كتابة أوّليّة، إذ لم أفتح دهشتي وصدمتي لاحتمال هذا الغياب الصاعق. هو لا يخرج منّي ومن أيّ باب. كان شديد الشبه بعادات تُجاوِزُ الألفة إلى الإدمان، وكان صديقًا شديد الالتباس؛ كان صديقًا يُحيّر الصداقة، لأنّه كان توقًّعا لا ينتهي إلّا ليُفاجِئْ. لا، لا أستطيع الكتابة في هذا الضجيج الّذي يثيره فيّ. كم مرّة سأحاول، كم مرّة سأرجوه أن ينصرف عنّي قليلًا لأراه بطريقة أدقّ، وكم مرّة سيضعني في كتابة أوّليّة؟ إنّ ما يطفو عليّ من دم التجربة، الساخن، الطازج، يدلّني، أيضًا، على أنّنا لم نبدأ كتابتنا منذ اللحظة الّتي لم نتمكّن فيها من تلاوة وصيتّنا الأخيرة على مكان، أو على أحد.

الشاعر يموت على طريقته الخاصّة؛ الشاعر ينفجر؛ يتطاير، يريد مفتاح الغروب، ولكنّه لا يعلم ماذا فعل بنا. وللشاعر جسد أيضًا، ونبيذ، لأنّ للنشيد امرأة ونافذة... للنشيد فضاء. ولم يحدث أن انفصل النشيد عن الجسد بمثل الفجيعة الّتي تتمّ في الحادث الفلسطينيّ الّذي صار، من فرط ما هو مألوف، تراجيديًّا بطريقة غير مألوفة. فهل كان معين بسيسو، وهو يلتهم الحياة كما يلتهم طفل جائع أجّاصة – يدرك أيضًا أنّه لا يمتلك مقعدًا للموت؟ لقد كلّفنا بهذا الترتيب الإجرائيّ ليدفع كلّ واحد منّا إلى التفكير بتأمين قبره. إنّ المنافي الّتي فتّش فيها عن الطمأنينة – والطمأنينة في قاموسنا هي حرّيّة الصراخ أو فوضى الانفجار – لا تُحصى بضربات قلب، إذ كان دائمًا يبتعد عن غزّة فيصارع النشيد الّذي لا يمتثل ولا يمتدّ جسرًا، فلا يكون الرصيف عندئد إلّا إلقاء النفس في العاصفة، دون أن نُحرّك سؤالنا العسير: هل يستطيع الفلسطينيّ أن يكون شاعرًا؟

لقد قُدّمت الإجابة على السؤال المعدّل: نعم، يستطيع الشاعر أن يكون فلسطينيًّا. وماذا يعني ذلك؟ يعني أن يتخبّط السؤال الأوّل في المجرى العاصف، في المذبحة والوحشة والخيبة، في البحث عن شروط للكتابة وعادات لا تستوي، لأنّ الأوطان تُحمل في القلب، ولكنّ القلب لا يسكن النشيد، لأنّ النشيد لا يُصطاد ولا يُستلهم؛ لأنّ النشيد لا يكون فينا غير ما هو فينا؛ لأنّه لا ينزلق: مطالع يبترها الرحيل، مقاطع تتأرجح بين جنون الشاعر وواجبات الممرّضة، واستغاثة أفق لا يُغطّي أحدًا. وها هو... ها هو النشيد يدفعنا إلى بحث آخر: عن محطّة الانفصال الفاجع بين النشيد والجسد، وكأنّ هذا الانفصال في حياتنا هو الالتحام الممكن لحياتنا، كأنّه هو فضاء النشيد الممكن، أو اللغة الّتي لا تأتلف مع ظلالها المحروقة، لأنّ الجسد هو الّذي يقول... هو القول.

معين بسيسو، مواطنًا بلا وطن، ومنشدًا بلا نشيد، يمثّل صلابة الحلم في جسد يمزّقه الرصاص من كلّ جهة ونظام...

انظرو إلى تألّب معين بسيسو على الأمكنة الّتي لا مكان له فيها، لتروا غربة الروح في شكل لا يوافقها. إنّ سيرة المنافي والزنازين كما عاشها، ورواها، وأنطقته الوضوح الحادّ، والغرابة الخشنة، وجعلته أحد المعبّرين، بامتياز، عن لعنة المكان الفلسطينيّ؛ هي سيرة الانتقال المعاكس للبطل التراجيديّ من النصّ إلى الواقع. إذ لا نستطيع أن نماثل بين ما نقرأ وما نعيش، لا في النصّ الماضي الّذي روى عذاب غيرنا، ولا في النصّ الحاضر الّذي لا يستطيع مقاربة عذابنا. لا، ليس لهذا الرحيل من مثيل. وليس لاندفاع هذه الخيول إلى هذه الهاوية/الجنّة من موروث. لذلك كان البطل فينا، لا البطل التراجيديّ، هو مَنْ يقوى على مواصلة حلم مسيّج ببنادق الأعداء، الّذين تعدّدت أسماؤهم، واختلطت لتعمّق حاسّة الفلسطينيّ بأنّه وحيد على هذه الأرض، وحيد مع الأرض الوحيدة مع ذاتها.

إنّ معين بسيسو، مواطنًا بلا وطن، ومنشدًا بلا نشيد، يمثّل هذه الصلابة الخارقة، صلابة الحلم في جسد يمزّقه الرصاص من كلّ جهة ونظام. كان يدرك أنّ المنفى يأخذه إلى منفى آخر، وكان يدرك أنّه يدور حول غزّة، مجموعته الشمسيّة الخاصّة، الّتي تمثّل ملكيّة أحلامه الخاصّة وذكرياته الخصوصيّة، ولا ترتخي قبضة يده الممسكة بجمرة الحلم. وكان يؤمن بأنّ للقصيدة طاقة الملموس الفاعل.

لقد ضرّجته الخيبات، ولعلّه كان أكثرنا انتباهًا لخطر الثورة المضادّة ولتربّص الأنظمة بالحلم، فتحدّى بشراسة لا تُضاهى. كان أشدّنا شراسة في استخدام الشعر في معارك الدفاع عن اليوميّ الفلسطينيّ، وعن الحلم الفلسطينيّ، وكان أشدّنا بحثًا عمّا هو ليس بمألوف: ليس من حقّ سيبويه أن يتدخّل في طريقة استشهاد الفلسطينيّ، وليس من حقّ البرتقال الفلوكلوريّ، الّذي كان يمقته، أن يستعيد وجدان شعب، وليس من حقّ الشعراء أن يتباروا على ما هو شكل وعلى ما ليس بواضح. كلّ شيء واضح – كان يقول – القاتل واضح، والضحيّة واضحة، فلماذا الغموض؟

كان يخلط بين الغموض والردّة والهروب. وكان يقيس الشعر بمدى فاعليّته الراهنة، وجماهيريّته الشائعة، لأنّه عدوّ الغرف المغلقة. لذلك كان يتفادى الانفراد بذاته الشاعرة. كان ينفر من المكاشفة الشعريّة الداخليّة، فقد ألقى بهذه الذات إلى العامّ، إلى أدوات حكم الشارع؛ إلى اليوميّ. ولذلك، أيضًا، كان حضوره كاملًا في يوميّات الحياة الفلسطينيّة، الأمر الّذي يُفسّر امتزاج أدواره المتعدّدة، لتكون للشاعر سيادة المسرح. هاجس السبق هو هاجسه: بالأغنية، بالمقالة، بالمسرحيّة، بالبرنامج الإذاعيّ والتلفزيونيّ كان ينشب مخالب دوره في زمن سماء زمن الكلاب. يريد أن يهيمن على كلّ منعطف وعنوان، ليعيد للشاعر وظيفة سابقة ظنّها أفلتت من أيدي الشعراء، لنذالتهم من جهة، ولرداءة زمنهم من جهة أخرى. يتّحد الشاعر والسياسيّ فيه في قبضة واحدة وخطاب واحد، لأنّ الشاعر يُطوّر فيه المناضل، ولأنّ المناضل فيه يُطوّر الشعر ليحلّق بجناحيه: الشعر والموقف. الشعر بالنسبة إليه لا يُحاسب خارج دوره ورسالته، ولو كان جميلًا، فليس هنالك من جمال لا يفيد، جمال مجّانيّ. والشعر الرديء، بالنسبة إليه، ولو تلبّس دورًا متقدّمًا هو شكل من أشكال الثورة المضادّة، إذ لا تستطيع فلسطين أن تغفر الإساءة الّتي تُلْحِقُهَا بجمالها، وعدالتها، قصيدة فلسطينيّة رديئة.

الشعر الرديء هو شكل من أشكال الثورة المضادّة، إذ لا تستطيع فلسطين أن تغفر الإساءة الّتي تُلْحِقُهَا بجمالها، وعدالتها، قصيدة فلسطينيّة رديئة...

لقد صرخ ذات مرّة في وجوه الكتّاب الفلسطينيّين: قبل أن تكتبوا لفلسطين بالدّم تعلّموا كيف تكتبون بالحبر. وهكذا كانت قصيدة معين بسيسو دائمًا بمثابة ذخيرة حيّة في معركة حيّة، متوتّرة، مباشرة، شرسة، وسبّاقة. وأنا لم أعرف شاعرًا عربيًّا معاصرًا في مثل هذه الشراسة. لا يُنْطِقهُ غير التحدّي، ولا يتوهّج إلّا في المعارك. وهو محتاج دائمًا إلى ثنائيّة: يحتاج إلى خصم محدّد وملامح محدّدة، وكان أحيانًا يحتاج إليّ... يحتاج إليّ للصداقة وللمبارزة. وأشعر أنّه منذ التقينا وجدني... وجدني طرفًا للمحاورة المباشرة أو الملتوية، طرفًا للاعتراف وللاختلاف. وكنّا دائمًا على سفر دائم، على ظهر موجة. وكنت أراقب فيه شهيّة حيّاة مجنونة.

سنقترب عمّا قليل من صدمة عالية: ليس من حقّ الحالة الفلسطينيّة أن تختار مهدًا لولادة. نولد كيفما اتّفق، وحيثما اتّفق. ولكن، مضى علينا عمر طويل وموت كثير لنعرف مأزقًا آخر، إذ ليس لأحد منّا قبر. كان معين بسيو، المجبول بشهوات كلّ ما يُشير إلى الحياة، يتحاشى هذه الملاحظة. كان يهرب منها لأنّه كان يخافها، أو كان مسكونًا بهاجس آخر: أن يُعمّق ختمه على الزمن، وأن يضع توقيعه على كلّ مكان. أن يغرس شجرة، أن يترجم غزّة إلى أكبر عدد من اللغات. أن يبني كوخًا من المطر، أن يجبل قامة من ريح.

كان يطرد فكرة الموت كما يطرد ذبابة. وكان يمازحنا ويهدّدنا جميعًا بالرثاء. كان يكره الرثاء، ويمقت المشهد الفلسطينيّ اليوميّ في طابور الموت. كلّ أثاث الغياب مرميّ في سخريته الشهيرة: الجنازة، الملصق، كلمات الرثاء الّتي لا تشير إلى تعديل على اسم المسافر.. الأشياء ذاتها ذاتها تتكرّر. وكان يستثنى صورته من المشهد، ويعبّ الحياة والسخرية. فهل كان انطباعنا السريع حول خلوّه من فكرة الموت صحيحًا؟ لا أظنّ.. لأنّ من شاهد معين بسيسو، في أيّامه الأخيرة، شاهد خدوشًا في تمثال الضوء. كان حزينًا كوقفة وداع متكسّرة. لم تكن بيروت أندلسه كما قال، ولكنّ ما تعرّض له الحلم الفلسطينيّ على أيدي بعض حرّاسه وجَّهَ إلى روح معين رصاصة الاكتئاب.

لقد هَرِمَ قليلًا حارس النار. ولعلّه ذهب هذه المرّة إلى ذاته الّتي كان يُحْكِمُ عليها إغلاق الرتاج واستعرض الشريط. حاول أن يُحصي منافيه، وسَكاكينه، فأخطأ وما زالت غزّة تبتعد.. وماذا يفعل الشعر؟ كانت أحلامه الشخصيّة الأخيرة هي أن يشيخ هناك: على ساحل تخيّله أرض الشهوة المحقّقة، أو القصيدة النهائيّة. لقد اصطدم بوحشة الروح، وتعب الجسد، وامتداد النشيد في أفق يتغلّق. وكان يكابر ويكابر. ومنذ البداية، منذ البداية البعيدة كنت أفسّر شبق الحياة فيه بخوف حقيقيّ من موت لم يُعِدُّ له إطاره، فكان يسابق ما ليس لائقًا به – الموت، وذلك ما يشرح خوفه العميق من الطبّ، إذ لا يريد أن يرى صورة قلبه إلّا في الكتابة.

ليس من حقّ الفلسطينيّ أن يكون شاعرًا ما دام مجهولَ المهد واللحد، فالفلسطينيّ ذاته هو القصيدة، هو النشيد المقطوع، وعلى غيره أن يصوغه أو يكمله...

كان يعالج نفسه وأوجاعه بالتهام الحياة. وحين كان يتجوّل بين قذائف بيروت كان يدرك أنّه لن يموت لأنّه لا يريد أن يموت؛ لأنّه يكتب ويمتلئ حياة. كان موت الأشياء فيه يتمّ في اللحظة الّتي يكمل فيها غناءه أو صرخته. كان الحبّ يضربه أحيانًا بسيف من برق، وكانت القصيدة هي الّتي تشفيه ليموت الحبّ. لماذا سمّى عمله الأخير بهذا الاسم «القصيدة»؟ ألأنّه كان عرضة لإحساس بالنهاية الّتي تُكلِّلُ حياته بهذا العنوان النهائيّ؟ نعم، ليس من حقّ الفلسطينيّ أن يكون شاعرًا ما دام مجهولَ المهد واللحد، فالفلسطينيّ ذاته هو القصيدة، هو النشيد المقطوع، وعلى غيره أن يصوغه أو يكمله، فهو مشغول باختيار وحيد هو اللحظة الممتدّة من مهد لم تخترهُ أمّه إلى لحد لا يعرفه؛ مشغول بصياغة حياة تفيض عن أدوات العمل الشعريّ، وعليه أن يختار حياة الحرّيّة في مكان ليس له، ليس له أبدًا، وأن يؤسّس مشروع الحرّيّة ودولة الحلم – إذا كان للحلم دولة – على محطّة قطار أو في قاعة انتظار في مطار، أو على رصيف ميناء؛ وأن يكون جاهزًا أبدًا لرحيل آخر عكس الوطن وعكس الذات.

فَبِمَ أسيّج ذاتي؟ ومن أين استمدّ لغتي؟ لذلك لا يُرى الفلسطينيّ إلّا في جلوسه على لحظة الموت. لا يدلّ علينا سوى موتنا. أمّا أن يحيا، أن يدخل في دورة المألوف البشريّ، أن يكتب شعرًا، أن يحمل وردًا إلى امرأة، فتلك إدانة الآخر له، وعقدة الذنب فيه. وهكذا لا يعتدي الآخر على حقّنا في مكان، وعلى فكرة البطل فينا، بل يعتدي على الإنسان فينا، ويستشري الآخر حين يُجاوِزُ مساحته ويدخل في «أنا – ي» ليمزّقني. عليك أن تختلف، وأن تختلف، وأن تختلف لتكون – تلك مطالبة تشي ببراءة وبنيّة اغتيال معًا. لذلك يخشى الفلسطينيّ أن يموت في غرفة، لأنّ الغرفة إن لم تكن غرفة تعذيب تكون قفص اتّهام. علينا أن نكون ملائكة أو شياطين، فهل تمّ إدراك مثل هذا الظلم بتحويل الفلسطينيّ من إنسان إلى نمط؟ وهل يستطيع الفلسطينيّ بعد ذلك أن يكون شاعرًا؟

نعم، يستطيع الفلسطينيّ أن يكون شاعرًا إذا نهض من عقدة إثم الحياة والقدرة على فرح طائش، إذا ما تمرّد على ما حوله، وما فيه من نمطيّة. إذا عاش حياته وصاغها بتوازن لا يتوازن إلّا بانكسار أحد عناصر التوازن، كأن يهيّئ للمطلق حاسّة تتعايش مع اليوميّ الّذي يصعب التعايش معه، أو كأن يُجنّ. من هنا أقدّم استغرابي ظاهرة انصراف الكتابة الفلسطينيّة إلى تمجيد الموت، الأمر الّذي يفسّر هشاتها، لأنّ هذا الميل الشائع هو ابتعاد بريء عن مصدر القوّة الروحيّة الفلسطينيّة وهي قوّة الحياة. لقد عاش معين بسيسو في هذه القوّة، وحاول أن يحيا، حاول أن يكسر محاولة الآخر تحويل الفلسطينيّ من إنسان إلى نمط، وهكذا كان ابن حياة تتوتّر، وتبحث عن حياتها في الحرّيّة.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.