مَنْ يملك حياة الأديب الخاصّة؟ | أرشيف

أسمى طوبي (1905 - 1983)

 

المصدر: «مجلّة العربيّ».

العنوان الأصليّ: «الأديب... هل هو ملك للأمّة والتاريخ؟».

الكاتب (ة): أسمى طوبي.

زمن النشر: 1 أيّار (مايو) 1969.

 


 

لست أدري من ذا الّذي قال إنّ الأديب ملك الأمّة أوّل قائل، لكنّني أتمنّى لو أنّ القائل كان فَصَلَ بين الأديب الحيّ والأديب الميّت؛ فنظر في حال كليهما وحده. إنّ الأديب الحيّ سيّد نفسه، يعطي للمتطفّلين أو الّذين يريدون بحث أعماق حياته ما يشاء، ويمنع عنهم ما يشاء، يحاسبهم إذا افتروا عليه، ويكتب بنفسه فيصحّح لهم ما يشاء لو زادوا أو نقصوا. أمّا الأديب الميّت فجثّة لا تملك من أمر نفسها شيئًا، تُنْبَشُ خفايا حياتها وتُغرَسُ السكاكين فيها ولا من يحتجّ أو يعترض.

إنّ الأديب الّذي يريد أن يكون ملكًا للأمّة بعد وفاته هو ذاك الّذي يكتب مذكّراته ويضمّنها أسراره لتنشر بعد موته، أمّا ذاك الّذي لا يفعل فكأنّما قال صراحة إنّ أسراره هي ملكه، وإنّها يجب أن تذهب معه إلى قبره، وإرادة الميّت تُحْتَرُمُ دائمًا.

إنّ الّذي لفتني إلى هذا الأمر أنّني رأيت الكتب الكثيرة الّتي تنزل إلى الأسواق فتنبش أسرار الأديب بعد موته، وتشرّح تصرّفاته الخاصّة وتضعها أمام عيون القرّاء متستّرة وراء كلمات "الأديب ملك الأمّة".

لقد عثر الباحثون بين آثار ميّ زيادة الأدبيّة على مئة رسالة غراميّة أُرْسِلَت إليها من أدباء عشقوها، عربًا وأجانبًا، وسُرُّوا بما عثروا عليه لأنّه يؤلّف كتابًا يجتذب القرّاء ويضمن إيرادًا جيّدًا، لكنّهم فضّلوا يومئذ استشارة فيلسوف الجيل المرحوم أحمد لطفي السيّد. قال أبو الجامعة: لا، قالوا: لماذا؟ قال: إنّ أسرار ميّ هي أسرارها الخاصّة، وحتّى مَنْ كتبوا هذه الرسائل لها لم يعد لهم الحقّ في التصرّف بها.

قالوا: يا أستاذنا، لكنّك رجل مستنير، سبق عصره بخمسين عامًا، فقال بحزم: هذه مؤامرة على سرّ امرأة وكفى، فقالوا: ولكن للتاريخ، فقال: "ومن الّذي جعلكم على التاريخ أوصياءً في هذا؟".

 

الخاصّ وموقعه من العامّ 

إنّ أصحاب الرأي القائل إنّ الأديب ملك الأمّة أو ملك قرّائه يستندون إلى حجّة أخرى هي أنّ الكاتب إنّما يتأثّر إنتاجه بحياته الخاصّة، أي أنّه ينتج إنتاجًا عنيفًا أو رقيقًا، عاطفيًّا أو عقليًّا، حسب الملابسات الّتي يكون فيها وقت الإنتاج، ومن حقّ مَنْ يقرؤونه أن يعرفوا كيف كانت حياته عندما أنتج هذا الكتاب أو ذاك.

وأصحاب هذا الرأي يريدون أن يتأثّر القارئ لا بالكتاب، لكن بمَنْ كتبه، إنّهم ينسون الحكمة القائلة: "انظُروا إلى ما قيل لا إلى مَنْ قال"، أو طالع ما بين يديك مجرّدًا من كلّ المؤثّرات ليكون تأثّرك أنت بمقدار ما قرأت من حكمة أو عاطفة، ولا تدع حياة صاحب القول، حيًّا أو ميتًا، تؤثّر فيك.

 

نبش جثث الموتى

لست أدري من أين جاءتنا هذه البدعة، بدعة نبش جثث الموتى من قبورهم ثمّ وضعها على المشرحة وغرز السكاكين فيها، بينما نحن لم نغرز هذه السكاكين وصاحب الجثّة حيّ يستطيع الدفاع عن نفسه؟ لعلّها جاءتنا من الغرب.

إنّ المألوف في الغرب أن يكتب الكتّاب عن حياة الأديب الخاصّة ما يشاؤون، وقد أخرجوا قبل أعوام قليلة كتابًا عن مدام دوستايل وعشّاقها الّذين تمرّغت في أحضانهم. لكنّ من يحذون حذو الغرب في هذا المضمار ينسون الفروقات ما بين الغرب والشرق؛ إنّ الأديب الّذي يعيش حياته مكشوفة هناك لا يخجل من مباذله حيًّا، فهو لا يضيره أيّ شيء يقال عنه ميتًا؛ فمدام دوستايل مثلًا عاشت حياتها مكشوفة لا تتورّع؛ إذ كانت في الأربعين من عمرها تعايش على رؤوس الأشهاد شابًّا في الثانية والعشرين من عمره، إلى غير ذلك ممّا هو معروف عنها. وفكتور هوغو، صاحب «البؤساء»، ترك زوجته وأولاده وعاش مع مدام دورييه، ولمّا ماتت سار في جنازتها حاسر الرأس يتلاعب الهواء بشعره الأبيض ووقف يتقبّل التعازي عند ضريحها.

إنّ أدباءً كهؤلاء لم يبالوا ما يقوله الناس عنهم وهم أحياء، فأحرى بهم أن لا يبالوا بذلك وهم موتى، إنّهم بلا أسرار تُفشَى عند الكتابة عنهم وهم موتى، لأنّ كلّ معاصريهم يعرفون كيف عاشوا.

لقد عرفنا نحن العرب في فترة من تاريخنا شيئًا كهذا، كان عندنا أدباءً وشعراءً يُفاخرون بحماقاتهم؛ فبشّار بن برد مثلًا، كان في معظم أشعاره يفاخر بالفسق والفجور، وهو قُتِلَ تلك القتلة العظيمة بسبب فجوره، وعمر بن أبي ربيعة عاش في غزليّاته وفاخر بها، وهؤلاء وأمثالهم لم يَشنهم ما كتب الناس عنهم، إذ ليس في حياتهم أسرار أو فضائح لم يُفاخروا هم بها.

لكنّ حالنا اليوم غير حال ذلك الزمان؛ فمحيطنا العربيّ الآن في مرحلة البناء، ونحن بحاجة إلى كلّ خلقنا ومفاخرنا لتساعدنا على النهوض، وليس من الخير أن نحكي الفضائح والمخازي من أدابائنا على مسمع من نشئنا ليستسيفها ويقلّدها. وأذكر الأدباء وأخصّ الأديبات، أولئك اللّواتي لا يدري أحد أيّ حرب قامت بين عقل الواحدة منهنّ وقلبها، وأيّ جهاد جاهدت وتضحيات بها ضحّت لتُبْقِي على احترام الناس لها حيّة، ثمّ هي تموت فيجيء مَنْ يعتدي على قدس أقداس نفسها غير راع للموت حرمة.

 

الأديب ملك التاريخ

لا أعلم من الّذي قال ذلك أيضًا، لكنّها تبدو مقولة غريبة على مسمعي، تُرى ماذا يهمّ التاريخ من حياة أديب... من حياته الخاصّة؟

هَبْ أنّ دي موباسان مات مجنونًا حقًّا، وآخر مصاب بالصرع، ماذا يضرّ التاريخ أن لا تنكشف حياتهم الخاصّة ما دام إنتاجهم بين يديّ التاريخ يضيف إلى خزائن الأدب ثروات ثمينة؟

ثمّ هَبْ إنّ القول الّذي قالوه حقّ، وأنّ الأديب هو ملك التاريخ، فهل كلّ من حمل قلمًا ليكتب عن أديب ميّت هو مؤرّخ؟ إنّ للمؤرّخين صفات خاصّة بهم وحدهم أوّلها وأهمّها التدقيق، وفي كلّ ما قرأته عن دي موباسان أو ميّ زيادة أو غيرهما لم أجد كاتبًا واحدًا قابل أطبّاء هذا الأديب المريض أو ذاك في المصحّ وعلم منهم بدقّة نوع المرض وأعراضه، واستقصى شؤون الكاتب ما خفي منها وما ظهر، فأين دقّة المؤرّخ الباحث في هؤلاء؟

ثمّ إنّ التجرّد عن كلّ هوى هو الصفة الثانية الّتي تلازم المؤرّخ، وأغلب ظنّي أنّ هذه الصفات وأمثالها الّتي أعوزت النبّاشين كانت أمام عينيّ لطفي السيّد، عندما جاؤوه وقد وجدوا لميّ مائة رسالة غراميّة فأسرعوا ليستغلّونها، وعندها قال لهم ومَنْ جعلهم أوصياءً على التاريخ في مثل هذا.

إنّ ابن ياقوت صاحب المعاجم الثلاثة الشهيرة وهي «معجم البلدان» و«معجم الشعراء» و«معجم الأدباء»، وكلّ معجم من هذه مكوّن من عشرة مجلّدات، قضى حياته يسير من بلد إلى آخر على حماره، وينام في خان كلّ مدينة ينزلها ويبحث ويدقّق في كلّ كلمة قبل أن يكتبها في معاجمه.

وهيرودوتس، أبو التاريخ، كان أيّام الفراعنة ينتقل من قطر إلى آخر على جواده برًّا وفي المراكب الشراعيّة بحرًا، وبعد البحث والاستقصاء يكتب: "هذا ما رأيته بعينيّ رأسي"، أو يكتب: "هذا لم أره ولكن قيل لي عنه"، فتصوّر نزاهة المؤرّخ وتدقيقه.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.