لقاء «البيان» مع شاعر فلسطين هارون هاشم رشيد

الشاعر الفلسطينيّ هارون هاشم رشيد (1927 - 2020)

 

المصدر: «مجلّة البيان الكويتيّة».

زمن النشر: 1 نيسان (أبريل) 1968.

الكاتب: أحمد علي أديين.

 


 

منذ النكبة الأولى، وهارون هاشم رشيد (1927 - 2020) يواصل العطاء، ملتزمًا بقضيّة شعبه وأمّته في دواوينه «عودة الغرباء»، «مع الغرباء»، «غزّة في خطر النار»، «أرض الثورات»، «حتّى يعود شعبنا»، و«سفينة الغضب» الّذي سيصدر له قريبًا. وقد كان الأستاذ هارون رشيد ضمن أعضاء وفد فلسطين في المؤتمر الثالث لوزراء التربية العرب، الّذي عُقِدَ في الكويت الشهر الماضي، وانتهزت «البيان» وجود شاعر فلسطين وكان هذا اللقاء.

 

«البيان»: منذ النكبة الأولى والشعر والشاعر العربيّين يواصلان العطاء، تُرى هل صوّر هذا الشعر النكبة والقضيّة بجميع جوانبها، ثمّ هل وصل هذا النتاج إلى مستوى نستطيع أن نبرز القضيّة من خلاله عالميًّا؟

هارون رشيد: في الواقع، قلت في أكثر من مرّة إنّ زخم المأساة كان كبيرًا وصادمًا وفوق كلّ ما يتطلّع إليه الشاعر من إبداع وتصوير حقيقيّ للمأساة، لكن لا يمكن أبدًا أن نتغاضى عن كثير ممّا صدر من الشعر العربيّ حول المأساة.

حقًّا إنّ الشعر العربيّ في أوّل أعوام النكبة كان يتناول إمّا بالجرس الحماسيّ أو بالجرس الباكي الحزين هذه المأساة، لكنّه بعد ذلك أخذ يتطوّر ويتطوّر إلى أن أصبح يعطي صورًا للمأساة تتناول جوانب عميقة الجذور في نفس الإنسان العربيّ، صورًا إنسانيّة تصلح أن تكون قطعًا عالميّة. شعر المأساة زاخر بهذه الصور، فيه الألم وفيه الغضب وفيه التحدّي والإصرار، وفيه الإنسان العربيّ بكلّ مشاعره وتطلّعاته لأن ينال حقّه ويسترجع ما سُلِبَ من أرضه.

الشعر بالذات لم يقصر عبر أعوام النكبة، دواوين بأكملها صدرت عن المأساة وصوّرت مختلف جوانبها، ولا تعدم أن تجد في هذا الفيض الزاخر بالمشاعر الإنسانيّة ما يمكن أن يرتفع إلى المستوى العالميّ. لكنّنا عدمنا المحاولات لإبراز هذا الشعر إلى النطاق العالميّ؛ فأين مثلًا الأجهزة الّتي حاولت ولو مرّة ترجمة قطعة من قطع الشعر الّتي تمثّل المأساة؟ كلمة ’أنّنا لم نصل‘ كلمة عاجزة؛ فكلّ مَنْ سارَ على الدرب وصل، والدرب هو تسليط الأضواء الكاشفة على هذا الشعر لنأخذ منه النابض المتدفّق المصوّر للمأساة، لا أن نطفئ الأنوار ونجلس في الغرفة المظلمة نتحسّس الأمل عاجزين كلّ العجز على الرؤية الحقيقيّة واستكشاف جوانب الطريق نحو الأدب العالميّ.

في اعتقادي، إنّ هذا سيحدث لو تبنّته جهة فكريّة غير حكوميّة، مثل رابطة الأدباء في الكويت مثلًا، وإنّني على استعداد لتزويد الرابطة بما تريد من الشعر الإنسانيّ إمّا من شعر المنفى أو من شعر الأرض المحتلّة، ليُتَرْجَم ويأخذ طريقه إلى العالم، وعندها سيصدر الحكم إن كان هذا الشعر عالميًّا أو لم يكن.

 

«البيان»: كشاعر واكب القضيّة، تُرى أيّ جانب أجدر بأن يتناوله الأديب العربيّ لتصوير القضيّة، الأرض، القضيّة، العدالة الإنسانيّة المفقودة، الاحتلال...؟

هارون رشيد: هناك مجموعة من الجوانب الّتي يمكن أن ينفذ منها الأديب العربيّ إلى العالم. أوّلًا؛ الجانب الإنسانيّ في القضيّة العادلة، قضيّة الشعب الّذي سُحِبَتْ أرضه من تحت أقدامه، قضيّة الإنسان الّذي اقتُلِعَ من وطنه وعِلِقَ على الريح، لا قدمه على الأرض ولا كفّه في السماء. قضيّة الفلّاح الّذي زرع زيتوناته ليأكل أحفاده وأولاده، ولم يأكلوا. قضيّة التشتّت والضياع في حياة الإنسان العربيّ الفلسطينيّ، قضيّة الحكم العنصريّ والقمع الإرهابيّ والجور الاغتصابيّ في الأرض المحتلّة، قضيّة الأجيال الّتي تنشأ على أرض الوطن في ظلّ الاحتلال أو خارج أرض الوطن في ظلّ الغربة.

كلّ هذه الجوانب جوانب إنسانيّة، ثمّ قضيّة النضال، النضال داخل الأرض المحتلّة والنضال خارجها. هذه في مجموعها قضايا تشكّل نهرًا جارفًا من الإلهام يكتسح كلّ العوائق أمام طريقه لأن يكون عالميًّا، وهل عالج الأدب العالميّ غير مثل هذه القضايا فأصبح إنسانيًّا؟ إنّ العرب داخل الأرض المحتلّة يقاسون اضطهادًا عنصريًّا، أقسى من اضطهاد السود في أمريكا.

الطفل العربيّ في الأرض المحتلّة عندما يشتدّ عوده لا يجد أمامه إلّا أن يكون عاطلًا، أو عاملًا في الأفران والمطاعم والمطابخ، إذا أُتيحَ له العمل. قوانين التفرقة العنصريّة في الأرض المحتلّة قوانين يمكن أن توحي بأدب عالميّ. ثمّ مهاجمة القرى وطرد أهلها منها ونقلهم بقوّة السلاح إلى أحياء بعيدة في مناطق بعيدة، ومنعهم من ممارسة الفلاحة وضرب الأسلاك الشائكة حول أحيائهم وحظر التجوّل عليهم ومنع التنقّل إلّا بإذن عسكريّ، كلّ هذا ألا يمكن أن يكون وحيًا لأدب عالميّ؟ وهل في القضايا الإنسانيّة في العالم ما هو أكثر مساسًا وتحريكًا لمشاعر الإنسان من هذا كلّه؟

الواقع أنّ الطريق أمامنا طويل وشاقّ، وأنّ من واجبنا أن نأخذ مكاننا الحقيقيّ على أرض المعركة بالكلمة والقصيدة والقصّة والموسيقى والرسم، بكلّ شيء ليساعد ذلك كلّه على مواصلة النضال بالطلقة المدوّية في الأرض المحتلّة.

 

«البيان»: في فترة ما بعد النكسة، وخلال عمليّة النقد الذاتيّ الّتي مارسها كلّ فرد في هذه الأمّة، اتّضح مثلًا أنّ أجهزة الإعلام كانت تسير في طريق خاطئ في حملتها الدعائيّة للقضيّة، ما رأيك كإنسان مارس العمل الدعائيّ لأعوام طويلة في مجالات عدّة؟

هارون رشيد: في اعتقادي، كإنسان مارس العمل خلال الأعوام الماضية في الإعلام بشتّى أنواعه ونواحيه، أنّ أجهزة الإعلام العربيّة كلّها خلال الأعوام الماضية كانت فاشلة تمامًا في إمكانيّة توضيح القضيّة المصيريّة حتّى للإنسان العربيّ. لم يكن هناك أيّ تنسيق بين الأجهزة العربيّة كلّها، لا في داخل الوطن العربيّ ولا خارجه، ولم تتمكّن الأجهزة قبل أن تقنع الإنسان خارج الوطن العربيّ بالقضيّة الفلسطينيّة، أن تقنع الّذي في داخل الوطن العربيّ بالقضيّة.

أجهزة الإعلام كانت تصعد مرّة بالقضيّة فإذا هي تتجاوز أقصى درجات الحرارة، وتنزل بها في المرّة الأخرى فإذا هي تحت الصفر. ورقة ترفع في مناسبة ثمّ تُحْرَقُ في مناسبة أخرى؛ فلم تتمكّن الأجهزة من أن تُشْعِرَ الإنسان العربيّ بالخطر الّذي يتهدّد مصيره أينما كان في أيّ جزء من الوطن العربيّ. وأنا أقول الوطن العربيّ وأقول إنّنا أحوج فيه للإعلان عن القضيّة لأنّ واجبنا الأوّل أن نقتنع نحن بما نحن فيه، ونشخّص ذلك ثمّ نعمل ونحن أصحّاء وأقوياء في مواجهة العالم. وكثيرًا جدًّا ما كانت تتناقض آراء أجهزة الإعلام العربيّ حول القضيّة الفلسطينيّة.

وفي رأيي أنّ الإعلام العربيّ يجب أن يرتكز على أسس علميّة، مثلًا، «إذاعة صوت العرب» الآن، بعد النكسة، المتتبّع لها ولبرامجها ولأسلوبها الإعلاميّ، يجد التحوّل الكبير الّذي طرأ على هذا الجزء من أجزاء الإعلام. عقليّة المقاتل العالم تحرّك هذا الجهاز، فإذن هو دراسة وفكر وعلم، ومن أهمّ ما يجب أن يتّسم به الإعلام العربيّ بعد كارثة الخامس من حزيران (يونيو) 1967، أن يكون صادقًا واعيًا علميًّا.

 

«البيان»: هل سار الأدب في نفس الطريق، كما سارت أجهزة الإعلام في فترة ما قبل الخامس من حزيران؟

هارون رشيد: في الواقع أنّ الأدب أيضًا كان يسير إلى الخلف خلال أعوام النكبة، وكانت التيّارات الّتي تعصف بالوطن العربيّ وتلقيه في دوّامه القلق والتيه تنعكس على الأدب، وخاصّة غياب التراث العربيّ عن الساحة والمحاولات الكثيرة الّتي استهدفت هدم هذا التراث وتفتيته، والّتي شوّهت الذوق العربيّ وأطلقت شتّى الصواريخ الملوّنة الآخذة بالأبصار المضيّعة لكلّ ما هو خيّر وجميل.

الأدب العربيّ هو انعكاس لأحوال الإنسان العربيّ خلال هذه الفترة، وقد كان الأديب في نفس مستوى الضياع الّذي كان فيه هذا الإنسان، لذلك وجدنا أنّ الأدب العربيّ مثل الإنسان العربيّ يغرق إلى ما فوق الأذنين في دوّامة الغربة، ممّا أصبح يشكّل خطرًا كبيرًا على لغتنا وتراثتنا. وفي اعتقادي أنّ الأدب في الفترة الحاليّة الّتي أعقبت النكسة واجبه الأساسيّ والأوّل أن يواجه التحدّي الصارخ، لا لانهيار الكيان العربيّ فحسب، لكن لمحو الجنس العربيّ؛ فالخطر يحدق بهذه الأمّة من جوانب شتّى، والتحرّكات المريبة تعمل في ظلام الظلام للانقضاض على هذه الأمّة وتقويض كيانها.

دور المثقّف، دور الكاتب، دور الأديب، هو دور الريادة في طليعة المقاتلين.

 

«البيان»: برز أخيرًا أدب المقاومة، وخصوصًا الشعر، لشعراء الأرض المحتلّة مثل محمود درويش. تُرى هل بالإمكان ترجمة هذا الشعر، وذلك ليكون إدانة للعدوّ من الداخل؟

هارون رشيد: إنّ موضوع ترجمة هذا الشعر مطروح الآن للبحث في كلّ من «اتّحاد كتّاب فلسطين» و«سكرتارية المؤتمر الآسيويّ الأفريقيّ»، وأنا أعلم أنّ هاتين المحاولتين تتّسمان بالجدّيّة وأرجو أن يتحقّق ذلك قريبًا، خصوصًا بعد موقف السلطات في الأرض المحتلّة من هؤلاء الشعراء، وسَوْقِهِم إلى السجون والمعتقلات.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.