أُسْوَة: العربيّة تجارةً رابحة

"إن كانت اللّغة العربيّة تواجه تحدّياتٍ غير مسبوقةٍ؛ فإنّ قمّة الإبداع تخرج في أزمنة أزمات الأمم، ومن يتحدّى الأزمات هم الشّباب، بالإبداع والرّوح المتجدّدة". هكذا تحدّث لـ "فُسْحَة" أنس أبو دعابس، أحد المبادرين لإقامة المبادرة التّجاريّة - الاجتماعيّة "أُسْوَة". فبدا أنّ الشّغف باللّغة وجمال حروفها امتزج مع ولع الإنتاج الملموس والثّقافيّ، ما بين صناعة الملبوسات الّتي تزيّنها العبارات العربيّة، وبين إنتاج الأفلام القصيرة الّتي تحثّ المجتمع على الحفاظ على لغتهم وعراقتها.

في واقعٍ يتعرّض فيه مستخدم وسائل الإعلام المختلفة لكمٍّ مهولٍ من المعلومات، يصعب جذب اهتمام جمهورٍ واسعٍ نحو تلك الرّسالة بسرعةٍ، بل والتفافهم حولها، لا سيّما إن لم يقتصر هدفها على التّرفيه؛ إلّا أنّ حملةً استباقيّةً قامت بها مجموعةٌ من المبادرين منتصف شهر أيّار (مايو) الأخير 2015، تحت عنوان "عَبِّر بالعربي"، استقطبت الآلاف عبر شبكات التّواصل الاجتماعيّ، لتعلن عن إقامة مبادرة "أُسْوَة" في أراضي 48.

التّأثير بالإبداع

كان أوّل ما أطلقته المبادرة عبر صفحة الفيسبوك فيديو قصيرًا، يبيّن مختلف طرق استهداف اللّغة العربيّة في أراضي 48، يوميًّا، ليتبع ذلك تنظيم مسابقاتٍ وإنتاج قمصانٍ وبطاقاتٍ وقواطعَ كتب. يُجْمِلُ المبادر محمود ريّان هذا الطّرح قائلًا: "إنّ ما نصبو إليه فعلًا، هو التّأثير في واقع تعاملنا مع اللّغة العربيّة بخاصّةٍ، وثقافتنا بعامّةٍ. إلّا أنّنا نؤمن أنّ التّأثير لا يمكنه في عصرنا أن يأتي بالتّوجيه المباشر فحسب، بل يجب أن تحمله الطّرق الإبداعيّة، وأن يتحقّق من خلال إنشاء حالةٍ اجتماعيّةٍ وفنّيّةٍ تكون بمثابة مصدرٍ يثير الإلهام، لدى الشّباب تحديدًا، ويواكب متغيّرات العصر".

"لم تنبع مبادرة ’أُسْوَة‘ من شغفنا بالعربيّة فقط؛ إنّما أيضًا من اهتمامنا بالمشاريع الشّبابيّة الرّياديّة"، يقول ريّان، وهو محاسبٌ في مكتب حساباتٍ بكفر قاسم، ويضيف حول ما طرحته "أُسْوَة" شكلًا جديدًا للمشاريع الثّقافيّة العربيّة: "نحن شركةٌ تجاريّةٌ – اجتماعيّةٌ، نصنع منتجاتٍ توظّف اللّغة العربيّة بجودةٍ عاليةٍ وتصاميمَ شبابيّةٍ، بينما نستغلّ جزءًا من أرباح الشّركة لإقامة نشاطاتٍ اجتماعيّةٍ وأمسياتٍ ثقافيّةٍ تتمحور حول اللّغة العربيّة والحفاظ عليها في أراضي 48"؛ فقد أقامت "أُسْوَة" حتّى الآن ثلاث أمسياتٍ ثقافيّةٍ تحت عنوان "عبّر بالعربي"، بدأتها في أمّ الفحم وسط فلسطين، ثمّ بئر السبع جنوبًا، ومؤخرًّا في سخنين شمالًا؛ وقد مثّلت تلك الأمسيات مزيجًا لافتًا بين المعرفة والتّثقيف من جهةٍ، والتّرفيه والفنّ من جهةٍ ثانيةٍ. تضمّنت الأمسيات محاضراتٍ معرفيّةً كان أبرزها "أثر الدّخيل العبريّ على اللّسان العربيّ الفلسطينيّ"، وعرضًا لمشاريع تؤدّي فيها اللّغة العربيّة دورًا مهمًّا، كرسالة دكتوراه حول "حوسبة المخطوطات العربيّة"، وأخرى استضافت فيها خطّاطين محلّيّين بارزين، أمثال سعيد النّهريّ، بالإضافة إلى عرض أفلامٍ توعويّةٍ قصيرةٍ. ومن جانبٍ آخر، لم تخلُ الأمسيات من عروضٍ كوميديّةٍ ضاحكةٍ للفنّان أيمن نحّاس، بالإضافة إلى وجود الموسيقى الملتزمة ومسابقاتٍ حول اللّغة العربيّة.

الجودة

لم يتوقّع مبادرو "أُسْوَة" حجم الاهتمام الإعلامّي الّذي حظيت به مبادرتهم، ومنذ أمسية الانطلاقة، إذ أنّ المبادرة لم تكتف بتميّز القمصان والبطاقات والنّدوات شكليًّا، بل اهتمّت بتفاصيلَ أخرى، مثل توفير مساحةٍ إبداعيّةٍ جمعت بين من يتقن الرّسم من النّقب، ومن يجيد الخطّ من الجليل، ومن يصمّم الأزياء من المثلّث، والتّصميم من الضّفّة الغربيّة، وكانت أوّل إطلالةٍ إعلاميّةٍ لها في بثٍّ مباشرٍ عبر تلفزيونٍ غزّيٍّ، محقّقةً بذلك رؤيتها حول هويّة الشّركة الفلسطينيّة.

لم ينحصر تسويق "أُسْوَة" في أراضي 48 وفلسطين، بل وصلت إلى عدّة مواقعَ في الوطن العربيّ ودول أوروبا وآسيا، وذلك من خلال وسائل التّواصل الاجتماعيّ، وتحديدًا فيسبوك.

"لم نخترع في ’أُسْوَة‘ منتجاتٍ عجيبةً"، يقول المبادر أنس أبو دعابس، خرّيج اقتصادٍ وطالب ماجستير الإعلام في جامعة بئر السّبع، مضيفًا: "ما قمنا به محاولةٌ لإيجاد المعادلة الأنسب الّتي تجمع بين إنتاج ما نلبسه بأنفسنا أوّلًا، ومراعاة جودة الحروف والخطوط العربيّة في إنتاجاتنا، وقد اعتمدنا الصّناعة التّركيّة في الأقمشة، وعملنا شهورًا طويلةً قبل الانطلاقة للوصول إلى ما يلبّي رغبتنا من خياطةٍ وطباعةٍ حتّى التّغليف، فالّذي يلمس ما ننتجه لا بدّ وأن يشعر بأنّه قد حصل على منتوجٍ ذي جودةٍ، وإلّا فلن يعاود ارتداء قميصٍ يناسبه".

الاستمرار

مشاريعُ ثقافيّةٌ وتجاريّةٌ عديدةٌ شبيهةٌ رأت النّور ولم تدم طويلًا، إلّا أّن "أُسْوَة" تؤمن أنّها لم تأتي لتختفي. يحدّثنا أبو دعابس حول هذا الجانب قائلًا: " نحن نحبّ ما نعمله، فأوّل زبائن ’أُسْوَة‘ هم نحن، وأذكر قبل أسابيع اتّصالًا هاتفيًّا باغتني بعد منتصف اللّيل من شريكي محمود، فظننت أنّ أمرًا قد حدث، وإذ به يصرخ فرحًا لاستلامه عيّناتٍ صمّمناها ووصلتنا من المصنع، لم يستطع كظم لهفته ودهشته حتّى الصباح، فاتّصل يخبرني بتوفيقنا بالألوان والشّكل والمنتج! هذا المثال، بالإضافة إلى الرّسائل الّتي تصل من النّاس، والرّضا الّذي نجده في أعين من يشاركون في أمسياتنا، أو نلتقيهم في المعارض الّتي نبيع فيها منتوجاتنا، كلّها أمورٌ تدفعنا نحو الاستمرار".

ليست المبادرات الّتي تخصّ اللّغة العربيّة وفيرةً في أراضي 48 بخاصّةٍ، وفلسطين بعامّةٍ، لذا فإنّ الدّافع الأساسيّ لمشروعٍ مثل "أُسْوَة"، هو الحفاظ على اللّغة العربيّة والارتقاء بها، لتكون نمط حياةٍ لكلّ ناطقٍ بالعربيّة في هذه البلاد، وهي رسالةٌ لأن تقوم مبادراتٌ محلّيّةٌ تصدّر الإبداع المحلّيّ بقالبٍ لغويّ؛ ولا شكّ في أنّ جلب الاستثمارات الماليّة والإنتاجيّة إلى هذا المحور ليست أمرًا سهلًا، لكن أمامنا هنا مثالٌ قد يكون نموذجًا لغيره.

لا يخفى على أحدٍ أنّ الواقع الّذي يعيشه فلسطينيّو أراضي 48 انعكس سلبًا على لغة الأمّ، فالعربيّة مستهدفةٌ بشكلٍ مباشرٍ من الاحتلال، وتتعرّض بشكلٍ مستمرٍّ لحملات تشويهٍ وطمسٍ ممنهجةٍ، من خلال قوانينَ وتشريعاتٍ مستمرّةٍ حتّى يومنا هذا، ولطالما سمعنا، ولا نزال، مفرداتٍ عبريّةً دخيلةً يتداولها كثيرون، حتّى في مناطق الضفّة الغربيّة، أو مظاهرَ عامّةً نشاهدها في الشّوارع والمحلّات التّجارّية والمطاعم واللّوحات الإعلانيّة باللّغة العبريّة؛ ولأنّ الحفاظ على اللّغة العربيّة جزءٌ أساسيٌّ في استمرار صمودنا وبقائنا على هذه الأرض، لا بدّ من تحقيق تنوّعٍ في المشهد الثقافيّ العامّ الذي يصل إلى النّاس، وألّا يعتمد فقط على الّطبقة المثقّفة.

مراعاة التّجديد

أخيرًا، يوصي مبادرو "أُسْوَة" عبر "فُسْحَة": "على النّاشطين في مجال الثقافة، واللّغة بخاصّةٍ، أن يعوا وجوب التّطوير المستمرّ لكلّ إنتاجنا العربيّ، فقد قالها ابن خلدونٍ إنّ المغلوب مولعٌ دائمًا بتقليد الغالب، وإنّ المغلوب يظنّ الغالب كاملًا، لذا يشيع في مجتمعاتنا الإحساس بأنّ الحضارة الغربيّة مقدّسةٌ، وهو ما يجعلنا نقوم بتغريب كلّ شيءٍ فينا، ونضحّي بثقافتنا ولغتنا قربانًا في سبيل "التّقدّم"، وإن لم نهتمّ بالجودة وتسويق منتجاتنا الثّقافيّة، فسيستمرّ كثيرٌ من النّاس بالاعتقاد أنّ اللّافتة بالعربيّة تمثّل التّخلّف وعدم التّقدّم، والرّدّ على ذلك يكون بالقميص الّذي يحمل العربيّة، مثلًا، وجعل ذلك حالةً عاديّةً وشائعةً لا هامشيّةً".

ويقولون أيضًا: "إنّ الأساليب الجديدة تدخل حياتنا دائمًا، وعليه، فإنّ التّعامل معها يجب أن يراعي التّجديد بمثل أسلوب الشّركات التّجاريّة الاجتماعيّة. ونحن بدورنا سنستمرّ في تنظيم المحاضرات وإنتاج الفيديوهات التّوعويّة وغيرها، ونسعى إلى تخصيص جزءٍ من مدخولات ’أُسْوَة‘ لمعالجة القضايا الاجتماعيّة، وسنستمرّ كذلك في بيع ما لم يألفه النّاس من بطاقات معايدةٍ وملبوساتٍ، هي بحدّ ذاتها تُعَدُّ تغييرًا في أسلوب المعيشة."