ملاحقة الساتيرا: حين كتب أنس أبو دعابس منشورًا فيسبوكيًّا

يفرض علينا اعتقال الشرطة الإسرائيليّة للناشط أنس أبو دعابس من رهط في أراضي 48، بشبهة التحريض، إثر كتابته منشورًا فيسبوكيًّا ساخرًا حول موجة الحرائق الأخيرة، الخوض في تفكيك ماهيّة المخاطر والتحدّيات التي تواجه أشكال التعبير الفنّيّ والنصّيّ، بل حتّى اللفظيّ المُبَسَّط، في ظلّ تصاعد رقابة أجهزة السلطة على فضاءات التعبير.

رقابة تتطوّر

في حين اعتدنا على مدار عشرات السنين على تدخّلات مُمَنْهَجَة وفظّة في أشكال التعبير ومضامينه، فقد ظنّ البعض، لا سيّما بعد اتّفاقيّة أوسلو، أنّ مساحة التعبير توسّعت، وسطوة الملاحقة الثقافيّة تراجعت. إلّا أنّنا ندرك يومًا بعد يوم، وحدثًا بعد حدث، أنّ وسائل المراقبة والملاحقة ثابتة، وأنّها قد تُبَدِّل جلدها مع تغيّرات المناخ السياسيّ، لكنّها لا تختفي أبدًا، بل تتمدّد وتتطوّر.

الناشط أنس أبو دعابس

إنّ شكل التدخّلات في السنوات الأخيرة، على مستويي التعبير الفرديّ والمؤسّساتيّ، كالمسارح وإنتاج الأفلام والجمعيّات الثقافيّة، تؤكّد وجود فاعليّة نشطة للمؤسّسة الحاكمة في ملاحقة النصوص التعبيريّة، وهي فاعليّة تبدع، دائمًا، هيمنة جديدة للسلطة الأمنيّة البحتة وللسلطة 'الأمنيّة' الثقافيّة في حصار وخنق حرّيّة الكلمة الإبداعيّة للعرب في دولة إسرائيل.

فوقيّة القراءة والترجمة

ما زالت الشاعرة الشابّة دارين طاطور تتعرّض لمحاكمة متواصلة بسبب منشور فيسبوكيّ وقصيدة، ويُنسب إليها التحريض على العنف والإرهاب. تُظْهِرُ محاكمة طاطور، جليًّا، عودة قويّة لرقابة النظام على النصّ التعبيريّ الأدبيّ والنصوص العامّيّة، ويحتفظ النظام بفوقيّة في القراءة والتفسير والترجمة، على الرغم من 'أجنبيّته الضدّيّة' و 'غربته العنصريّة' عن شكل وروح النصوص، في وقت تتحكّم الدولة بأجهزتها المختلفة، بما في ذلك السلطة القضائيّة، في تعريف ماهيّة التحريض في أيّ نصّ، وفق مفاهيم قومجيّة وعنصريّة.

وإن فلتت تلك النصوص التعبيريّة والأشكال الأدائيّة، مرّة، من مقصّ رقيب، أو شرطيّ، أو جنديّ، أو وزير، أو رجل أمن، أو أيّ مواطن عاديّ ينتمي للأكثريّة الحاكمة، فهي تظلّ واقعة تحت تهديدات مشهرة باستمرار، تدعمها الفوقيّة الإثنيّة المطلقة، التي تشترط، أوّلًا وقبل كلّ شيء، تسليمًا أساسيًّا بيهوديّة الدولة قبل انطلاق أيّ شكل تعبيريّ أو بصريّ. وبهذا السياق، شهدنا في الأسبوعين الأخيرين، أيضًا، ملاحقة جديدة للفنّان محمّد بكري، تتعلّق بفيلمه 'جنين جنين' (2002).

الساتيرا

الساتيرا تعبير أدبيّ وفنّيّ يقوم على استعمال اللغة والأداء بقصد توجيه نقد، أو تقديم قراءة نقديّة، أو رصد واقع متناقص بهدف إحداث تغيير في الحالة القائمة، وهذا التعبير يخرج تهكّميًّا وساخرًا ومثيرًا للضحك، لكن ليس بجميع الحالات، فقد يكون ساخرًا لاذعًا دون إحداث حالة ضحك من النصّ المرويّ أو البصريّ على أشكاله المختلفة. عرفنا الأعمال الساخرة في المسرح والسينما والتلفزيون والأدب، إلّا أنّها برزت أيضًا في الكاريكاتير والرسومات.

مع انتشار الثورة الإنترنتيّة، لم تعد الساتيرا تقتصر على فئة أو نخبة معيّنة، فتحوّلت إلى منتج شعبيّ يكتب وينتشر بسهولة، تمامًا مثل النكتة المتاحة للجاميع. وما يميّز الساتيرا الفيسبوكيّة، قدرتها على التدفّق والمرواغة في الوصول للقارئ مقارنة بأشكال إنتاج أخرى؛ المرسومة والمكتوبة والممسرحة، والتي تسهل محاصرتها لقلّتها إنتاجيًّا.

ردّ إلهيّ!

صاغ الناشط أنس أبو دعابس نصّ ساتيرا، ينقد فيه ويسخر من حالة التعبير الشعبيّة التي رافقت موجة الحرائق في أراضي 48 مؤخّرًا، إذ أدرجها البعض ضمن الأعمال الوطنيّة، أو أيّدوها باعتبارها ردًّا إلهيًّا على محاولة المؤسّسة الإسرائيليّة منع الأذان من خلال سنّ قانون.

يدمج كاتب المنشور الساتيريّ عناصر عدّة في صياغته، مثل أردوچان المسلم، والشرطة الإسرائيليّة، والقرى المهجّرة، والصلوات؛ لتكوّن جميعها موقفًا تهكّميًّا نقديًّا من سلوك وأفكار اجتماعيّة ودينيّة وسياسيّة تحدث في ساحته الداخليّة، فيدعو كاتب المنشور بأسلوب ساخر مؤيّدي الحرائق إلى التحرّك لإحداث حرائق أخرى في أماكن رمزيّة لوجود العربيّ في البلاد، أو الصلاة من أجل انحباس المطر، في محاولة منه لبعث الصحوة في عقولهم. ويُظهر المنشور بشكل واضح الاستخدامات التهكّميّة، كالمبالغة والتقزيم، والمقاربات المتناقضة مثل صلاة الغيث وإقامة صلاة لتأجيل نزول المطر، وهذه العناصر مركّبات كلاسيكيّة في فنّ الساتيرا.

لم يفهموا...

لقد استخدم أنس أبو دعابس أساليب تعبيريّة تهكّميّة مفهومة وواضحة تمامًا في السياق اللغويّ والسياسيّ - الثقافيّ العربيّ، إلّا أنّها ليست مفهومة للجهات الحكوميّة 'المُسْتَعْرِبَة'، وذلك  لعاملين اثنين؛ الأوّل، ببساطة، يتمثّل في الجهل ومحدوديّة اللغة والمعرفة اللازمة لقراءة النصّ الساخر، وذلك لاختلافه عن النصّ الوظيفيّ المألوف والمباشر الذي يتسنّى لرجل الأمن انتقاء المعلومات منه. فاللغة العربيّة وفق منهجيّته تعبير معادٍ يجب إحكام القبضة عليه دون إتاحة المجال لنشوء علاقة ودّيّة حقيقيّة، وذلك لأنّ نشوء مثل تلك العلاقة قد يساهم في 'خدش' مشروعه القائم على الفوقيّة الإثنيّة.

أمّا العامل الثاني، وهو في رأيي أكثر تعقيدًا، فهو عجرفة المستعمر وانحيازه التامّ لثقافته 'البيضاء'، وعدم استعداده لرؤية الآخر، 'التابع والدونيّ'، كصاحب ثقافة منتجة ومتجدّدة ومتفاعلة مع الحيّز المحلّيّ والقطريّ والعالميّ، تنتج مضامين متعدّدة، وتفرز نقاشًا حادًّا بطرق غير مألوفة له، وهنا أقصد على نحو خاصّ، وفي سياق مقالتي، الجانب الساتيريّ من هذه الإنتاجات.

كبش فداء

النصّ واضح، وصياغته التهكّميّة تجاه قطاع محدّد من الجمهور واضحة أيضًا، ورسالته التوبيخيّة لا لبس فيها، ولم نكن بحاجة لكتابة مقالة تتطرّق لهذا المنشور، امتلأت الشبكة الفيسبوكيّة بالعديد من المنشورات المشابهة له، لولا أنّ كاتبه اختير ليكون كبش فداء لجهاز دولة يبحث عن مُسَبِّب لما يحدث بأيّ ثمن، كبش فداء لترهيب الناس، وأكثر من ذلك والأهمّ منه، إيجاد قبضات إضافيّة لملاحقة النص.

ملاحقة الكلمة والنصّ هي العنوان لهذا النهج، فتبتكر المؤسّسة وتعيد إنتاج أساليب رقابة سابقة، فقد كانت أجهزة الأمن تلاحق شبّانًا لوجود أغاني مارسيل خليفة وجورج قرمز وأحمد قعبور وأبو عرب والعاشقين بحوزتهم، وكان القضاة في ثمانينات القرن الماضي يصدرون أحكامًا طويلة على مستمعي أغانٍ 'تحريضيّة' مثل 'شدّوا الهمّة'، و'منتصب القامة أمشي'، و 'أناديكم'.

في عنق زجاجة

ما تؤكّده هذه الملاحقات، هو تعنّت المعرفة الاستعماريّة في أنّها النهائيّة والأرقى في تحديد الذوق الفنّيّ واللغويّ والمساحات التعبيريّة، وأنّ لغتك ومعانيها وخباياها الجميلة والثريّة تُقَزّم أمام ثقافة تفترض وتفرض فوقيّتها، تُشَرِّعُ وتنتج لنفسها ثقافاتها التراجيديّة والساتيريّة دون محاكمات تُذكر، ودون عوائق أمام مبدعيها، في حين تدفع بالإنتاج العربيّ إلى التحرّك، بالكاد، في عنق زجاجة. وإن سمحت المؤسّسة بأشكال تعبيريّة 'مناوئة' ليهوديّتها، فهي قد تتيح ذلك حين يكون المبدع العربيّ في إطار صحفها، ومسارحها، وبرامجها الكوميديّة، وهذا جانب شائك يستحقّ وقفة منفصلة لقراءة تعقيداته.

ما نشهده، إذًا، محاولة متواصلة، تتبدّل وتتطوّر، لخفض سقف التعبير وتحديده، وبالتالي طمس مُقَدّرات اللغة وحالاتها الثقافيّة في فضاء الهويّة.
 

فايد بدارنة

 

من مواليد قرية عرّابة في فلسطين. باحث في العلوم السياسيّة، حاصل على البكالوريوس في علم الاجتماع والإنثربولوجيا والعلوم السياسيّة، والماجستير في مجال السياسات العامّة من الجامعة العبريّة في القدس، كما يحمل شهادة في الدراسات الثقافيّة. يحضّر لرسالة الدكتوراه في موضوع المجتمع المدنيّ وبلورة الهويّة الوطنيّة في الجامعة العبريّة. كتب عدّة مقالات في السياسة، والنقد الموسيقيّ والمسرحيّ، والسينما.