المكتبة الفلسطينيّة: من النهب حتّى الإهمال والتهميش

داخل مكتبة ديانا تماري صبّاغ في غزّة، كانت الدهشة هي ما تعبّر عنه ملامح الحاضرين لوجود مكان بهذا الجمال داخل مركز رشاد الشوا الثقافيّ، وقد جاؤوه بدعوة من مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ لحضور ندوة حواريّة حول "المكتبة الفلسطينيّة: ما جاء في تاريخها وما يحدث الآن"، بالتعاون مع بلديّة غزّة، بمشاركة مجموعة من أمناء المكتبات العامّة في القطاع، ولفيف من المثقّفين والمهتمّين بالحراك الثقافيّ.

بدأت الندوة بترحيب مدير عام المراكز الثقافيّة في بلديّة غزّة، عصام صيام، بالضيوف، ليعرّف بعد ذلك بالمراكز الثقافيّة الخمسة التي تديرها البلديّة، داعيًا الجمهور الفلسطينيّ إلى زيارة هذه المراكز والتفاعل معها. وقال صيام: "أملنا أن يزور الناس المكتبة، وأتمنّى رؤيتها ممتلئة بالقرّاء والمهتمّين كما يحث اليوم". وعبّر صيام عن سعادته بالشراكة مع مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ لتفعيل دور المكتبات العامّة في نشر المعرفة والثقافة.

1826

واستعرض مدير مؤسّسة تامر في قطاع غزّة، أحمد عاشور، تاريخ المكتبة الفلسطينيّة الحديثة، موضحًا أنّه بدأ، وفق المذكور في كُتب التاريخ، منذ عام 1826، من خلال جمع المخطوطات، وتطوّر الأمر مع الحركات الرياديّة للأدباء والمثقّفين الفلسطينيّين خلال خمسة عشر عامًا، لتحقّق المكتبة الفلسطينيّة انتشارًا واسعًا.

وأشار عاشور إلى أنّ نكبتنا على يد العصابات الصهيونيّة لم تقتصر على تهجيرنا من أرضنا فحسب، بل إلى سلبنا هويّتنا الثقافيّة والحضاريّة من خلال سرقة الكتب وحرق المكتبات العامّة والخاصّة، وتزوير الكتب، مستشهدًا بمكتبتي الخالدي في القدس ويافا، ومكتبة أسعد الشقيري في عكّا، اللواتي دمّرتهنّ العصابات الصهيونيّة خلال النكبة. واستعرض عاشور وضع المكتبات العامّة في القدس، وتحديدًا مكتبة الخالدي، التي لم يتبقّ فيها سوى بعض المخطوطات، وكذلك سياسات الاحتلال التي تمنع تنظيم أيّ نشاط داخل المكتبة، موكّدًا على أنّ الأعمال الثقافيّة تكتمل عندما يشارك بها المجتمع المحيط، وأنّ التكاتف أحد مقوّمات البنية السليمة لأيّ مجتمع يحمل هويّة وموروثًا ثقافيّين. وقال عاشور إنّنا لا يمكننا تقسيم الأمور، وإنّ جميع القضايا مترابطة ومتشابكة مع بعضها البعض منذ بداية الاحتلال عام 1948 حتّى يومنا هذا، وختم عاشور بسؤاله للحضور "من منكم يتذكّر مطالبنا قبل الحصار؟"

مكتبات تبحث عن اهتمام

كما طرح منسّق مشروع "أنا تبرّعت بكتابهاني البياري، ورقة إحصائيّة تكشف بعض الحقائق الصادمة حول واقع المكتبات الفلسطينيّة، أعدّها فريق مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ بالتعاون مع مركز الإحصاء الفلسطينيّ.

ومن المعلومات المهمّة التي جاءت في الورقة، أنّ المكتبات العامّة في الضفّة الغربيّة والقدس وغزّة، بلغ عددها 62 مكتبة موزّعة على النحو التالي: 10 في قطاع غزّة، و52 في الضفّة الغربيّة والقدس. وقال البيّاري إنّ إحصائيّة أعدّها المركز الفلسطينيّ للإحصاء عام 2010، بيّنت أنّ متوسّط الاشتراكات في المكتبة الواحدة 2100 اشتراك سنويّ، موضحًا أنّ مكتبة بلديّة المغازي تُغلق عام 2016 وفيها 72 اشتراكًا فقط. وتوضح الإحصائيّة أنّ 81% من المكتبات العامّة تتبع للبلديّات، وأنّ 19% منها تدفع إيجارًا سنويًّا، بينما لا تزيد نسبة المكتبات التي تلمك مبانٍ خاصّة عن الـ 17%، وجاء في الورقة الإحصائيّة أنّ 55% من المكتبات ليس لديها سياسة إداريّة واضحة.

وتعرّضت الإحصائيّة إلى استبيان لروّاد المكتبات، حيث قال 92% منهم إنّهم يلجؤون إلى الأداة الإلكترونيّة لقراءة الكتب التي لا تتوفّر في المكتبات العامّة، وإنّ 71% منهم لا يكتفون بالمصادر التي توفّرها المكتبة.

وعن دور البلديّات، في تطوير المكتبات العامّة، قال البيّاري إنّ معظم البلديّات لا تدعو أمناء المكتبات إلى اجتماعات وضع خططها الاستراتيجيّة، تاركًا للحضور سؤالًا مهمًّا عن جدوى تبعيّة هذه المرافق الثقافيّة المهمّة للبلديّات، إن لم تكن الإدارة العامّة مهتمّة بتطوير وإبراز الدور الثقافيّ المهمّ الذي تؤدّيه المكتبات العامّة في الوطن.

 

أعظم السرقات

وعُرض خلال الندوة فيلم وثائقيّ بعنوان "النكبة... أعظم سرقات الكتب"، الذي حاول معرفة مصير الكتب الفلسطينيّة قبل النكبة، كما يوثّق سرقة العصابات الصهيونيّة للكتب من البيوت والمؤسّسات الفلسطينيّة، بهدف إثراء المكتبة القوميّة العبريّة والأكاديميّة. ويُظهر الفيلم أنّ ما يقارب الـثمانين ألف كتاب ومخطوط فلسطينيّة لا تزال تحمل مُلصقًا كُتِبَ عليه "AP"، أي أملاك متروكة. كما عرض الفيلم شهادات لعدد من المثقّفين الفلسطينيّين، باللغة العبريّة، تحدّثوا فيها عن أهمّيّة وقيمة الكتب والمخطوطات التي نهبتها العصابات الصهيونيّة.

إرادة

وتحدّث بعد ذلك أمين مكتبة بلديّة رفح، طلال حمدان، مستعرضًا تجربته في مكتبة البلديّة، فقال: لم أكن متخصّصًا في المجال عندما انتقلت من دائرة العلاقات العامّة في البلديّة إلى المكتبة، التي كانت تعاني من إهمال شديد على المستويات كافّة؛ مظهرها من الخارج والداخل، وشبكات الإنارة والصرف الصحّيّ المهترئة، إذ لم تلق المكتبة أيّ صيانة منذ افتتاحها عام 1986.

وأضاف حمدان: ردّ فعلي الأوّل كان رغبتي في ترك الأمور على حالها ورحيلي عن المكان، لكنّ أمرًا داخلي استفزّني، ففكّرت مع الإخوة العاملين في المكتبة، وخرجنا بورقة توصيات إلى إدارة البلديّة، لكنّها لم تلق أيّ اهتمام. بحكم خبرتي في مجال العلاقات العامّة، سابقًا، كان لا بدّ من التحرّك مع جهات خارجيّة، فتواصلنا مع مؤسّسة تامر للتعليم المجتمعيّ، التي تجاوبت على نحو إيجابيّ، وقد عقدت مجموعة من ورشات العمل والزيارات التبادليّة.

وقال أيضًا: توصّلنا في النهاية إلى البدء بإعادة تأهيل المكتبة، ثمّ وضع خطّة استراتيجيّة لذلك. أنجزنا العديد من الأمور، منها تزويد المكتبة بشبكة إنارة بديلة وأجهزة إلكترونيّة وكتب حديثة، وهو تغيير دفع فريق العمل إلى حوسبة المكتبة كاملة وإعادة تصنيفها.

وعرض حمدان في ختام مداخلته معلومات إحصائيّة تُبيّن أنّ عدد زوّار المكتبة بلغ نهاية عام 2015 حوالي 14,000 زائر، وأنّ عدد الكتب فيها آنذاك بلغ 30,000 كتاب. أمّا عام 2016، فقد زارها حوالي 18000 زائر، ويبلغ عدد الكتب فيها، الآن، 42,000 كتاب.

في نهاية الندوة، ناقش المشاركون واقع المكتبة الفلسطينيّة وتحدّياتها على ضوء ما جاء في الندوة، وقدّم بعضهم اقتراحات لحلّها. أحدهم اقترح تولّي وزارة الثقافة إدارة المرافق الثقافيّة والمكتبات العامّة مباشرة، عوضًا عن البلديّات التي أثبتت عدم اهتمامها بهذا الشأن. كما طرح آخر تطوير المكتبات العامّة وتحديث محتوياتها، حتّى يتشكّل دافع للجمهور إلى زيارة المكتبة والجلوس فيها. وقال آخر إنّ المكتبات العامّة تُغلق أبوابها الساعة الثانية ظهرًا، وهذا أمر بحدّ ذاته غير منطقيّ، إذ إنّ القراء، بغالبيّتهم، إمّا طلّاب أو موظّفون، ما يعني أنّ ساعات استقبال المكتبات لا يتلاءم مع أوقات فراغهم، وهذا يبيّن الخلل في السياسة الإداريّة.

 

محمود الشاعر

 

من مواليد مدينة رفح جنوب فلسطين عام 1990. كاتب، عضو اتّحاد الكتّاب الفلسطينيّين، والمدير التنفيذيّ لمجلّة 28، والمنسّق العامّ لدار خطى للنشر والتوزيع. درس دبلوم المحاسبة في الكلّيّة الجامعيّة للعلوم التطبيقيّة والمهنيّة. صدرت له مجموعة شعريّة مشتركة بعنوان "مساحة بيضاء"، وله نصوص منشورة في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.