مقام الخضر: هكذا تحوّلت الخربة إلى موقع ثقافيّ

قبل عام أو يزيد قليلًا، وفي ممرّ ضيّق بالكاد يتّسع لمرور سيّارة واحدة، يؤدّي إلى 'مقام الخضر' الواقع وسط مدينة دير البلح في قطاع غزّة، كانت الفتاة أمل بشير (11 عامًا) تلعب اللعبة التراثيّة المشهورة، الحجلة، من دون اكتراث لأكوام الحجارة التي تختبئ أسفلها القوارض والزواحف. تعلّق أمل بطاقة عضويّة على صدرها الآن، وهي تنتقل من ركن إلى آخر داخل المقام الذي صار موقعًا ثقافيًّا ومكتبة.

قفزة

هذا التحوّل في التعامل مع المقام الذي يمثّل إرثًا تاريخيًّا مهمًّا، شكّل قفزة لدى أمل، لا تشبه تلك التي تمارسها في لعب الحجلة، تقول إنّها حقّقتها على صعيد التثقيف وتنمية المهارات الفنّيّة، ولا سيّما الرسم.

أمل التي صارت عضوة في المكتبة المقامة على أنقاض المقام، بعد عمليّة ترميم جذريّة حوّلته إلى متحف أثريّ، قالت إنّها تفضّل قضاء أطول مدّة ممكنة هنا، بين الكتب: 'أنا لا أعترف بالضجر، حتّى لو قضيت يومًا كاملًا هنا.' علمًا أنّ المقام يفتتح أبوابه سبع ساعات يوميًّا فقط، ولخمسة أيّام في الأسبوع.

في القبو، تحلّق الأطفال حول الراوية التي تجلس على كرسيّ من القشّ، مستكملة باقي تفاصيل قصّة من أدب الأطفال محمولة بين يديها، فتجاهر بصوتها حينًا، وتهمس أحيانًا، انسجامًا مع الأحداث.  

معرفة

ومن الواضح أنّ جمال المكان وقداسته ليسا ما دفع الأطفال إليه وأسرهم في حبّه فقط، فوجود الكتب في منطقة مهمّشة كهذه، كان محرّكًا للأهالي كي يوفّروا لأطفالهم عضويّة في المكتبة، مقابل 10 شيقل سنويًّا. وعلى الرغم من أنّ الفقر بلغ مبلغه من جيوب الناس، إلّا أنّ فئة كبيرة من الأهالي يصرّون على دفع قيمة الاشتراك.

قال المواطن أبو محمّد بركة إنّه لا يتوانى عن توفير قيمة الاشتراك في المكتبة لطفلته من أجل حصولها على المعرفة والثقافة، ولا سيّما خلال الإجازة الصيفيّة، وفي ظلّ انقطاع التيّار الكهربائيّ عن المنزل لأكثر من 22 ساعة يوميًّا.  

يشجّع أبو محمّد طفلته على قضاء وقت ممتع بين الكتب، ويقول وهو يجلس مستظلًّا من لظى شمس تمّوز تحت شجرة: 'نحن محظوظون لأنّنا نقيم إلى جوار المقام، فهو ذو قيمة تاريخيّة وتعليميّة. لا يمكننا أن نبخل على صغارنا، ففي  طفولتنا لم نكن نجد من يرشدنا باتّجاه الكتب،' يقول ذلك ويتنهّد بعمق.

تاريخ

ينقسم المبنى إلى قسمين، الأوّل بمثابة المكتبة، والثاني قبو أسفل المبنى بثلاثة أمتار تقريبًا، يربط بينهما دهليز ضيّق ذو أدراج. ويرجّح أن المقام أنشئ ليكون مسجدًا صغيرًا للصلاة فوق دير للقدّيس هيلاريون أو هيلاريوس، والذي يعود للقرن الثالث الميلاديّ.

يستدلّ المؤرّخ الفلسطينيّ سليم المبيّض، على هذا القول، من نقوش في القبو تذكّر بفنّ العمارة الصليبيّ، بالإضافة إلى بعض النقوش اليونانيّة، والتيجان، والأعمدة الرخاميّة. وقال المبيّض: 'هذه الدلائل تؤكّد على بناء مقام الخضر فوق الدير، فضلًا عن أنّ بعض الروايات نسبت المقام إلى القدّيس جورجس، وتعني ’الخضر‘ باللغة العربيّة.'

وعلى الرغم من أهمّيّة هذا المقام، إلّا أنّه كان خربة على مدار عقود، أو بمعنى أدقّ، مأوى للقوارض والزواحف، ولكم أن تتخيّلوا كيف كانت رائحة المكان آنذاك. لم يبادر أحد إلى إيقاف تساقط حجارة قبابه إلّا منذ عام تقريبًا، حين أخذت 'جمعيّة نوى للثقافة والفنون' و'مركز عمارة التراث – إيوان' على عاتقيهما ترميمه، بمساعدة وزارة السياحة والآثار، وبتمويل من منظّمة اليونسكو، بلغ 77 ألف دولار.

بيئة تربويّة

تنهمك الشابّة ميساء العكلوك، وهي منسّقة المكتبة، في التعامل مع الأطفال الذين ينتشرون كخليّة نحل بين الرفوف. وبالكاد تجد وقتًا للتفاعل مع الضيوف. تقول إنّ المكتبة تمثّل تربة خصبة للاستزادة من العلم والبحث عن المعرفة بين طيّاتها، 'ونحن سعداء جدًّا من حجم تفاعل الأطفال، ولا سيّما خلال الإجازة الصيفية.' وقد لفتت إلى أنّ المكتبة زاخرة بالكتب المتنوّعة، والتي تراعي الفروق الفرديّة بين الأطفال.

وتشير العكلوك إلى أنّ فكرة ترميم المكان جاءت من أجل إيجاد بيئة متكاملة من الابتكار في التعليم غير الرسميّ للأطفال والتربويّين، وكذلك الأهالي، عبر تنفيذ برامج ثقافيّة، وفنّيّة، وتربويّة، مؤكّدة أنّهم يسعون إلى تعزيز قيم التسامح من خلال العمل على رعاية هذا المكان، انطلاقًا من شكل المقام الذي ترافق فيه المسجد الصغير مع الكنيسة، ليرسلا رسالة محبّة للإنسانيّة.  

تنتابك الدهشة الآن، عندما تمرّ بالممرّ المؤدّي إلى 'مقام الخضر'، وهو مزيّن بالفسيفساء والزخارف الفنّيّة، ولا سيّما أنّه أضحى تحفة فنّيّة بامتياز، يتجلّى فيها قول الشاعر تميم البرغوثي: 'في الجوّ ريح براءة، ريح طفولة'، وريح ثقافة وتاريخ أيضًا.

 

فادي الحسني

 

إعلاميّ من قطاع غزّة. يعمل في مجال الاستقصاء الصحافيّ، وقد صدر له "إعلاميّون منهجيّون في كشف الحقائق". حاصل على عدّة جوائز إعلاميّة، من بينها المركز الثاني على مستوى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في جائزة التحقيق الاستقصائيّ (2013)، وجائزة فلسطين للإبداع الشبابيّ – فئة الكتابة الصحافيّة (2012). يرأس تجمّع قرطبة الثقافيّ في غزّة