عندما حوّلت بريطانيا فلسطين إلى "إيرلندا ثانية"

برنارد مونتغومري | wikimedia

 

ترجمة: أسامة غاوجي.

المصدر: الإنتفاضة الإلكترونيّة.

 

أعيش بالقرب من مزار مخصّص للقائد العسكريّ البريطانيّ برنارد مونتغمري، الواقع في شارع تتوزّع الأشجار على جانبيه في الطريق المؤدّية إلى قوس النصر. يكشف لنا هذا التمثال القائم لمونتغمري في بروكسل، إلى أيّ مدى ينظر الأوروبيّون إليه بصفته بطلًا، بسبب دوره في الحرب العالميّة الثانية، لكن، في حقيقة الأمر، لم يكن مونتغمري إلّا سفّاحًا. لقد بات هذا الأمر واضحًا لي بعد أن قرأت ملاحظاته التي كتبها بخطّ يده، والمحفوظة في الأرشيف البريطانيّ الوطنيّ.

أثناء عام 1938، كان مونتغمري يقود فرقة المشاة في فلسطين، وقد ساهم آنذاك في قمع ثورة كبرى. كانت نصيحته حينها - والمحفوظة في ملاحظاته المكتوبة بخطّ يده التي أشرت إليها آنفًا - أنّ على بريطانيا، التي كانت تحكم فلسطين بتفويض من عصبة الأمم، ألّا تُظهر أيّ رحمة.

كتب حينها؛ المتمرّدون "يجب أن نطاردهم بلا هوادة". " حين نشتبك معهم في المعركة، يجب أن نطلق النار بهدف قتلهم".

جانب من تدمير البريطانيّين ليافا خلال ثورة 1936 | israeldailypicture

وعلى الرغم من أنّه دعا جنوده إلى الالتزام "بالإنصاف التامّ" تجاه الفلسطينيّين غير المشاركين في الثورة، فإنّه أكّد على أنّهم "لو تعاونوا مع المتمرّدين بأيّ طريقة، فيجب أن يعلموا أنّنا سنتعامل معهم كما نتعامل مع المتمرّدين".

صدرت هذه التعليمات في وضع كانت بريطانيا فيه تمثّل نقيض الإنصاف تمامًا؛ فبعد نشوب الثورة عام 1936، هدمت السلطات البريطانيّة المدينة القديمة في يافا، تاركة آلاف السكّان دون مأوى، وقد أرست بذلك نمطًا متّبعًا، يُعاقب بمقتضاه المجتمع بأكمله إن فشل في إطاعة مضطّهديه. فعلى سبيل المثال، كان البريطانيّون يصنّفون القرى التي يعيش فيها المتمرّدون على أنّها "معادية"، وكانوا بين الفينة والأخرى يجمعون جميع الرجال الذين يعيشون فيها.

لم تُميّز السلطات البريطانيّة، عمليًّا، بين المقاتلين والمدنيّين، وما الأنشطة التي تمارسها إسرائيل اليوم إلّا صدى لتلك الأنشطة التي قامت بها بريطانيا؛ ففي محاولة للتعمية عن الجرائم التي ارتكبتها في غزّة، صنّفت إسرائيل المنطقة بأكملها على أنّها "معادية".

"عليك أن تكون قاسيًا"

قبل أن يصل إلى فلسطين بنحو خمسة عشرة عامًا، أدلى مونتغمري بآراء مشابهة حول تجربته في إيرلندا. فحين نشبت حرب الاستقلال الإيرلنديّة خلال العشرينات، خدم بصفته قائد لواء في مدينة كورك، وقد طلب إليه أن يكتب مذكّرة تلخّص تجربته ويرفعها لضابط رفيع في الجيش البريطانيّ.

"شخصيًّا، كان كلّ تركيزي منصبًّا على هزيمة المتمرّدين، ولم أعبأ، ولو قليلاً، بعدد المنازل التي أُحرقت"، هكذا كتب مونتغمري، وأضاف: "أعتبر أنّ جميع المدنيّين ’شينيّون‘ (Shinner)، لذا لم أتعامل معهم على الإطلاق". و"شينيّون" كلمة عاميّة لكلّ من يرتبط بـ "شين فين"، المنظّمة الجمهوريّة الإيرلنديّة.

جانب من تدمير البريطانيّين لمدينة كورك الإيرلنديّة عام 1920 | National Library of Ireland

حاجج مونتغمري بأنّه "لكي تفوز في حرب من هذا النوع، عليك أن تكون قاسيًا لا ترحم"، وأضاف: "لو كان الأمر بيد أوليفر كروميل أو بيد الألمان، لاستتبّ الأمر خلال فترة وجيزة". وكروميل هو الإنجليزيّ الذي قاد غزو إيرلندا في القرن السابع عشر، وقد اقترن اسمه، في أذهان الإيرلنديّين، بالمذابح التي قام بها جنوده.

وصل مونتغمري إلى كورك في شهر كانون الثاني (يناير) 1921. قبل ذلك بعدّة أسابيع، كانت القوّات البريطانيّة قد أحرقت نحو 60 محلًّا تجاريًّا هناك، بالإضافة إلى قاعة المدينة والمكتبة الرئيسيّة، ونتيجة لذلك، خسر نحو 2000 شخص وظائفهم.

خلصت دراسة حديثة أجراها المؤرّخان آندي بيلنبرغ وجيمس دونلي، إلى أنّ القوّات البريطانيّة لجأت إلى "استراتيجيّة فظّة" في منطقة كورك. بدأ تنفيذ هذه الاستراتيجيّة، فعليًّا، عام 1921، وتضمّنت إطلاق النار بنيّة القتل على كلّ شخص يُزعم بأنّه رفض التوقّف عندما أمرته القوّات البريطانيّة بذلك. وفقًا للمؤرِّخَين، فقد قُتل نحو 17 شخصًا بفعل هذه الاستراتيجيّة.

"قابلون للاستهلاك"

بعد سنة من ذلك، قام ألفريد هارمسورث، الرائد في عالم الإعلام – الذي يمتلك جرائد ذات شعبيّة واسعة مثل الديلي ميل والديلي ميرور – بزيارة فلسطين.

وعلى الرغم من كونه شخصيّة نموذجيّة راسخة، فقد صُعق هارمسورث – الذي توفّي بعد مدّة قصيرة من رحلته - من آثار السياسة البريطانيّة في فلسطين، وقد نقل الصحفيّ جي. إم. إن. جيفريز عن هارمسورث قوله: "إنّنا نجعل من ذلك البلد إيرلندا ثانية".

كتاب الصحافيّ جيفريز، "فلسطين: إليكم الحقيقة"، الصادر عام 1939

صدرت هذا العام طبعة جديدة من كتاب جيفريز، "فلسطين: إليكم الحقيقة"، الصادر عام 1939، وبعد مرور نحو ثمانية عقود منذ كتابة هذا المجلّد ذي الـ 750 صفحة، لا تزال سطوره راهنة بصورة موجعة.

لقد تحوّلت فلسطين بالفعل إلى ما يشبه "إيرلندا ثانية".

عانى كلا البلدين من نتائج المشاريع الاستيطانيّة الاستعماريّة التي رعتها السلطات البريطانيّة؛ خضع كلاهما للوحشيّة البريطانيّة، وفي بعض الأحيان، على يد الأشخاص أنفسهم. لقد كان مونتغمري واحدًا من بين عدد كبير من أعضاء القوّات البريطانيّة "السرّيّة" الذين تمركزوا في إيرلندا قبل أن يُرسلوا إلى فلسطين.

يركّز كتاب جيفريز على أنّ من صاغوا وعد بلفور – الذي تعهّدت بريطانيا عام 1917 بمقتضاه بدعم الاستعمار الصهيونيّ – قد تعاملوا في الغالب مع الفلسطينيّين على أنّهم "قابلون للاستهلاك" expendable))، وكتب قائلاً إنّ الحكومة البريطانيّة قد "تجاهلت العرب تمامًا، كما لو أنّهم لم يكونوا موجودين".

لم تكن نصائح مونتغمري في فلسطين موضع قبول دومًا لدى النخبة السياسيّة البريطانيّة.

كانت الحركتان الصهيونيّتان المسلّحتان، الإرغون وليحي، قد بدأتا تعتبران بريطانيا عقبة في طريق تحقيق أهدافهما، وفي الأربعينات، شنّتا حملة من الاغتيالات والتفجيرات التي استهدفت دبلوماسيّين وقوّات بريطانيّة.

بحلول ذلك الوقت، كان مونتغمري قد ترقّى إلى منصب رئيس الأركان العامّة الإمبراطوريّة في الجيش البريطانيّ، وقد اشتكى حينها بأنّ بريطانيا تنتهج "سياسة ترضية" تجاه المجموعات الصهيونيّة المسلّحة، ودعا إلى استخدام القوّة الثقيلة ضدّهم.

فندق "كينغ دايفيد" بالقدس، بعد تفجيره على يد الإرغون عام 1946 | 
Imperial War Museum, London

لاقت هذه النصيحة رفضًا من آلان كونينغهام، آخر من تولّى منصب المندوب البريطانيّ السامي في فلسطين، إذ شعر بأنّ بريطانيا لا تزال ملزمة تجاه واجبها بدعم وتغذية المشروع الصهيونيّ.

تكشف هذه الحادثة الكثير عن استمرار الدعم البريطانيّ للصهيونيّة على الرغم من الخلافات الكبيرة، كما تؤكّد على المعايير المزدوجة للسلطات البريطانيّة أيضًا؛ فبينما استعملت القبضة الحديديّة في وجه الشعب الذي نُظر إليه على أنّه قابل للاستهلاك؛ كان التعامل مع ربيبتهم، بالمقابل، بقفّازات أطفال.

 

روزنة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من الإنجليزيّة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، بإشراف الشاعر والمترجم أسامة غاوجي.

الصور الواردة في هذه المقالة من اختيارات هيئة التحرير، لا المصدر الأصل.