أفكار بنكهة المانجو

.

هي لا تعلم أين تقع فلسطين. وقد تضحك ضحكًا مبرّحًا يزيد من ملامح وجهها الفيتناميّة حدّةً، إذا أخبرتها بأنّ فلسطين مركز العالم والكون. وحين تقول العالم والكون تقصد بالطبع عالمك أنت. وحين أقول أنت أقصد بالطبع أنا. عند بسطتها، حيثما يمتزج المانجو والأناناس ودخان السيّارات، تقف أنت، وحين أقول أنت أقصد بالطبع أنا، تطلب منها مانجو بمزيج من الإشارات والكلام، فتقطّعه إربًا إربًا وتقدّمه لك بابتسامة المحلّيّ إلى الغريب.

في سنواتها المقدّرة بالخمسين لم تسمع عن فلسطين، ولم تدعُ إلى شهدائها، ولم تشتم مجرمي مجازر غزّة، ولا صبرا وشاتيلا. لم تسمع قطّ أنّنا باقون ما بقي الزعتر والزيتون، وقد تظنّ أنّك رجل غريب الأطوار إذا قلت لها: "حيث وُجد الصبّار؛ ثمّة قرية فلسطينيّة هُجّر أهلها". لم تجبل يداها يومًا الكبّة النيّة، وفي حياتها لم تتباهَ أمام صديقاتها بخفّة نقشها لكعك العيد أو فرم التبّولة بعشر دقائق. لا ينتابها اشمئزاز من الزنخة، ولم تحذّر أولادها منها. في حياتها كلّها، لم يطلق لسانها زغرودة واحدة، ولم تردّد قطّ "بالهنا يمّ الهنا يا هنيّة". لم يصبغ يديها يومًا الحنّا في الأعراس، ولم تلدغ لسانها حدّة الزيت أوّل موسمه. هي لم تحمد الله على نعمة "البيطوّاح ليئومي"، وفاتت عنها حيلة التنقيط علنًا والعمل خفية. لم تُهدَ يومًا طقم صحون أو فناجين، ولا شراشف للفراش، ولم تخزّنها كي تُهدي هي، كما هي، متحايلة على الأعراف سرًّا. هي لم تنادِ الله يومًا طالبةً منه أن يقطع عنها وعن أولادها شرّ اليهود، هي لم تعدّ القهوة العربيّة ولو مرّة واحدة، ولم تحملها مهرولة ترافقها ابتسامة عريضة، وأهلًا وسهلًا متكرّرة يتلوها سكوت ثمّ صوت انسكاب القهوة، ثمّ أهلًا وسهلًا واحدة بطيئة. في حياتها كلّها لم تستنشق رائحة المناقيش الطازجة، المتسلّلة إلى غرفة النوم خلسةً صباح يوم سبت. أنت لا تعلم عنها شيئًا لكنّك تستطيع بكلّ ثقة أن تجزم كلّ هذا وأكثر.   

على حافّة الرصيف، جلست محدّقًا بمشهد الشوارع الصاخبة بصحبة المانجو. هي لا تعلم أين تقع فلسطين، وأنا لا أفهم لماذا كلّما قطّعت المانجو، نسجت في ذهني رزمة من الأفكار، منتظمة بعشوائيّتها، تأخذني إلى هناك

على حافّة الرصيف، جلست محدّقًا بمشهد الشوارع الصاخبة بصحبة المانجو. هي لا تعلم أين تقع فلسطين، وأنا لا أفهم لماذا كلّما قطّعت المانجو، نسجت في ذهني رزمة من الأفكار، منتظمة بعشوائيّتها، تأخذني إلى هناك، إلى حيفا تحديدًا. وحين أقول حيفا ربّما أقصد أنا. وحيفا اليوم معكّرة المزاج. حيفا اليوم سعيدة. حيفا محتفلة بسكونها ومترقّبة لمصير لن تشهده. حيفا مشتّتة لكنّها واثقة بنفسها. حيفا تستنشق أنفاس السيجارة الأخيرة وتشرب حدّ الثمل. حيفا تحاول أن تخفّف، أن تنحف، أن تركض، أن تأكل المزيد من الخضار. حيفا تصحو باكرًا، لتُعِدّ صحونًا مكدّسة من الحمّص البائس يغرق بزيت يتظاهر بنكهة الزيتون. حيفا تطوف بسيّارات حول "بن غوريون" ذهابًا وإيابًا بأنغام الدحّيّة و"يامْ شِلْ دْمَعوتْ". حيفا تحدّق بالأفق بين صخور تلّ السمك والسماء. حيفا لا تصلّي لكنّها تلبس أزهى ملابسها وتظهر في الشعانين برفقة أخواتها، آملةً أن تشبّكها الأجراس بعريس حسن الشكل مفتول العضل، من عائلة طيّبة السمعة ميسورة المال. حيفا تلمّ شمل لاجئيها وتتأرجح بخفّة بين فكرة القرية والمدينة. حيفا قصّة عشق بين عربيّ وروسيّة، تُحكى بالعبريّة. حيفا شابّة لم تتمّم السابعة عشرة حُفِر على صباحها "بتوكلو ورا المدرسة"، فهمس "العَواشِر" وهمس "الحدَعْشات" وهمس "الطنَعْشات"، ثمّ صرخوا جميعًا بصوت واحد يسدّ الآذان: "شَرمُوطَة!"؛ سكت الجميع وضحكت حيفا ثمّ عادت تنتش من رغيف الشاورما، وتمسح الطحينة الّتي لولا العيب لكانت "شقوطت" عن فمها. حيفا تتحايل على تقاليد مجتمعيّة، ثمّ تجترّها بهدوء مكسوّ بطرحة عروس البحر العذراء. حيفا تناقش السياسة والحرّيّات الجنسيّة وكلّ شيء عداها. حيفا تخشى أن يدرك والداها أنّها حيفا. حيفا تتشارك أسرارها مع كلّ قاطنيها لكنّها لن تُفشي بسرّها أبدًا. حيفا ترتشف القهوة صباحًا وظهرًا ومساء، وتُتَمتم وتُتَمتم وتُتَمتم، حتّى تنهكها الكلمات فترقص على خطوط الليل الأخيرة. حيفا تتظاهر ثمّ تُعتقل ثمّ تشرب حدّ الثمل مجدّدًا. حيفا تحتفي بزوّارها وتقذف نفسها على أجسادهم فتظنّ أنّها انتشت. تشعل سيجارة لتطفئ ولعها. تبدّد وحدتها بساكنيها ثمّ تتركهم يتأمّلونها وحيدين. حيفا لن تنام الليلة لكنّها ستصحو غدًا، متشوّقة إلى البحر وفلافل نجلا وحلّة المدارس أيّام الجمعة. حيفا هادئة. حيفا معكّرة المزاج. حيفا صغيرة صغيرة يتشارك فيها الماضي والحاضر والمستقبل الأزقّة ذاتها، ومقاعد المقاهي ذاتها، ومحطّات البنزين، والحلّاقين، والإشاعات، وأساتذة السواقة، وبائعي الخضار أنفسهم. حيفا سافرت بعيدًا عن حيفا اليوم، لكنّها لم تغادرها قطّ.

وفي حين ما زالت حيفا معلّقة بين بحر وجبل، وتعابير وجهي ما بين يقظة وخيال، وأفكاري لمّا ترسُ بعد على برّ الشرق الأقصى، صفعني مزمار سائق تاكسي لن يتأخّر عن شيء، اخترق غمامة أفكاري المبعثرة وأعادني لوهلة إلى حافّة الرصيف والمانجو. هي لا تعلم أين تقع فلسطين، ولا تعلم أنّ في فلسطين ترقص الحياة بأطيافها أجمعين بين أصفاد وجنود وذرة باب العمود، ثمّ تقتطع نصيبها اليوميّ من الخبز والموت، وترسل أهلها باكرًا إلى الصلاة.

هي لا تعلم البتّة أنّ حيفا ستسأم غدًا نفسها، فتُخلي مكانها لذات أخرى من ذاتها، لتعود وتلطّخ يديها بالحنّا، وتملأ فمها بالزغاريد، وتطلق في سمائها ألوفًا مؤلّفة من "الهنا يمّ الهنا"، ثمّ تُهدي صحونًا لا تحتاج إليها إلى آخرين لن يحتاجوا إليها

هي لا تعلم البتّة أنّ حيفا ستسأم غدًا نفسها، فتُخلي مكانها لذات أخرى من ذاتها، لتعود وتلطّخ يديها بالحنّا، وتملأ فمها بالزغاريد، وتطلق في سمائها ألوفًا مؤلّفة من "الهنا يمّ الهنا"، ثمّ تُهدي صحونًا لا تحتاج إليها إلى آخرين لن يحتاجوا إليها. ربّما لن تتباهى بنفسها بخفّة نقشها لكعك العيد، لكنّها ستوصي على 2 كيلو من عند أمّ شاكر "اللّي شغلها حلو ومرتّب"، وتتذمّر من سعره أيضًا. حيفا ستستأنف تكرار نفسها بنفسها، وتندهش كلّ مرّة من جديد. هي لا تعلم أين تقع فلسطين، وأنا أصبحت أعتقد بالضرورة أنّ البشر شيء عجيب. نقطع المسافات لنقترب إلى خيوط حيكت في ذاكرتنا، وكأنّنا أودعناها هناك موصدة بإحكام، مفتاحها امرأة غريبة في بلاد عجيبة تقطّع المانجو. تفيض منّا رائحة الكليشيهات، وتمتزج بالغرباء في الشوارع. نصبغ ممارساتنا اليوميّة الّتي مقتناها بنكهة رومانسيّة للمألوف. وحين أقول البشر أقصد بالطبع أنا، وحين أقول أنا، لست داريًا ما أقصد بالتأكيد.

أيّار، 2019.

هانوي، فيتنام.

 

* تنشر هذه المادّة ضمن ملفّ "محلّي"، بالتعاون مع حركة شباب حيفا.

 

ربيع إغباريّة

 

 

محامٍ وباحث من حيفا.