حيّ الشحّادين

إنجن أكيورت

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

كان ذلك في إحدى الليالي الشديدة البرد. خرجَتْ من المصعد وحُزن غريب ينتابها. لم تعلم ماذا حدث، أو ماذا تغيّر منذ أن دخلت مكتب تجارة العقارات صباح هذا اليوم. مشت في اللوبي الكبير والمظلم باتّجاه شارع البورصة، تسير بسرعة حذرة، وحدها، قاصدةً شقّتها في إحدى ناطحات السحاب الّتي ملأت مركز المدينة في السنين الأخيرة. هي تعرف هذه الطريق جيّدًا؛ فقد جابتها يوميًّا منذ أن استلمت وظيفتها "المحترمة" - على حدّ قول خالتها - كانت دائمًا تحلم بهذه الوظيفة: أن تعمل في مكتب كبير يشرف على المباني الأسمنتيّة الشاحبة اللون جنوبيّ المدينة، وعلى البحر الصافي من غربها. كانت تعشق هذه الثنائيّات – البحر الطبيعيّ والجميل، والمباني القبيحة والعصريّة.

يمينًا عند أوّل مفترق، شمالًا من بعد مقهى "ستاربكس"، ثمّ تسير باستقامة إلى أن تقطع "حيّ الشحّادين"، كما يُسمّونه في المكتب. الشوارع مكتظّة بالمارّة، لكنّها تسير بانحناء، حريصة على إبقاء وجهها في الأرض بعيدًا عن الأفق. هي وحدها، ويهمّها ذاتها فقط.

دخلت باب بيتها بهدوء، كسرت ظلامه بإضاءة خافتة، نظرت حولها نظرة استغراب مستهجنة. قد مرّت عشر سنوات منذ أن اشترت هذه الشقّة، مع ذلك، هي تشعر بالابتعاد كلّ البعد عنها، ولا تهضم فكرة امتلاكها لها. دخلت الصالون، سكبت كأسًا من النبيذ، وأدارت التلفزيون على أوّل قناة صادفتها.

مرّت ساعات منذ أن استرخت على الكنبة، فلولا صوت التلفزيون الّذي تبقيه عاليًا عمدًا، ما استطاعت تحمّل عبء الصمت المخيف. اقتربت من حافّة الطاولة، مُمسكة بكأس النبيذ بيديها الاثنتين. نظرت عميقًا فيه، تتأمّل امتلاءه واكتماله بالنبيذ، "يا ليتني أملأ حياتي مثلما يملأ النبيذ هذا الكأس!"، قالت لنفسها.

مضحك فعلًا، أن تستنبط معنى الحياة من المادّيّات المحيطة بها، لكن أليست حياتنا مبنيّة على هذه المعاني المُسلَّعة؟ فالسعادة أصبحت سلعة، والحزن والجمال أيضًا، حتّى ضميرنا بات يخضع لتحليل التكلفة والفائدة! أُوهمنا بأنّ معنى الحياة كامن في هذه المادّيّات، من دون إعطائنا الفسحة للتساؤل عن وجود أيّ معنًى للحياة أصلًا.

أصبحت الساعة متأخّرة؛ قامت عن الكنبة وتوجّهت إلى غرفة نومها. أهي فعلًا غرفة نومها أم أنّها غرفة نوم مجهولة تنام فيها، صدفةً؟

عليها النوم عاجلًا؛ فالغد يوم مليء بالعمل وبيع العقارات. تقلّبت مطوّلًا في السرير، ساعة، ساعتين، ثلاثًا.

"ما هذا الشعور الّذي يجتاحني، كأنّني فقدت شيئًا ثمينًا داخلي؟ ما هذا الفراغ الّذي يملؤني، كبيتٍ متروك يبحث عن مستثمر؟

انسي هذا كلّه، وفكّري في ذاتك وفي مصلحتك فقط، بعقلانيّة وموضوعيّة تامّة، كما تعلّمنا من كتابات آدم سميث. هذه طبيعتك! أنتِ ناجحة، متعلّمة وثريّة. أليس هذا ما يبحث عنه الإنسان طوال حياته؟".

لم تستطع إخراج هذه الأفكار من رأسها. تناولت هاتفها من الكومودينا الملتصقة بالسرير، قلّبت في صفحات وسائل التواصل الاجتماعيّ، تنظر في صور أصدقاء لم ترهم منذ سنين. أهُم فعلًا أصدقاؤها؟ أم أنّها تتوهّم هذا أيضًا؟ أهذه حياتهم أصلًا؟ أم أنّهم "يُهَنْدِسونَها" وفقًا لتوقّعات المشاهدين لهم، تمامًا مثلما يتصرّف السجين تبعًا لنظرات سجّانه؟ هل هذه الوسائل في حدّ ذاتها تسليع للعلاقات الاجتماعيّة والإنسانيّة الطبيعيّة؟

الساعة الرابعة بعد منتصف الليل، قامت عن السرير ودخلت حمّامها. هل هو حمّامها؟ لا، فهي لا تشعر بملكيّتها له. ما هو إذن؟ اكتفت أن تعرّفه بما هو عليه الآن؛ الحمّام الّذي تكون فيه هي، في هذه اللحظة، في هذا المكان.

نظرت في المرآة. كانت هذه أوّل مرّة ترى انعكاسها اليوم. اسوداد مريب كسا وجهها، لم يكن شاحبًا فقط، بل فاقدًا لأيّ تعبير يُذكر.

بدأ الإحباط يعلو من أنامل رجليها إلى رأسها. اتّكأت قليلًا على رخام مجلى الحمّام، لتسقط دمعة وحيدة على كفّ يدها. ضمّت أصابعها في كفَّي يديها، ورفعت رأسها عاليًا. لا انحناء بعد اليوم. نظرت مجدّدًا في المرآة، مواجهةً لانعكاسها. "ماذا حدث لكِ؟" صاحت في المرآة. "حقّقتِ كلّ أحلام طفولتك، تشبّثتِ بالأمل الّذي وضعته لنفسكِ، حطّمتِ كلّ الحواجز الّتي وقفت أمامك. أهذا ثمن النجاح؟ كره الذات؟".

"أشعر بأنّني عدوّة نفسي، لا أنتمي إلى أيّ شيء، ولا حتّى إلى هذا الجسد. لا محلّ لي في هذه الدنيا".

"لا محلّ لكِ؟ ما هذا الهراء الّذي تتكلّمين به؟ انظري إلى نفسك! أنتِ إحدى أشهر نساء هذه المدينة وأقواهنّ. الكلّ يغار منك، خاصّة النساء في القطاع الخاصّ؛ فأنت أوّل امرأة تحصد هذه الثروة الرهيبة في سنّ صغيرة".

"لا تقولي هذا! حتّى هذه الأقوال سئمتها؛ فمساواتي باتت سلعة أيضًا في أيديكم أيّها اللصوص؟ سرقتم منّي مشاعري وتاجرتم بها. سرقتم خصوصيّتي، وتاجرتم بها، آرائي، أقوالي، وجودي، كلّي! أهذا جمال العولمة والرأسماليّة الّتي تفقهونها وتتكلّمون فيها؟ صنعتم سجناء لأفكاركم، صنعتم إنسانًا جديدًا يخدم رؤيتكم. لم يُخطئ ميشيل فوكو؛ فأنا الإنسان الاقتصاديّ الّذي وُلد من رحم السوق بقوّة اليد الخفيّة، تربّى في مؤسّساتكم ومدارسكم، فأصبح منكم".

"أرجوكِ تروّي؛ فهذه أنجع طريقة لنجاح البشر، وهذه طبيعتهم! في هذه الدنيا، كلّ إنسان يهتمّ لمصلحته فقط، ألم تعلّمك الحياة ذلك؟".

"علّمتني، وهذا كلّ ما علّمتني إيّاه. لا أريد التصرّف بعقلانيّة وموضوعيّة بعد اليوم. ها هي مشاعري تخرج، وتنطلق!".

"كوني مثل سوبرمان نيتشه، إذن، وانطلقي بفنّك وإبداعك".

"لن أقبل أن أخوض الفنّ لتُغرقوه بفتيشيّة سلعكم؛ تبيعونه متى تشاؤون وكيف تشاؤون. لن أعبّر عن نفسي لأنّني إذا عبّرت يصبح تعبيري ملككم. أنا لست لكم، ولكنّني لست لذاتي. كلّ هذه المفاهيم الّتي أملكها عن الحياة لا وجود لها لولا الوجود؛ فقد أصاب سارتر بادّعائه أنّ الوجود سابق للجوهر، لكن ما رأيه لو كان الجوهر منبثقًا حتمًا من الوجود المحسوس؟ أليست المادّيّة الجدليّة منحازة إلى المادّة، كما أنّ النجاح منحاز إليّ لا إلى سكّان ‘حيّ الشحّادين‘؟".

"منحاز إليكِ؟ السوق منحازة إلى النجاحات فقط! فالإمكانيّات متساوية والنتيجة حتميّة. لغة المال هي المفتاح للإنجازات في أيّامنا هذه".

"لا، المال بات الهدف، لا الوسيلة. المال سابق للجوهر، ومنه استنشقتُ أحلامي وأُمنياتي. أنا لم أختر هذه الحياة".

"كيف لا؟ هل أرغمك أحد على أن تنجحي ببيعك للعقارات؟ أتُحمّلين المسؤوليّة لغيرك مع أنّك حرّة طليقة لاختيار ما تشائين؟".

"نعم، أُرغِمت، لكنّي لم أدرِ أنّه إرغام. وُلدت داخله وأنا لا أعلم أنّني داخل شيء معيّن. أنتم أجبرتموني على أن أحيا سجينة مقيّدة بقيود الحرّيّة العصريّة".

" مَنْ هم هؤلاء الّذين تتكلّمين عليهم؟ أأنت تعلمين أنّني أنا أنت ذاتك؟".

"وأنتِ أوّل مَنْ يتصدّركم. تعملين لمصلحتكم يوميًّا. أنا لست أنت. أنا انفصلت عنك".

"ما هذا الجنون الّذي أصابك؟ لا يمكنك فعل ذلك! لا وجود لي من دونك، ولا وجود لك من دوني".

"إذن، فلأختفِ عن الوجود؛ لربّما أريح نفسيّتي!".

تنهّدت قليلًا، وبدأت دموعها تنغمر. علمت جيّدًا ماذا يجب عليها أن تفعل. آن الأوان. تلك الفكرة الّتي لطالما كستها باستهلاكها السطحيّ. هي تعلم منذ زمن طويل أنّها غير سعيدة، لكن اليوم، باتت تعلم. هذه الكآبة عليها أن تنتهي.

غادرت الحمّام مسرعة. مشت ذهابًا وإيابًا بين لوحات الزيت الفرنسيّة المعلّقة على امتداد ممرّ الشقّة. غضب شديد يجتاح أنفاسها. اختارت إحدى اللوحات بعشوائيّة تامّة، ودخلت الحمّام مجدّدًا. اتّخذت موضعًا متينًا، ورمت اللوحة بأقوى ما لديها من قوّة، لتتساقط المرآة كالفسيفساء على الأرض. جسدها تبع المرآة، فسال على الحائط مثل جثّة تمتزج ببركة دمها. أمسكت قطعة حادّة من الزجاج ونظرت إليها طويلًا. يدها ترتعش، تسير ببطء نحو معصمها.

"آن الأوان لأخلع عنّي هذا الجسد، فلا محلّ له في تكويني لذاتي، ولا محلّ لي في هذا الكون. محلّي ليس لي؛ فرغم أنّ كلّ المزايا الّتي أعرفها عنه – رائحة الورد، ملمس التراب، طعم التفاح – لا يمكنني أبدًا أن أعلن: أنا أملك هذا المكان. أنا لا أملكه. هو باقٍ، وأنا أزول".

"أهذا معنى الحياة؟ أنّ لا معنًى لها؟ وماذا عن الحياة الأبديّة؟ قد يكون المعنى الحقيقيّ هناك، ينتظرنا بعد الموت.

لا، أبدًا؛ فتلك أكذوبة تشبّثنا بها نحن البشر لشدّة خوفنا من الموت. مع ذلك، حتميّته حرّكتنا ودبّت الروح فينا. تعلّمنا أن نعمل كلّ ما في وسعنا قبل لحظة الممات، ولضبابيّتها، انهمكنا بالعيش متغاضين عن هلاكنا.

أمّا اليوم، فأنا أُعلن خطّ النهاية. اليوم، أسيطر على حياتي بإنهائي لها. يا ربّاه! ما أجمل هذه القوّة الخارقة! أنا سيّدة نفسي، أتحكّم بوجودي وعدمه.

فعلًا، فكرة الانتحار تريّحني.

هاه، ما أسخفك يا كانط في مثل هذه اللحظات، بظنّك أنّ انتحاري عمل غير أخلاقيّ. يا أيّها الحكيم، هذه هي الأخلاق في حدّ ذاتها، وبقتلي نفسي أُعلن لك ولكلّ العالم تحديدي لمصيري".

بسرعة، بدأت بتقطيع شرايينها وسط لهفة جامحة استولت عليها. الدم يسيل على طول يدها، ينحدر كالسيل عند مفصلها على أرض الحمّام. فجأة، عادت الأفكار تراودها، ووعيها يحاكيها.

"ماذا تفعلين؟ لن تنالي الراحة الذاتيّة الّتي تبحثين عنها بالانتحار! لن تختفي عن الوجود! ألم تلاحظي ذلك قطّ؛ أنّ الّذي يموت تبقى ذكراه طويلًا بعد مماته؟ فهذه من مزايا الإدراك الإنسانيّ، بخلقه عالمًا موازيًا لعالمنا المحسوس. فيه، يبني مفاهيمه الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة تبعًا للتراكميّة الإنسانيّة التاريخيّة؛ فالإنسان ليس فردًا وحيدًا، بل كائن له سلالة وشبكة علاقات عديدة. إن لم يكن أنانيًّا، فهو اجتماعيّ حتمًا".

"لا يعنيني مَنْ سيتذكّرني، ومَنْ سيمرّ بجانب جثماني. لن أكون واعية لأدرك تلك اللحظة".

سحبت قطعة أخرى من الزجاج، لتثبّتها بارتجاف على رقبتها.

"وهل وعيك المستقبليّ بات بوصلة لوعيك الآنيّ؟ أنت توهمين نفسك بالتحرّر من كلّ مآسي وجودك النفسيّ بالتخلّص من جسدك. هو لم يكن المشكلة قطّ، ولن يكون الحلّ. الإدراك الإنسانيّ يحتّم علينا الاستمرار بالوجود، حتّى لو لم نرغب في وجودنا الجسديّ! في عالمنا المعاصر، وجودنا أبديّ، هناك في السجلّات، المواقع، الكتب، الذكريات.

صحيح، لا معنًى لهذا كلّه في هذه اللحظة الحاسمة، لكن هذه العبثيّة المتمثّلة بالانتحار لا تمثّل إلّا حالة الصراع الّتي نعيشها بشرًا؛ فنحن نبحث عن معنى الحياة، ونحن لا نعلم إن كنّا سنفلح بالعثور عليه؛ لأنّه، وبكلّ بساطة، قد يكون غير موجود أبدًا".

"ماذا تريدين منّي، إذن؟ أن أعيش بلا معنًى؟ دعيني أموت وأرتاح من هذه الحياة الوهميّة!".

"لا يمكنك فعل هذا لي، أو لكِ! عليكِ النضال في الحياة والمعاركة فيها على الرغم من كلّ هذه العبثيّة. ثُوري مثل سيزيف عند ألبير كامو، فباكتشافك لعبثيّة حياتك، عليكِ أن تدفعي بالصخرة عاليًا نحو قمّة الجبل مرارًا وتكرارًا، حتّى لو كان هبوطها محبطًا. نتيجة العبثيّة ليست الانتحار، بل الثورة على الحياة. وأنا أقول لك، بوصولك إلى قمّة الجبل؛ أي إدراكك لعبثيّة حياتك، سوف تشرعين في تسلّقك الحقيقيّ".

أبعدت قطعة الزجاج عن رقبتها، ونظرت إلى معصمها وهو ينزف بشدّة.

"كفى مع هذه التشبيهات والتعابير، لست سوبرمان نيتشيه، ولا سيزيف كامو أو حتّى مرداد نعيمة. لقد سئمت هذه الحياة، فأنا أعيش أكذوبة طيلة حياتي!".

"صحيح، لكنّك لن تنهيها الآن. سيتذكّرك العالم ’تاجرةَ العقارات‘ الغنيّة الّتي انتحرت رغم رفاه حياتها. وجودك مستمرّ، شئتِ أم أبيتِ. عليكِ تقبّله، والعمل على تغييره وتحسينه، لا من أجلك فقط، بل من أجل كلّ مَنْ يحيطك".

"ما لي ولمَنْ حولي؟ هل ألقى مردودًا لعطائي لهم؟ أنا لم أختر حياتهم، أو حتّى حياتي".

"لكنّك هنا، الآن، وهذا كلّ ما تعرفينه. صحيح، قد تكون ولادتك صدفة، لكنّها استنزفَتْ صدفتها بعد ولادتكِ مباشرةً. بمساوئه وحسناته، استطاع هذا المكان أن يكوّنك أنتِ. لا يمكنك الانفراد عنه الآن؛ فأنت جزء منه، تمامًا كما هو جزء منكِ.

أمّا أزمتك، فهي نفسيّة؛ نتاج صراعك الوجوديّ الأبديّ. وهل يمكن وسيلة الانتحار المادّيّة أن تبرّر غايتك النفسيّة؟".

"لا أعلم، ربّما. أليس كلّ ما في الوجود مادّيًّا؟".

"لا، فجوهرك نور هذا الوجود، حتّى لو كان الوجود سابقًا لأيّ شيء. أمّا المادّيّات، فهي تزول، وبزوالها يُنتَج الفراغ، وما أعمقه من فراغ لولا عطاؤنا نحن البشر!".

"ماذا عليّ أن أفعل، إذن؟".

"انزلي إلى ’حيّ الشحّادين‘، وابدئي رحلتك نحو قمّة الجبل. هناك، عند ضحيّة أمثالك، سوف تجدين معنى الوجود".

 

* تُنشر هذه المادّة ضمن ملفّ "محلّيّ"، بالتعاون مع حركة شباب حيفا.

 

عدي منصور

 

 

طالب حقوق وعلوم سياسيّة في جامعة "تل أبيب". ناشط في أطر طلّابيّة وسياسيّة، منها "حركة شباب حيفا" و"منتدى طالبات وطلّاب الحقوق العرب".