بين هنا وهناك

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

في صغري، كنت أفرح أثناء يوم استقلالهم. كلمة "استقلالهم" مرّت بالعديد من المراحل حتّى استُبدل بها مصطلح "يوم الاستقلال" البسيط. لم أكن أعرف أنّه ثمّة "نحن" وثمّة "هم"، وأنّ الاستقلال فقط لواحد منّا. لم أكن أفهم معنى استقلالهم الحقيقيّ، على حساب مَن تحقّق، والثمن الّذي كلّف. أأنتمي إلى المجموعتين أم أنا مجبرة على اختيار إحداهما؟ مَنْ "الهُم" ومَنْ "النحْن"؟ أين يقع الحدّ تمامًا؟ لسنوات عديدة من حياتي، "إحنا" و"هُمِّ" كانا شيئًا واحدًا بالنسبة إليّ.

وكيف بإمكانكم أن تلوموني؟ كنت أرى الشوارع مليئة بالشَّبَر، يحمل الزينة البيضاء والزرقاء، وقد كان من المستحيل أن أستغني عن عرض الألعاب الناريّة. ما أجملها كانت تلك النيران، تملأ السماء بألوان رهيبة، ومعها كان الناس جميعًا يغنّون ويرقصون بسعادة، أمّي كانت تحبّها أيضًا. عرض الألعاب الناريّة مجّانيّ، أشعل الفرحة في قلوب الناس، ورفع الابتسامة على الوجوه حولي؛ فلماذا رفض أبي الحضور، بل كان ينزعج ويتألّم من صورة أبناء عائلته يشاهدون تلك الألعاب الناريّة؟ القضيّة كلّها تنتهي بألعاب ناريّة واحتفالات، فلماذا اعترض على سعادتنا؟ ما القصّة؟ كنت أغضب من أبي، لماذا يحبّ تعقيد الأمور والتفكير في تفاصيل الشيء كلّها؟ ما به يبحث عن معنًى مخفيّ في كلّ حدث؟ لماذا لا يمكن أن يكون الأمر مجرّد نيران ملوّنة وسط جوّ جميل؟ رغبت في أن يرى أبي خسارته، ظننت أنّ بإمكانه أيضًا أن يفرح، لم أعرف أنّ ذاك الأمر أكثر من مستحيل.

أبي عربيّ من مدينة أمّ الفحم، أمّي يهوديّة بولنديّة الأصل، لقد سرقت قوّات الاحتلال معظم أراضي عائلته، أمّا عائلتها فقد هربت من بولندا قبل الكارثة اليهوديّة. كيف بإمكان هذين الضدَّين أن يتّفقا؟ والأكثر من ذلك، أن يقعا في الحبّ؟ وأنا؟ دائمًا في الوسط؛ لست هنا ولست هناك.

بعد مرور سنوات عديدة، أعترف أنّني لم أعد أقف في الوسط تمامًا؛ لأنّ في كلّ يوم يعبر، في كلّ قرار أتّخذه، في كلّ مرّة أشعر بأنّي غريبة، في كلّ مظاهرة أشترك فيها، في كلّ مسيرة أسير فيها، وفي كلّ هدف أحارب لأجله، تتّضح حقيقة الوضع، أراها على أصلها، كما هي، من دون كلّ التجميلات والورديّة الّتي شاهدت بها الواقع طوال حياتي، عبر "الأسطورة" الّتي هي عائلتي. الواقع ليس كذلك؛ أميل إلى جهة أكثر من الأخرى. هل حقًّا عائلتي شاذّة؟ لماذا رفع الجميع حواجبهم باستغراب حين سمعوا عن أصلي المختلط؟ لم يكن ثمّة أمر أكثر طبيعيّةً بعينَيّ من وجود عائلتي. صحيح، لديها تعقيداتها ومركّباتها، لكن هذه تكون بالتأكيد في كلّ عائلة، حتّى لو اختلفت بطبعها.

دائمًا بحثت عن محلّي بين الطرفين، لا بدّ من تناقض بين المحلَّين، كلّ واحد من الطرفين يتميّز بجماله وحسناته من جهة، وقباحته ومشاكله من جهة أخرى. هل يُسيئان إلى بعضهما بعضًا؟ هل واحد منهما يتغلّب على محلّي الآخر؟ هل يمكن أن أنمّيهما، والواحد يستفيد ويفرح لنموّ الثاني؟ إذا أُعطي حيّز أكبر لواحد منهما، فماذا يعني ذلك عن كياني بمحلّي الآخر؟ دائمًا بحثت عن العلاقة بين محلّي هنا، ومحلّي هناك. مواقفي وهويّتي ومبادئي وأفكاري، كلّها تبلورت وتكوّنت من كلّ مرّة وقفت أفكّر قبل قرار معيّن، أأنا أتبع أكثر إلى هنا أم إلى هناك؟ باشرت تلك المرحلة، أصبحت مثل أبي؛ اليوم لم أعد أسأل لماذا. الحياة، طبيعتها والواقع الّذي خُلقت إليه، لم تكن واضحةً منذ البداية، كانت مركّبةً، أمور تبدو مفهومة ضمنًا للمشاهدين من الخارج، من الأطراف، أمّا أنا، فقد عبرت طريقًا طويلة، وبذلت جهدًا ووقتًا حتّى أفهمه، أشعر بالراحة معه، وأجد المنطق في الفوضى.

لطفلة صغيرة، الأمور كانت أسهل، كنّا نتّخذ قرارات حسب شعورنا في اللحظة ذاتها. صراع كبير عشت بيني ونفسي، كلّ سنة من جديد، حين كان يُسمع مزمار "יום הזיכרון לחללי מערכות ישראל ולנפגעי פעולות האיבה" (يوم ذكرى شهداء معارك إسرائيل ومصابي الأعمال العدائيّة). المزمار يزمر. يحلّ صمت شامل في الصفّ. أشعر بكلّ النظرات متّجهةً إليّ، منتظرةً وقوفي أو عدم وقوفي. أقف أم لا؟ هذا السؤال كان يتردّد ببالي كلّ مرّة من جديد، تلكما الدقيقتان القصيرتان لم ترحماني، ولا تعطيانني وقتًا كافيًا أو مجالًا للتفكير. لا يهمّ كم أفكّر في تلك المسألة قبل تلك اللحظة، لم يكن قطّ الجواب واضحًا لي في وقت الجدّ. الوقت لا ينتظرني. القرار من الإجباريّ اتّخاذه الآن. كطفلة صغيرة دائمًا اعتدت الوقوف، ولِمَ لا؟ عائلتي اليهوديّة، كأكثر شيء اعتياديّ في العالم خدمت في الجيش، فلَو فقدت أحدًا منها؟ تلك الفكرة ليست خياليّة. مهما حدث فإنّني أبقى من لحمهم ودمهم، كما من لحم عائلتي ودمها الّتي تهجّرت في الـ 48. إضافةً إلى ذلك، فكرة أنّ أهلًا يربّون أطفالهم 18 سنة ثمّ يعودون إليهم بتوابيت، يحاربون حروب غيرهم، دائمًا أثّرت فيّ. التجنيد لم يكن شيئًا أفكّر فيه في طفولتي، هي مرحلة في حياة اليهوديّ العاديّ، تقع بين المدرسة والجامعة، ومَنْ أنا حتّى أشكّ فيها؟ ألست أنا يهوديّة حسب التعريف التقليديّ؟ جدّتي كانت دائمًا تشجّعني على أن أكون "طيّارجيّة" حين أكبر. توقّعَت لي مستقبلًا باهرًا؛ ليس جنديّة اعتياديّة، بل فخر جيش الاحتلال واعتزازه، لكن "طيّارجيّةً" لن أكون.

لكن دقيقة، ما هذا الإرهاب الّذي أقف لذكر ضحاياه؟ أو بالفعل عمَّ يعبّر؟ وعمَّن؟ كلّما كبرت أكثر توضّحت الصورة أكثر فأكثر، ذلك اللون الزهريّ الّذي كان مدهونًا به واقع التعايش، اتّضح قليلًا قليلًا، فغدا كالأحمر، ينزف دماء كلّ الحروب والمعارك، أو بالأحرى "الحرب"، وعلى الرغم من ذلك، فالتعايش ليس من المستحيل؛ فقد ينمو تحت سقف بيتي سنواتٍ عديدة، أنا وإخوتي ثماره. أقف أم لا؟ هل المسألة مصيريّة فعلًا وتستحقّ التحليل والبلبلة الّتي وقعت بها؟ أهرب من القرار وأجاوب نفسي بـ "لا"، إنّه مزمار ليس إلّا. اليوم سأقف من أجل جدّتي اليهوديّة، والمرّة القادمة سأقعد من أجل جدّتي العربيّة. ليت الأمر بسيط على هذا النحو. لا أريد أن أخيّب أمل أحد. متى سأتّخذ القرار ليس من أجل واحدة من جدّتَيّ؟ متى سيأتي اليوم الّذي سأتّخذ فيه القرار باسم أفكاري ومبادئي؟ لِمَ لم تستطع القضيّة أن تنحصر في حبّي إلى الألعاب الناريّة الملوّنة؟ إذا وقفت، فهل أدوس على كلّ شرف ومبدأ فلسطينيّين؟ على افتراض أنّ هؤلاء الجنود ماتوا وحاربوا لقيام دولتهم، على أرضنا، ونشاطهم يُحيي الاحتلال كلّ يوم. إذا قعدت؟ فكيف ستشعر جدّتي اليهوديّة؟ هل هذا يعني أنّي لم أحترم أولئك الّذين ماتوا أطفالًا؟ أليسوا بشرًا يستحقّون العيش؟ لماذا لم يكن ثمّة مزمار للعرب الّذين ماتوا، قُتلوا وهُجّروا في النكبة على يد قوّات الاحتلال لقيام دولتهم؟ عندما كنت أقف في صغري، كنت أشعر بأنّ كلّ العيون العربيّة على جسدي ثنائيّ القوميّة. "لأنّها نصف يهوديّة…" كانوا يتهامسون. اليوم لم أعد أقف؛ محلّي لم يكن منحصرًا فقط بين تلك الصراعات الداخليّة. شعرت بأنّي مختلفة في مدرستي العربيّة. لماذا لم يرسلني والداي إلى مدرسة يهوديّة؟ دائمًا كنت أسأل نفسي. هل كان الأسهل لي أن أجد نفسي هناك؟ أن أنتمي؟ كان كلّ شيء أسهل، أليس كذلك؟ هل ساعتئذٍ كنت سأقف وقت المزمار؟ لو أرسلاني إلى مدرسة يهوديّة! لم تتألّم تلك الطفلة المختلطة وتختبئ في المقعد الخلفيّ من حافلة الرحلة، عندما غنّى طلّاب صفّها وأعزّ أصدقائها "فلسطين بلادنا واليهود كلابنا"؟ لم تشعر تلك الطفلة بالغربة حين سمعت أمّ كلثوم لأوّل مرّة، أو شهدت نقاشًا عن برامج "سبيستون". كانت تسأل: "مَنْ هؤلاء؟"؛ فيبدأ الجميع بالضحك "لأنّها نصف يهوديّة...". لم تكن تشعر بالإحراج عندما كانت جمل غريبة - ترجمتها حرفيًّا من لغة أمّها العبريّة - جزءًا ثابتًا من كلامها، لكن هل كنت سأشعر بالعنصريّة هناك؟ في مدرسة يهوديّة كنت سأشعر بأنّي غريبة أيضًا. لم أشعر قطّ بالحاجة إلى أن أخجل لواحدة منهما: الأنا العربيّة والأنا اليهوديّة؛ إذ في الأصل لم تكن أكبر من مسألة ديانات، مسلمة أو يهوديّة، أليس كذلك؟ عندما كانوا يسألونني: "ماذا تعتبرين نفسك أكثر؟"، وهذا مجرّد واحد من الأسئلة المتكرّرة الّتي تظهر عند انكشاف تركيب عائلتي: أتتكلّم أمّك بالعربيّة؟ هل ستخدمين في الجيش؟ بأيّ لغة تفكّرين؟ هل احتفلتِ بالـ "باتْ مِتْسفا" (בת מצווה: البلوغ دينيًّا)؟ كنت أغضب، وأُجهَد من جديد. مَنْ قرّر أن اختيار أحد الطرفين إلزاميّ؟ شعرت كأنّني أُخيّر بين أمّي وأبي، لم يكن أكثر من ذلك بالنسبة إليّ، ومع مضيّ الوقت، أخذت هذه الأسئلة طابعًا مختلفًا، وتدخّلت عوامل أخرى وأنا أفكّر في الإجابة؛ فأهمّ من إجابة الشخص الّذي أمامي، ماذا أجاوب نفسي؟ مع مرور الوقت، فهمت أنّه لا يهمّ أنّني كنت أمتنع عن القرار وأهرب منه طوال حياتي، خائفة من أثره، لا هروبًا من القرار بيني ونفسي. إلى الأبد سوف أتبع إلى الطرفين، وقراري لا يغيّر تلك الحقيقة.

بيئتي أثّرت في قراري، لا شكّ في هذا. القرار لم يكن قضيّة لحظة، لم أعرف كم من الوقت سيستغرق، كلّ مجرى حياتي مهّد لي لاتّخاذه، ولم تكن مسألة أبيض وأسود، لم تكن قطّ هكذا. حُسِم القرار، اليوم أعرف، لكنْ دائمًا في بكرا!

 

* تُنشر هذه المادّة ضمن ملفّ "محلّيّ"، بالتعاون مع حركة شباب حيفا.