الوقت

خاصّ فُسْحَة - ثقافية فلسطينيّة

كان ذلك في يوم شتاء بارد أواخر تشرين الثاني. كان البرد يجتاح يافا كجيش أجاممنون في حرب طروادة، ذلك البرد الخبيث الذي لا مفرّ منه ولا هروب، حتّى لو لبست خمس طبقات وجلست قبالة المدفأة. عُدت بعد أكثر من عشر سنوات إلى شقّتي القديمة في يافا، حيث قطنت فيها أربع سنوات تعليمي الجامعيّ. وقفت بالباب البنّيّ الثقيل الذي أكله الغبار وملصقات عمّال النجارة والسبّاكين، وانتظرتُ أن يُفتح باب بنّيّ ثقيل في العالم الموازي لتنهال في ذهني ذكريات وتفاصيل حياة عشتها بين هذه الحيطان الصفراء العالية، وتحت السقف المفتّت. وقفت وانتظرت في فضاء الشقّة الواسع وشعرت بأنّ كلّ شيء جديد وغير مألوف. كنت متأكّدة من أنّ بركة الضوء التي كانت ملقاة على بلاط المطبخ قد رأيتها في الماضي، حين كنت أجلس وأراقب كيف تسقط أشعّة الشمس على الأرض وتنبسط كبساط علاء الدين السحريّ. كانت الأشعة تتماوج مع الريح الخفيفة الآتية عبر الشرفة؛ فترتفع بشكل تدريجيّ لأصعد عليها وتأخذني بعيدًا. وجدت نفسي حينذاك على بساط الشمس، أبتعد عن الشقّة وعن غرفتي، أبتعد وأنا جالسة في المطبخ، المألوف وغير المألوف، في فضاء ربّما عشت فيه أصعب سنوات حياتي ولا أستطيع الآن أن أسترجع أيًّا منها. بدأت ألمس الحيطان والشبابيك والأبواب وأتحسّسها، لعلّني أنجح عبر جسدي في الرجوع إلى نفسي في هذا المكان، لكنّي لم أشعر يومًا بالانتماء إلى المكان، ولا بالحنين إلى مساحة بعيدة.

خرجتُ من الشقّة مهزومة ومقهورة لعدم قدرتي على استرجاع الماضي عن طريق صورة الغرفة، وعلوّ السقف والحيطان. لم أستطع أن أسترجع شيئًا في الـ 60 مترًا مربّعًا التي عشت فيها أربع سنوات. خرجت إلى "شارع بوشكين" واتّجهت نحو البحر، مشيت في الأزقّة الضيّقة الملتوية، أشمّ رائحة حياة الناس وأنبغت كلّ مرّة يخرج عبر الزقاق طفل صغير مسرعًا على درّاجته الهوائيّة. كانت يافا مدينة حزينة، معلّقة على درّاجات هوائيّة لأطفال تركوا مرحلة الطفولة منذ زمن بعيد، وعبر الروائح وبين البنايات الضيّقة المظلمة، راحت السماء تتّسع فجأة؛ فإذا بها تفتح وتعلو كشاشة تلفاز عملاقة تجذبني إليها كمغنطيس كبير يشبه الكينچ كونچ. شعرت في هذه اللحظة في غمرة الوحدة التي بدأت تنفتح في قلبي كشعلة من النار، ملأتني وسط كلّ هذا البرد بحرقة لعينة، وشعرت بعنقي يرتجف ويتصبّب عرقًا. جلست بضع لحظات على مقعد خشبيّ طويل لألتقط فيه أنفاسي، وبين العرق والعتمة والسماء العالية سمعت الكلمات تزحف إلى أذني كالأفعى التي تتحضّر للقبض على فأر صغير…

بعدها الأزهار تهمس للندى وللطيب يا طول غيبات الحبيب.

قذفتني الموسيقى إلى الماضي البعيد وعُدت لأعيش مرّة أخرى شهرًا كاملًا من حياتي. قذفتني إلى ليالي البرد القارص في حيفا، حين كنّا نتجوّل في شوارع المدينة، ندخل المطاعم، والبارات، والمقاهي، في محاولة لنجد مكاننا و"محلّنا" في هذه المدينة الضيّقة، لكن سرعان ما اكتشفنا أنّنا كنّا، ولمدّة شهر كامل، نمشي ونأكل ونضحك ونركض في مدينة نائمة، تعطلّت في الزمن وخدعتنا أصعب الخدع الوديعة. رأيت حيفا في هذه اللحظة، ورأيت أشجار الكرمل من شرفتي الصغيرة تتمايل على منحدر الجبل، أوراقها ترتعش في مهبّ الريح الناعمة. شعرت في هذه اللحظة بذلك الشعور الغريب والحزين الذي كنت قد شعرته يوم سماعي لهذه الأغنية. لم أفهم حينها السبب وراء هذا الشعور، لم أكن أعرف عن وجود هذه الأغنية من قبل؛ فلم تضئ بالتالي مساحة عتمة في ذاكرتي. ربّما فهمت شيئًا في تلك اللحظة؟

وصلت البحر والشاطئ الضيّق، هبطت على الرمل الناعم الرطب، أطرافي ثقيلة ومرهقة. كانت الأمواج الصغيرة ترتمي أمامي في اتّزان وهدوء، ركّزت عليها فترة طويلة حتّى خفت صوت المدينة والعالم من ورائي. كان المستقبل يخترق الحاضر، والماضي الحاضر، والحاضر المستقبل، وأنا، أنا كنت أميل على بحر الزمن كقوارب الصيّادين الصغيرة، ملقاة على وجه البحر، تمتدّ عليها شباك الذكريات. أميل بين مياه الوقت والزمن، بين هذا الشيء الذي يُدعى الزمن ولا أحد يعرف ما هو في الأصل.

 

* تُنشر هذه المادّة ضمن ملفّ "محلّيّ"، بالتعاون مع حركة شباب حيفا.

 

شادن هيب

 

 

من مواليد الناصرة عام 1993. حاصلة على البكالوريوس في الأدب الإنچليزيّ وتاريخ الفنّ والسينما من "جامعة تل - أبيب"، تدرس الماجستير في الأدب الإنچليزيّ في الجامعة نفسها.