شيخة حليوى: لا خبز للقارئ الخائف في قصص كاتبةٍ معاقة الهويّات

الكاتبة شيخة حليوى

خاص فُسْحة - ثقافية فلسطينية

* أنا خليط من هويّات مُعاقة؛ فكلّ هويّة تعرّفني أعيش إعاقتها أكثر من عافيتها، منها العرجاء والصمّاء والعوراء والمُصابة بالشلل، أو تلك الّتي توقّف نموّها عند مرحلة ما.

* العوالم الّتي أكتب عنها ومنها ليست عوالم خاصّة بالمرأة فقط، إنّها عوالم الإنسان في كلّ مكان. مَن يضع المرأة في خانة الكتابة عن المرأة فقط، يقصد أوّلًا أن يُغْلِق عليها باب البيت بالمفتاح.

* وجود اسمي في القائمة القصيرة (لجائزة الملتقى للقصّة القصيرة العربيّة)، إلى جانب كتّاب وكاتبات ذوي باع طويل في الكتابة والنشر، فخر لي... أن أمثّل فلسطين في القائمة دليل على أنّ الكتابة الإنسانيّة كتابة عن فلسطين أيضًا.

* ولماذا الرواية؟ هي امتحان وتحدّ لقدرتي على الخروج من عباءة القصّة، والعودة إليها دائمًا، إنه تحدّ له علاقة مباشرة بطبيعتي المحاربة الّتي ورثتها عن جدّاتي اللّواتي كنّ يصنعن "للنملة لباسًا".

* معظم ما كتبته من قصص ونصوص كانت خلال السياقة، بحكم عملي في القدس؛ فأنا أعلّق في أزمات الصباح والمساء، وأحرص على قلم ودفتر صغير على المقعد المُجاور لمقعدي، فتصير أزمات السير فرصة لخطّ بعض الأفكار.

حاورتها ريم غنايم.

 

تمهيد

تُعَدّ شيخة حليوى واحدة من أهمّ القاصّات الفلسطينيّات في المشهد الأدبيّ المحلّيّ والعربيّ، تحديدًا في السنوات الخمس الماضية، وقد تركت للقرّاء فُسْحَة تأمّل واسعة، قدّمتها في أربع مجموعات قصصيّة، تراكم من خلالها تجربة الجرأة والكافكاويّة والبداوة، وتتناول فينومينولوجيا المكان والروح والأجساد والأشياء، منذ عام 2014 إلى اليوم "سيّدات العتمة"، و"خارج الفصول تعلّمت الطيران"، و"النوافذ كُتب رديئة"، و"الطلبيّة C345".

تمكّنت حليوى في هذه السنوات القليلة من التأسيس لصوت متميّز وحسّاس، يؤرّخ للمكان الراسخ في الذاكرة ثمّ يتجاوزه إلى اللامكان، الّذي يصبح حالة تعبير عن تحرّر الصوت من سجونه المتعدّدة. من الذاتيّة إلى المحلّيّة، وربّما إلى طريقها لهويّة فلسطينيّة عالميّة، تنتزع شيخة حصّتها في شكل التعبير، وفي شكل تمثيلها لنفسها ولهويّاتها. أخيرًا، رُشِّحت مجموعتها القصصيّة "الطلبيّة C345"، الصادرة عن "منشورات المتوسّط"، لجائزة "الملتقى للقصّة القصيرة العربيّة"، الّتي بلغت قائمتها القصيرة لعام 2019، ومعها كان هذا الحوار المفتوح الخاصّ بفُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة.

 

 

الهويّة المُتململة

فُسْحَة: ثمّة أدباء في العالَم بدؤوا النشر بعد سنّ الأربعين، ونالوا شهرة واسعة: هنري ميلر، وشيروود أندرسون، وريموند تشاندلر، وصاحبة نوبل توني موريسون. وأنت: ما الّذي رمى بك إلى عالَم الكتابة أوّلًا؟ ولماذا اخترت النشر في سنّ النضج؟

شيخة: لم أكتب إلّا نكاية بالنضج وتحايلًا عليه، تشبّثًا بالطفولة وجنونها وسكّين العمر مسلّط على شرياني. النضج في قاموسي البيئيّ يعني للمرأة تحديدًا المهادنة وتهدئة وتيرة الحياة، وهذه أمور ترعبني حدّ الموت؛ المهادنة والحياة البطيئة المستقرّة. بدأت أكتب بلا توقّف وبوتيرة سريعة، تحديدًا عام 2014، تنهمر النصوص من ذاكرتي، وألاحقها كمن يُلاحق القطار من محطّة إلى أخرى حتّى انقطاع النفس. خلال عام تراكمت لديّ القصص والنصوص الشعريّة، وقبلها بعام كنت قد تعرّفت الفيسبوك ورحت أنشر فيه، لقيت فيه كثيرًا من التشجيع، واستهوتني فكرة النشر. كنت تمامًا كطفلة اكتشفت فجأة متعة لعبة جديدة. عام 2015 نشرت كتابين بفارق شهر أو أكثر: "سيّدات العتمة"، مجموعة قصصيّة، و"خارج الفصول تعلّمت الطيران"، مجموعة شعريّة. حين نصحني البعض بالتأنّي وانتظار عام على الأقلّ بين الإصدارين، ضحكت وقلت: لا وقت لديّ.

أحاول أن أجد تفسيرًا للكتابة المتأخّرة الكثيرة المُلحّة، ولم أكن يومًا قد خطّطت أن أكتب أو أنشر. كلّ أحلامي ومشاريعي تمحورت حول الدراسة الأكاديميّة، لم أر نفسي كاتبة يومًا ما، غير أنّ أحداثًا أسريّة صعبة وصاخبة أوقفت مشاريعي كلّها، ولأوّل مرّة في حياتي أجدني أستسلم لحالة من الكآبة؛ تركت بعدها عملي في التدريس، وانقطعت عن كثير من الناس ثمّ بدأت أكتب. ودون وعي منّي أيضًا رحت إلى الماضي، أصفّي حساباتي معه، عدت إلى أبعد ذاكرة استطعت أن أظفر بها، لوهلة فهمت أنّني كنت أستجير بالرمضاء من الهجير، وأنّ كلّ خيار استنجدت به نقلني من حفرة إلى منحدر، غير أنّ طبيعتي المحاربة وعنادي البدويّ لم يعترفا بهزيمة الخيارات؛ فتحوّل الألم إلى رسالة! أقنعت نفسي بأنّني في تضحياتي كلّها أنا صاحبة رسالة، وشتّان بين مَنْ يعيش حاملًا رسالة وآخر يعيش محمولًا على الدنيا.

الكتابة - في اعتراف متأخّر - هي العودة إلى قرية "ذيل العرج"، ومحاولة قلب خيارات شيخة ولو على ورق أو من وهْم، وحين يتعسّر ذلك أعطيها صوتًا تصرخ به وتشتم العالم وأعود، ما زلت أعطيها خيارات وأصواتًا على ورق.

 

فُسْحَة: تقودني هذه الإجابة إلى سؤال الهويّات المتعدّدة الّتي تستوطنك: فأنت بدويّة الأصول، ولجْتِ عالَم المدينة، وهاربة من أقدار كان من الممكن أن تودي بك إلى عالَم آخر بعيد عن الكتابة، وأنت فلسطينيّة في دولة احتلال، وامرأة عاملة، وزوجة وأمّ وجدّة، وفيك رجولة نافذة تختفي بين طيّات الأنوثة. وفوق هذا كلّه تكتبين الشعر والقصّة وفي الطريق إلى الرواية، ولا تتوقّفين. هذه الوفرة للهويّات، ماذا تُضيف إليكِ؟ وماذا تسرق منك وأنت تكتبين؟

شيخة: أنا خليط من هويّات مُعاقة؛ فكلّ هويّة تعرّفني أعيش إعاقتها أكثر من عافيتها، منها العرجاء والصمّاء والعوراء والمُصابة بالشلل، أو تلك الّتي توقّف نموّها عند مرحلة ما. بدويّة مبتورة الجديلة أبحث عنها كقطّ يدور وراء ذيله، مدنيّة عرجاء أمشي كالغراب الّذي راح يقلّد غيره فنسي مشيته، فلسطينيّة غاضبة بيدين قصيرتين ولسان مشقوق، أمٌّ على الحافّة دائمًا.

كتبتُ مرّة:

كنتُ طفلة بساقين ماردتين

أمّي من مطبخ كوخنا "تطوّلي"

تربط قدمي اليسرى بشالها إلى قدم الخزانة الخشبيّة

تترك لي مساحة أحبو فيها

أحبو
أزحفُ
لم أصل مرّةً

لا أطال سوى طرف قيدي وقدم ثقيلة من خشب.

أمّي البدويّة الّتي تتملّص يدها كلّما حميتها من شارعٍ مجنون

تقول عيناها من المطبخ البعيد

كوني ظهرك ويدك والأرض أيضًا

يوم كسرتُ زجاج الشبّاك

قصّرَتْ شالها ورحلتي.

من مطبخ خوفها رسمت مسافاتي كلّها

ما زالت خزانة عملاقة تتوعّدني

كلّما احتلتُ على شالها

وهذه هي لعبة الهويّات الّتي ألعبها منذ كنت طفلة. أنا لا أترك الخزانة العملاقة، أنا أحتال عليها فقط فأقصّر المسافة حينًا وأحيانًا أطيلها، الأمر كلّه يتعلّق بشال أمّي. في الكتابة أيضًا أحتال على الهويّات جميعها، وأشعر بأنّي ممتنّة لها أيضًا، أخرج منها جميعًا، أتعرّى إلّا من إنسانيّتي، وهذه أحيانًا أعلّقها على مشجب، ريثما أفهم كيف يفكّر كلب جريح وقطّة تائهة وخزانة خشب عملاقة، ثمّ أعود إليها مجتمعة أو منفصلة، الأمر كلّه يتعلّق بالفكرة والهويّة "المُتململة"، وأسمّيها كذلك لأنّ قلقها مَنْ يحفّزني على الكتابة عنها ومنها. الكتابة في شرعي سيرورة لا تنتهي من إعادة تأهيل لكلّ تلك الهويّات.

 

الأدب الناعم والكتابة الندّيّة

فُسْحَة: أشعر بأنّك تُجيبين بلُغة ومن قلب عالم شديد الحساسيّة، وهذا ينقلني إلى تأمّل آخر؛ ثمّة لغة تكتبها المرأة الكاتبة، فيها حساسيّة وخصوصيّة زجاجيّة هشّة، تنقلب على المرأة وتتكسّر في وجهها، وتُمَوْضِعُها في خانة "الضعيف" أدبيًّا. والحكم هنا لا يبدو جائرًا؛ فالعوالم الّتي تكتب عنها المرأة، لا تزال تقبع تحت سطوة العوالم الاستهلاكيّة والمعلّبة لخطاب الجسد والقمع والضحيّة، ويجرّ معها بطبيعة الحال الأسلوب إلى فخاخه. كيف نجوتِ من رداءة الأسلوب ومن رُعب التعليب؟

شيخة: هو خيار أوّلًا وسيرورة طبيعيّة لما أنا عليه. لم أقبل الوصايات، وكان عليّ أن أحارب بأسناني وأظافري كلّ فكرة نمطيّة عن المرأة حتّى أنجو من التأطير وما يتبع ذلك من تهميش وسلب لأبسط الحقوق. أظنّ أنّني لكثرة ما حاربت أنوثتي، أو ما يُمليه المجتمع على الأنثى من ضعف وميوعة، صرت في النقيض تمامًا! من حظّي، وأقول من حظّي، أنّني نشأت وفكرة أنّني بعيدة كثيرًا عن معايير الجمال المُتعارف عليها في بيئتي البدويّة، وأنّني لست عروسًا/ طفلة "ماشي سوقها"، حسمت كثيرًا من الطرق الّتي سأسلكها في ما بعد. هجرت الأسواق كلّها، وأوّلها "سوق الحريم".

ثمّ إنّي قارئةً قبل أن أكون كاتبة، لم أستسغ يومًا "الأدب الناعم" أو "المُستجدي"، "الأدب الهشّ"، كتبه رجل أو امرأة. لا أهضم النصّ إلّا إذا كان قويًّا، صادقًا، مُتعاليًا، ليس بمفهوم التكبّر بل بمفهوم الندّيّة، على النصّ أن يكون ندًّا للحياة، ندًّا لقهرها وظلمها وخوفها.

يؤسفني أن يرضخ كثير من الكاتبات للهشاشة والضعف منبعًا للكتابة، أشعر بالغضب وأنا أقرأ ضعفًا يتناول الضعف، خوفًا يتناول الخوف، تهميشًا يتناول التهميش.

أثق بأنّ الحديد بالحديد يُفلح.

الأمر لا يتعلّق بالكتابة أوّلًا بل بالندّيّة والدونيّة. عندما تتجاوز المرأة إحساس الدونيّة، وهو عمل داخليّ لا شأن له بمعتقدات المجتمع، ستكون في موقع الندّيّة في كلّ شيء، في الكتابة أيضًا.

لقد قيل لي مرّة إنّ لغتي ذكوريّة، وهنا يتجلّى وجه بشع آخر للتعالي الذكوريّ في مجتمعنا يطال حتّى اللغة، ثمّ إنّني بحكم عشقي للّغات، وخاصّة تلك الّتي أُتقنها، لم أقبل أن تكون اللغة القويّة المتينة حكرًا على فئة دون غيرها، والعوالم الّتي أكتب عنها ومنها ليست عوالم خاصّة بالمرأة فقط، إنّها عوالم الإنسان في كلّ مكان. مَن يضع المرأة في خانة الكتابة عن المرأة فقط، يقصد أوّلًا أن يُغْلِق عليها باب البيت بالمفتاح، ويترك لها أن تتسلّى بمرآة الصالون. بحكمة كبيرة عليها أن تقفز من النافذة، ولو كسرت قدمها، الطرق ستأخذها إلى العالم الكبير.

 

أنا الكاتبة والقارئة... أنا الصوت والظلّ

فُسْحَة: "سيّدات العتمة"، و"خارج الفصول تعلّمت الطيران"، و"النوافذ كتب رديئة"، و"الطلبيّة C345 "، هي فيض من النصوص القصصيّة. حدّثيني عن نصوصك؛ من أين تأتين بها؟ وكيف تصلين إلى النهايات المحبوكة؟ وهل تحتاجين إلى طقوس خاصّة للكتابة؟

شيخة: اختلفت العوالم الّتي أكتب منها باختلاف المرحلة. حين بدأت الكتابة قبل خمس سنوات، كنت أعود إلى طفولتي في قريتي البدويّة، كان لديّ هاجس مُلحّ في أن أكتب قبل أن أنسى، تفاصيل بعضها كان حقيقيًّا وبعضها لم أجزم حتّى اليوم إذا كان خاطرًا أو خيالًا رافق طفولتي أو مراهقتي. صرت أنبش في الماضي، وبلا قصد أتوقّف عند أحداث معيّنة، لأكتشف لاحقًا أنّها كانت مصيريّة، وتركت أثرًا في حياتي، واختبأت بخبث طفوليّ في مكان ما من الذاكرة. أوّل قصّة كتبتها كانت "حيفا اغتالت جديلتي"، هذا العنوان المباشر يُحيل إلى حدث لم أعِ أثره وندبته على روحي، إلّا وأنا أقرؤها لأوّل مرّة بعد أن أنهيتها، ولاحقًا عشرات المرّات في أمسيات أدبيّة، أصل إلى الجملة الأخيرة فيها "صرت مثل بنات حيفا أو كدت أصير، صدّقت ذلك أو كدت أصدّقه، إلّا يدي ما زالت تبحث عن جديلتي، وترتدّ كالملسوعة"، فأختنق بدموعي ويغيب صوتي. عشرات المرّات، وفي كلّ مرّة أعوّل على صلابتي وتخذلني؛ فأهرب من عيون السامعين. إنّها الجديلة الّتي جعلتها ثمنًا لدخول "نادي المدن الكبرى"، المدن القاسية، المدن الّتي لفظتني وأنا أتوسّل اعترافًا منها، بل هو ثمن أكبر من جديلة بدويّة جعداء تصل أسفل ظهري، إنّه عضو تبرّعت به، لكنّه مات في جسد المريض، أورثني حسرة وعرجًا في هويّتي البدويّة.

حينما أغلقت دائرة محاسبة الماضي، أو بتعبير أدقّ "سددت دَيني أو بعضه، للطفلة الغاضبة المشاكسة الّتي خرجت منها وتركتها تحت شجرة البلّوط، قبل أعوام بعيدة"، انتقلت بعد ذلك إلى عوالم أخرى ودوائر أبعد، أبعد من شجرة البلّوط تلك. لا أعرف تمامًا كيف تأتيني فكرة القصص عمومًا، لكنّي أصغي إلى الأشياء والناس، ألتقط كلّ شيء حولي، وهو ما سبّب لي تشتّت انتباه مُزمنًا، أتأمّل كلّ شيء، ثمّ أعطيه قصّة، أحيك له قصّة. معظم ما كتبته من قصص ونصوص كانت خلال السياقة، بحكم عملي في القدس؛ فأنا أعلّق في أزمات الصباح والمساء، وأحرص على قلم ودفتر صغير على المقعد المُجاور لمقعدي، فتصير أزمات السير فرصة لخطّ بعض الأفكار، وأحيانًا يكتمل إطار القصّة في "مشوار" واحد. في نهايات الأسبوع، وأحيانًا في ساعات المساء، أجلس لأكتبها على حاسوبي.

من عادتي أيضًا أن أعمل على غير قصّة واحدة، وطبعًا أكتب بينها نصًّا شعريًّا أو نصوصًا عدّة؛ أفتح ملفّين على شاشة الكمبيوتر، وأعمل على قصّتين معًا. هي تقنيّة أو ربّما أسلوب يكفيني شرّ الشعور بالملل، وأُتقن أيضًا الانتقال بين عالمين وثلاثة وأنا أعمل على القصص. هكذا أعمل أيضًا على مهامّ تخصّ عملي غير الكتابيّ.

قد يكون غريبًا أيضًا أنّني أكتب الجمل الأولى، ثمّ أقفز عنها إلى آخر القصّة، إذا اكتملت نهايتها وكتبتها عدت أُكمل بقيّة الأحداث. وأنا أضع الخاتمة أو النهاية يجب أن تفاجئني، يجب أن تصفعني وتدهشني؛ آنذاك لا أكون أنا مَنْ يكتب، أكون قارئة لِما كتبته، أهزّ رأسي بِرضًا ثمّ أعود لدوري كاتبة. كلّ النهايات تأتي بلا تخطيط منّي، تتشكّل في رأسي وتخرج لأتعرّفها قارئةً لا كاتبة. لقد أصبحت نهايات القصص لعبتي المُسلّية، في حياتي الواقعيّة تُغريني البدايات، في قصصي تُغريني النهايات، ربّما هو توازنٌ ما، يخلقه اللاوعي عندي حتّى لا ينقطع نفسي في القفز بين قمّتين.

 

فُسْحة: لا كتابة بلا خيال. خيالك سورياليّ يذوب سريعًا في تفاصيل الواقعيّ، وواقعيّ يذوب سريعًا في وعاء السورياليّ؛ هل السورياليّ شقيق الواقع في فلسطين؟

شيخة: إنّه شقيق الواقع الإنسانيّ عمومًا. منذ بدء الخليقة، يتوسّل الإنسان الخيال، كي يفسّر كلّ شيء حوله، أو يضفي عليه هالة من الغموض.

كنت طفلة حينما كان فارس من فرسان العصور الوسطى، يقف كلّ ليلة عند نافذة الكوخ بكامل زيّه، أوقظ أمّي من نومها وأنا أرتعد خوفًا، توبّخني وتقول: "ستجنّنك الكتب".

في خيالي أيضًا، قرأت في مكتبة متنقّلة، وعبّدت طرق القرية، وحوّلت الأكواخ إلى قصور فخمة، ثمّ رافقت الراحلين من أسرتي وهم ينزلون من الجبل، ويجلسون عند أبواب الأكواخ.

السورياليّة زاد المقهورين في الأرض، تنقلب ضدّهم إذا أفلتوا الخيط الرفيع الّذي يشدّهم إلى الواقع، وأنا أمسك به بحذر شديد.

 

فُسْحَة: تتوارين بين النصوص، وتتركين الباب مواربًا لتأويلات يتقاطع فيها الذاتيّ مع الموضوعيّ. ظِلّك في الكتابة يظهر ويختفي، إلى درجة أجزم معها أنّ ظلّك في النصوص أهمّ من صوتك؛ أهي غواية الكتابة بالظلّ؟

شيخة: أثق بأنّ الظلّ يشي أكثر من الصوت، والفَطِن مَنْ يتتبّع الظلّ خيطًا يصل به إلى الصوت أو إلى صداه.

 

فُسْحَة: تعالَي نتحدّث عن عالمك السرديّ؛ فهو خليط من رجال ونساء وأطفال، وماضٍ وحاضر وأغراض، وأشياء غير عاقلة كثيرة تعجّ بها القصص، تُشيرين إليها بتفصيليّة حذرة ودقيقة، أغراض تصبح أبطالًا وبطلات: العصا، والخزانة، والقطّة، والدمى، وأشياء أخرى كثيرة.

شيخة: لأنّنا لسنا أسياد هذا الكون، كلّ ما يحيط بنا له نصيب من قصّة هذا الكون، لكنّنا نتجاهله بأنانيّة. قد يكون أهمّ ما حملت من بيئتي البدويّة الأولى تأمّل الأشياء، كلّ الأشياء، وتمييز أصواتها وظلالها: القطط، والكلاب، والخنازير البرّيّة، والماعز الشانية، والوحل، والوادي، والشجر المسكون بأرواح تائهة، والحجارة الّتي تحمي العقارب الشقراء... أنانيّة الإنسان في احتكار الحياة له وحده لا أحبّها، احتكار المشاعر والأحاسيس قمع لكلّ ما تحاول الأشياء قوله. وقد أكون محظوظة إذا استطعت أن أكون صوتًا أو ظلًّا لهذه الأشياء.

 

أنا بين استنزافَين

فُسْحة: أعرّج هنا على سؤال آخر لا بدّ منه؛ تمارسين الشعر والنثر، تكتبين القصيدة، والنصّ القصصيّ القصير، وتشتغلين الآن في باب الرواية... من أين يأتي هذا الانسجام بين عالَمين متنافرين، كلّ منهما له فضاء: واحد يستنزف الروح، والآخر يعصر لحم الجسد والعقل؟

شيخة: بل أُعوّل على اللاانسجام.

الانسجام في رأيي مقتلة الكاتب. المُراوحة بين استنزافَين تحفظ توازني وتنقذني من مصيبة الملل، أو الخواء! أنا أتحدّث عن نفسي وما أعرفه عنها، حتّى في العمل لا يمكن أن أمارس عملًا واحدًا في مجال واحد، بل أدمج عملَين وثلاثة، وأحيانًا أهجر عملًا مضمونًا في أوج نجاحي فيه. كلّ شيء - الكتابة أيضًا - يُطوى كخيمة جدّي، ويُحمل إلى أراضي الماء والكلأ.

 

فُسْحَة: في نصوصك جُمل سرديّة رشيقة ذات مبنًى دقيق، تحافظين فيها على قدسيّة لغة عصيّة على الانتهاك وعلى قصر جُمل زخمة؛ ألا تخافين أحيانًا من ترهيب القارئ وإبعاده؟

شيخة: لا هوادة مع القارئ؛ القارئ الخائف الكسلان "لا خبز" له في قصصي. أتعامل مع الكتابة كما أتعامل مع القراءة، ما أعنيه أنّني قارئة شديدة وصارمة لقصصي. لا أحتمل اللغة الركيكة في القراءة ولا الكتابة. الحشو الزائد والإطالة يشعرانني بالملل. أنا أحترم القارئ وأجلّه، ولا يمكن أن أقدّم عملًا قصصيًّا يهدر وقته أو يهين ذوقه القرائيّ. اللغة أهمّ أدواتي الّتي أعتزّ بها، ولها قدرة عجيبة على إيصال المعنى بأقلّ الكلام، وهنا تكمن عبقريّتها. "البلاغة الإيجاز" قيلت قديمًا؛ الحشو في رأيي محاولة لتشتيت القارئ، تُداري ضعف فكرة النصّ أو مقولته.

 

فُسْحَة: نصوصك منذ بداياتها حادّة؛ لها مخيال فظّ، أو هادرة وغاضبة وعاصفة. أحيانًا تتدخّل الذاكرة، وأحيانًا ترشقين مقاطع من سيرة ذاتيّة، وسيرة غيريّة، يتوازن الهيجان مع الفقدان، نقصان وامتلاء في الذاكرة، وتصفية حسابات قديمة، ثمّ تجاوُز إلى العامّ والإنسانيّ. أنت في هذه اللحظة من عمر الكتابة، في الطريق إلى الآخرين لا إلى الذات... 

شيخة: بل إلى ذاتي الّتي أودعتها حياة الآخرين في رحلات هروب لا تنتهي، أو الآخرين الّذين أسرق حيواتهم وأنا أطوّع الخيال.

ونعم، نصوصي تشبهني، تشبه خيالي الفظّ الغاضب العاصف، تشبه روحي القلقة الّتي لم تجد يومًا سكينة ولا طمأنينة، تحاكي العالم الّذي أعيشه في الخارج والداخل؛ كيف لا أكون كذلك؟ كيف كان من الممكن أن أسلك الطريق، من حيفا المُدلّلة إلى قريتي المُعتمة المنقطعة عن الحياة - هكذا كنت أراها - ولا أطوّع الخيال سيفًا وخنجرًا يحميني من الموت قهرًا، يحميني من الاستسلام لمصير الفتيات في محيطي؟ أو لمصير أقلّ ضررًا.

رغم ذلك، دفعت أثمانًا باهظة من حياتي وروحي، تركتها تنكسر مرّات ومرّات لأنجو ببقيّة روح، قايضت الحياة مرّات ومرّات، وما زلت أتحايل عليها؛ توجعني حتّى العظم، آخذ نفسًا عميقًا وأمشي.

لقد عشت حيوات لا تنتهي، كنت مَنْ أشاء من النساء والرجال، وكنت ذاكرتهم وذاكرتي، وما زلت.

 

فُسْحَة: "الطلبيّة" مجموعة من النصوص القصصيّة أَشبه بموادّ محلّلة داخل مختبرك السرديّ. لا مكان للسذاجَة، كلّهم في غرفة تعذيب واحدة، نساءً ورجالًا... الناس وحيواتهم العاديّة، إلى درجة نغرق معها في بؤس الحياة، وتخنقنا مناخاتهم؛ لِمَ لا تكسرين هذا الاختناق بجرعة أكسجين كبيرة من اللعب والدعابة والضحك؟ ألا يجعلنا هذا نضحك ونشارك أيضًا بصفتنا قرّاء؟

فُسْحَة: هذه المجموعة تحديدًا لا تحتمل الدعابة بشكلها البسيط العاديّ. ربّما كلّفتني خسارة شريحة معيّنة من القرّاء قد تكون كبيرة، أولئك الّذين قالوا لي إنّي استعلائيّة، وقصصي غير مفهومة، وأنّ فيها كمًّا من الغرابة والوجع لا يطيقونه بعد أن قرؤوا "الطلبيّة"، أولئك أغامر بهم صدقًا. نحن كلّنا في غرفة تعذيب كبيرة، الفَطِن مَنْ يعي كيف ينظر إلى هذا العذاب في عينه مباشرة، ثمّ يبصق عليه. قصص هذه المجموعة ليس فيها بؤس، فيها كلّهم محاربون، كلٌّ وأسلوبه في غرفة التعذيب الكبيرة. أحدهم يهرب إلى ثقب أبيض، آخر يسرق يومًا من أيّام الله، ثالث يلتصق بالشارع...

أليس من السذاجة ألّا نرى ذلك كلّه؟ أن نبحث عن جرعة أكسجين في الخارج لا في الداخل؟

 

فُسْحة: حسنًا، هذه أيضًا وجهة نظر لا أتّفق معها تمامًا، نحن بحاجة إلى جرعة كبيرة من الفكاهة ونحن نقرأ ونعيش السواد، نحتاج إليها لكي نتوازن. وماذا عن باب الرواية؟ تُخطّطين لكتابة رواية، هذا مشروعك القادم؛ لماذا الرواية؟ هل تخشَين الإقامة الجبريّة في الشعر والقصّة؟ وماذا يمكن أن تُضيف الرواية إلى عوالم شيخة حليوى؟

شيخة: من خلال تجربتي القصيرة مع الكتابة، صرت أعي جيّدًا أنّ القصّة القصيرة مشروعي الأهمّ، وهي الّتي أطمح إلى تطوير أدواتي فيها وخوض التجريب، هي القادرة على احتضان عوالمي الخفيّة ونفَسي القصير. أكتب الشعر أيضًا، وأصدرت فيه كتابًا واحدًا، ولديّ موادّ قد تكفي ثلاثة كتب، لكنّي لا أفكّر في نشرها، أقلّه حاليًّا. الشعر لا يخاطبني قارئةً وكاتبة، إلّا نادرًا. أقول بصراحة إنّ ما لا يصلح أن أعجنه في قصّة، وهو رغم ذلك "عالق في حلقي شوكة"، أجد له مسربًا آخر؛ فيخرج على شكل نصّ شعريّ. في الشعر لا أحاكم نفسي، ولا أنتظر أيضًا إعجابًا أو عكسه، أنا أقول فحسب بلا مراعاة لقوانين أو ضوابط الشعر عمومًا. وكما يقولون "أحيانًا تُصيب وأحيانًا تخيب".

في القصّة أكون صارمة جدًّا مع نفسي.

ولماذا الرواية؟ هي امتحان وتحدّ لقدرتي على الخروج من عباءة القصّة، والعودة إليها دائمًا، إنه تحدّ له علاقة مباشرة بطبيعتي المحاربة الّتي ورثتها عن جدّاتي اللّواتي كنّ يصنعن "للنملة لباسًا"، امتحان وهوس لا ينفكّ ينقر مخّي، ويقول: هيّا، أرينا قدرتك على السباحة تحت الماء حتّى نهاية البحيرة.

أريد للرواية أن تحمل عنّي وزر الكلام الممنوع، أريدها أن تنزع الأقنعة دفعة واحدة، أريدها أن تقول ما لم أقله حتّى الآن، وما لن تحتمله القصّة، أريد لسانًا طويلًا وحرّيّة ما زالت تُراوغني وأراوغها، أريد للرواية أن تكون جرعة كبيرة من الخيال والواقع والسورياليّ؛ تكفي كي يدوخ رأسي بعد أن تحصّن أمام الجرعات الصغيرة.

الرواية ستكون اختبارًا لي، هذا ما أعرفه.

 

الكتابة الإنسانيّة كتابة عن فلسطين أيضًا

فُسْحة: تحافظين في الكتابة على مسافة بينك وكلمة "وطن"؛ المكان الّذي تتسكّعين فيه مع أبطالك، مكان عامّ وجامح وغارق في سعته ووساعته. مقابر، وبيوت معتمة، وشوارع طويلة طويلة؛ هي كلّها فلسطين، لكنّها كلّ مكان، في نفس الآن. فلسطين حاضرة غائبة، عن قصد؟

شيخة: نعم، الوطن كلّ ما ذكرته، وهو حذاء متين كان وطنًا بديلًا في طفولتي.

كنتُ صغيرة

صغيرة جدًّا.

لم يجتهد أحدٌ من حولي كي يحدّثني عن الوطن.

اعتقدت لشتاءين متتاليَين أنّ الوطن هو كيس النايلون المتين الّذي يصمد حول أحذيتنا يومًا كاملًا

دون أن ينفذ منه وحل الطريق

الشتاء كان الغربة عن الوطن

الحذاء المتين كان الوطن البديل

فلسطين حاضرة كما يحضر المكان والإنسان في كلّ ما أكتبه. فلسطين حاضرة خارج نمطيّة الشعارات والبكائيّات وشارات النصر الخازوق، فلسطين أكتبها حين أكتب عن أمّي وأسرتي ونمل الطريق والدمى المحلّيّة.

 

فُسْحَة: ماذا يعني لك الترشّح لجائزة في هذه المرحلة من نضج الكتابة، وبلوغ "الطلبيّة C345" القائمة القصيرة لجائزة "الملتقى للقصّة القصيرة العربيّة"؟ وأن تمثّلي فلسطين وصوت الكاتبات هنا، رغم مأساة المكان؟

شيخة: الجائزة تحمل معناها معها. هي تربت على كتفي، وتقول: "عمَل جيّد شيخة"، وأرجو أن يكون كذلك. هي فرصة أيضًا للوصول إلى عدد أكبر من القرّاء في العالم العربيّ. الجوائز تقصّر الطرق وتسهّلها، تفتح الأبواب بشرط أن يكون العمل الأدبيّ مستحقًّا طبعًا، لكنّها فخّ أحاول ألّا أعيره اهتمامًا كبيرًا؛ أقصد أنّ ثمّة مشاريع في الكتابة وغيرها، تستوجب الخطى السريعة.

وجود اسمي في القائمة القصيرة، إلى جانب كتّاب وكاتبات ذوي باع طويل في الكتابة والنشر، فخر لي... أن أمثّل فلسطين في القائمة دليل على أنّ الكتابة الإنسانيّة كتابة عن فلسطين أيضًا.

 

ريم غنايم

 

شاعرة ومترجمة وباحثة، عملت محرّرة مشاركة في منابر أدبيّة ثقافيّة فلسطينيّة، وتكتب باستمرار في الملاحق الأدبيّة والثقافيّة العربيّة. صدر لها شعرًا: 'ماغ: سيرة المنافي' (2011)، و"نبوءات" (2014)؛ وترجمةً: "مكتب البريد" (2014)، و"أجمل نساء المدينة" (2015)، وكلاهما لتشارلز بوكوفسكي، ومختارات من الشعر الأفريقيّ الأمريكيّ بعنوان 'الموت في أرضٍ حرّة' (2014). ترجمت إلى العربيّة قصائد لشعراء كبار من أمثال: شارلز بوكوفسكي، بابلو نيرودا، أوكتافيو باث، وغيرهم.