عن الألم؛ تأمّلات طبيب سابق

David Marcet | Komechakart gallery

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

"هل تستطيع أن تصف لي الألم على درجة من واحد إلى عشرة؟

يهاجمك الألم وكأنّه نبض ثابت؟ أم هو حادّ وسريع وخاطف؟

هل يوقظك الألم من النوم؟".
 

أستعيد تلك الأسئلة من ماضيَّ طبيبًا، لأتأمّل شكل العلاقة بالألم من ناحية، وبالمكوّن البشريّ الإنسانيّ على جهتَي العلاقة، أي الطبيب والمريض، من ناحية أخرى، إلّا أنّني أيضًا أسعى هنا إلى الحفر في بنية مؤسّسة الطبّ من خلال الألم والإنسان معًا، كمقولات ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة، بالمعنى الإجرائيّ والإدراكيّ وكذلك التداوليّ. ولعلّ الطبّ الطريق الأوّلل لتحقيق هذا الأمر؛ لأنّه يتسلّل إلى وعينا الحداثيّ المتشظّي عن أجسادنا، وما تستبطنه من عنف، وصور إدراكيّة.

إنّ ابتلاع الجسد البشريّ ومحمولاته الإنسانيّة والرمزيّة والعضويّة، حدث منذ لحظة أكل آدم التفّاحة في الذاكرة التخيّليّة التوحيديّة؛ فتلك التفّاحة أحدثت من الخارج تغييرًا داخليًّا في الجسد

في كلّ مرّة سألت فيها أحدًا هذا السؤال، ما يشعر أو تشعر به من ألم، كنت أتواطأ مع الألم أكثر، وأمنحه مكانًا راسخًا يمكن تأمّله بمعزل عن الإنسانيّ منه، بل بمعزل عن صاحب الألم أيضًا، بشكل يُقصي المكوّن الشخصيّ منه، ويُعَلْمِنَه بالمنطق الإجرائيّ (الّذي سيتحوّل إلى سياسيّ كما سأفصّل لاحقًا)؛ وإلّا فما معنى أن نعطي الألم شكلًا ووصفًا لا تداول/ مفاوضة فيه، إنّما اتّفاق/ إجماع يساوي بين صاحب الألم ومراقب التجربة فيه، أي الطبيب والمؤسّسة الطبّيّة؟

ليس هذا فحسب؛ فهذا الألم – في هذا الشكل تحديدًا – وفي ذلك الوصف (من 1 إلى 10)، لا يفهمه صاحبه بقدر ما يفعل الطبيب ابن المؤسّسة. وتلك المؤسّسة مقولة ممتدّة في الزمان، من حيث تاريخيّة وجود الجسد وتاريخانيّته في إدراكنا بصفتنا كائنات تاريخيّة؛ فلا يصبح ثمّة فرق بين التجربة الطبّيّة ونتيجتها لحظة "السؤال" الّذي ما إن "يقع" حتّى يبتلعنا خارج زمن العلّة الطبّيّة/ العضويّة المجسّدة ذاتها، إلى زمن تحليلها والهيمنة عليها بمعزل عن جسدها.

ينطلق السؤال النمطيّ عن معياريّة/ قياس الألم من مركزيّة أساسيّة لمؤسّسة الطبّ، تنطلق من الادّعاء بأنّها الوسيلة الأساسيّة لإدراك الجسد وما يحدث فيه/ يقع عليه، وهو ادّعاء يطمس حقيقة أنّ مؤسّسة الطبّ أتت تاليًا – تاريخيًّا - على الجسد. ولا أجازف بالقول إنّ ابتلاع الجسد البشريّ ومحمولاته الإنسانيّة والرمزيّة والعضويّة، حدث منذ لحظة أكل آدم التفّاحة في الذاكرة التخيّليّة التوحيديّة؛ فتلك التفّاحة أحدثت من الخارج تغييرًا داخليًّا في الجسد، وبالتالي ظهر في المتخيَّل الجمعيّ إمكان إحداث تغيير داخليّ على الجسد من الخارج، من خلال وسيط مادّيّ (التفّاحة)، محمَّلًا بالكثير من المعاني والرموز. والتفّاحة هنا كحبّة الدواء، تحمل دلالات رمزيّة أيضًا.

 فقد الجسد الأوّل - جسد آدم - في تلك اللحظة فرادته، بسؤاله عمّا حدث له بأكل التفّاحة، وهو ما يحدث لفرادة أجسادنا المريضة والمتألّمة وذاتيّتها، بمجرّد معاينة المؤسّسة الطبّيّة لألمـ(نا)، حتّى تناولنا حبّة الدواء. سؤال التشهّي في حادثة أكل آدم التفّاحة، بشكله الذاتيّ والفرديّ جدًّا، ليس موضع التساؤل والتأويل؛ فهو إمّا بدافع شيطانيّ، وإمّا حوّائيّ – نسبة إلى حوّاء - وكلاهما ذو تأثير في جمعيّة الجسد الآدميّ، وليس معنيًّا أبدًا بذاتيّته؛ أي أنّ أثر التفّاحة وقع فيه كما يقع فينا، ولذا فلا حاجة إلى التفكير في فردانيّة تجربة آدم. الأمر ذاته مع حبّة الدواء؛ فهي منتج طبّيّ علميّ يتعلّق بتجارب على العديد من الأجساد الّتي لا ذاتيّة لها، وعلى ذاك فسؤال التجربة الذاتيّة مع حبّة الدواء لا معنى له أمام جماعيّتها؛ فرحلة التفّاحة معكوسة ها هنا، لكنّها تؤدّي إلى النتيجة نفسها: طمس وإخراس لذاتيّة الفرد/ الإنسان، مقابل ألوهة السرد التوحيديّ وألوهة السرد الطبّيّ.

الممارسات العتيدة والتاريخ الميدانيّ من الأنثروبولوجيا الطبّيّة، وحّدت أشكال التعبير عن الألم، كمّيًّا وسياسيًّا، بشكل يلغي فردانيّة التجربة وذاتيّتها، مستخدمين ربطًا من التحليل النفسيّ اللغويّ من ناحية، وشكلًا من أشكال التصنيف السياسيّ الإثنيّ، من ناحية أخرى

ينطبق على الألم ما انطبق على شهوة آدم للتفّاحة؛ فآدم وإن كان هو فقط مَنْ أكل التفّاحة، فإنّه وحده أيضًا مَنْ طُرد من الجنّة، لكنّ الطرد هنا حملناه معه جميعًا. وكذلك الألم؛ "هذا الألم لم نكن نتصوّره قبل أن يُصيبنا، ونحن بعد أن ألمّ بنا، بالكاد نستطيع تصوّره باعتباره ألمنا نحن"[1]، لكنّ مؤسّسة الطبّ، وإن رفدت من تلك المفارقة مشروعيّتها الخطابيّة والإدراكيّة، إلّا أنّها فعلًا لا تؤمن بها؛ فبقدر ما تدّعي أنّ الألم دخيل على شخصانيّة الجسد وذاتيّته، وأنّ انتهاء المؤثّر الخارجيّ - وإن كان داخل الجسد - انتهاء للأثر، ولا تداخليّة في العلاقة بين هذا وذاك، وتحديدًا ما يتعلّق بالشاعريّة والمجازيّة والتأويل في الألم، بقدر ما تستمدّ وجودها من ديمومة افتراض أنّه حادث لا محالة، وأنّ الجسد ما هو إلّا حلقة في سلسلة ذلك الحدوث المستمرّ.

بالعودة إلى تلك الأسئلة التشخيصيّة في الكشف الطبّيّ، قد يخرج عليّ أحدهم بالقول إنّه حتّى تلك الأسئلة ببنيتها تلك لم تأت عبثًا، فهي نتاج ممارسة بحثيّة ميدانيّة لتاريخ كامل من الأنثروبولوجيا الطبّيّة، وهذا ما لا أختلف معه. لكنْ للأمر وجه آخر يختلف في جوهره عن رسم بيانيّ للألم على محور رأسيّ، وهو ما رفضه بعض الأنثروبولوجيّين بصريح العبارة؛ إذ يقول أوستن كلارك: "الألم ليس إحساسًا"[2].

تلك الممارسات العتيدة والتاريخ الميدانيّ من الأنثروبولوجيا الطبّيّة، وحّدت أشكال التعبير عن الألم، كمّيًّا وسياسيًّا، بشكل يلغي فردانيّة التجربة وذاتيّتها، مستخدمين ربطًا من التحليل النفسيّ اللغويّ من ناحية، وشكلًا من أشكال التصنيف السياسيّ الإثنيّ، من ناحية أخرى. يوضّح الطبيب النفسيّ النيجيريّ وعالم الأنثروبولوجيا الشهير بيتر أونيكوير إيبيغبو، كيف أنّ أشكال تعبير النيجيريّين عن "آلامٍ ما بعينها باستخدام تعابير لغويّة ما، يشي بحجم الانهيار النفسيّ الّذي يعانونه"[3]، ويشير إلى بعض تلك التعابير: "وكأنّ فلفلًا وُضع في رأسي"[4]، أو "كأنّ جيشًا من النمل يمشي في أجزاء من رأسي"[5] وغيرهما. وإن كان الكثير من مدارس الأنثروبولوجيا الطبّيّة يؤكّد أنّ "مكوّناتٍ ما بعينها في الألم الّذي يشبه النبض أو الوخز، لها جوانب شخصيّة ذاتيّة مميّزة، وتحديدًا للأشخاص الّذين يعيشون في مجتمعاتهم، ولهم تاريخهم وتجاربهم، ومخاوفهم وأشواقهم وانفعالاتهم، كلّ هذا تمحوه تجارب الأنثروبولوجيا الطبّيّة في تنميطها الإثنيّ للألم"[6].

يقول بول ريكور عن الألم: "العذاب لا يكتفي بأن يكون، وإنّما أن يكون بمبالغة. والعذاب يكون دومًا عذابًا مفرطًا، ومن ثَمّ فمفارقة العلاقة بالآخر تصبح عارية. من جهة، أنا الّذي يتعذّب وليس الآخر، ومكانانا غير قابلَين للتبادل، ومن جهة أخرى، وعلى الرغم من كلّ شيء، ومن الانفصال، فإنّ العذاب الّذي يظهر في الشكوى هو نداء للآخر، وطلبٌ مستحيل إرضاؤه؛ ربّما لعذاب لا حدود له"[7].

لعلّ التماهي الأدقّ هنا بين النموذج العلمانيّ والنموذج الطبّيّ، هو تغليب الطبيعة الفيزيولوجيّة على التجارب الشخصيّة للألم والمرض؛ فيتحوّل المريض حينئذٍ إلى معادلة معقلنة تكاد تكون بيطريّة داروينيّة، ولا مساحة فيها للمجاز والشعريّ والمتخيَّل

علينا أن نعلم جميعًا، ولا سيّما الأطبّاء منّا، أنّ أسئلة كتلك السابقة لتشخيص الألم وتوصيفه، بقدر ما تحدّد ملامح الألم، وما إلى ذلك من أهمّيّة في رسم بنيته الطبّيّة والعياديّة والتشخيصيّة، إلّا أنّها أيضًا تلغي وتطمس فردانيّة التجربة الذاتيّة للألم. ثمّة الكثير من أدبيّات الأنثروبولوجيا الطبّيّة عن الألم والتقسيم الإثنيّ له سياسيًّا، وهي أدبيّات تملأ الفرد بمخاوف جمّة، سببها تلك القدرة – الخارقة - للسؤال والمقولة السياسيّة على اختراق مسامنا والتغلغل إلى لحظات البداية الزمنيّة للعلاقة المضطربة - وحتّى المطمئنّة - بيننا والعالم من ناحية، وبيننا وأجسادنا من ناحية أخرى.

 

الألم والجسد كنماذج تفسيريّة

من خلال البحث في العلاقة بين الألم بصفته إحساسًا، والفرد بصفته ذاتًا، باعتبارهما مقولات أنثروبولوجيّة داخل مؤسّسة الطبّ الّتي باتت تُدار باسم الحداثة، ومركزيّة العقل الصلبة فيها، الّتي تكاد تكون مقدّسة بشكلٍ وثنيّ، نحاول الحفر في تداعيات تلك العلاقة، وما أنتجته من نماذج تفسيريّة (العلمانيّة نموذجًا) انبنت وأعادت إنتاج الثنائيّات العنيفة. ولعلّ أبرزها: العقل والعاطفة، والجسد والروح، والمستعمِر والمستعمَر، وغيرها.

مثلًا، ترى سوزان جيمس أنّ تناول فرويد ورفاقه للتوتّر بين العاطفة والفعل الناتج عنها، وإن تضمّن فهمًا جيّدًا للآليّات الدافعيّة الداخليّة (العاطفة والأحاسيس)، إلّا أنّها تحمل إشكالًا أساسيًّا ما بادّعاء أنّ العواطف يجب أن تخضع لمقولة العقل الإجرائيّة. وعلى ذاك؛ تُمنح العقلانيّة التفوّق في تكوين الذات "المتألّمة"، والأهمّ الهيمنة على الجسد "المتألّم" وعلاقته بوجوده وسياقه. تلك أزمة تعاني منها المؤسّسة الطبّيّة، لكنّ الأهمّ من ذلك أنّ تلك الأزمة ترفد بشكلٍ واضح نماذج تفسيريّة للوجود الإنسانيّ، أهمّها العلمانيّة الحديثة وعسكرتها. ولعلّ التماهي الأدقّ هنا بين النموذج العلمانيّ والنموذج الطبّيّ، هو تغليب الطبيعة الفيزيولوجيّة على التجارب الشخصيّة للألم والمرض؛ فيتحوّل المريض حينئذٍ إلى معادلة معقلنة تكاد تكون بيطريّة داروينيّة، ولا مساحة فيها للمجاز والشعريّ والمتخيَّل. ولعلّ الأمر يتبدّى واضحًا في التماهي بين إجرائيّة السؤال: هل تستطيع أن تصف لي الألم على درجة من واحد إلى عشرة؟ ومعايير الدمَقْرَطَة والمشاركة السياسيّة في المجتمعات، ودلالة تحويل المجتمع إلى كيان مَقيس، والتجربة الفرديّة إلى وحدات للمعاينة.

من هذه العلاقة والتماهي، يمكننا تأمُّل دور المؤسّسة الطبّيّة الاستعماريّ، وحتّى السياسيّ، منطلقين من مقولة شهيرة وأساسيّة لجوديث باتلر: "لا جسد لا سياسة". وقد طُرحت نظريّات حول الجسد، منها على سبيل المثال تشبيه تنظيم الحكومة الحديثة في بلد ما وضبط مؤسّساتها، في إطار نظريّات "العقد الاجتماعيّ"، بنظام الحمية الغذائيّة للإنسان، حسب وصف براين تيرنر في كتابه "نظريّة الثقافة والمجتمع".

اعتُبر ميشيل فوكو من أهمّ مَنْ قدّموا مفهومًا جديدًا عن "السياسة الحيويّة"، المعنيّة بتحليل العمليّات السياسيّة بناءً على بيولوجيا السلوك والنظريّة والتطوّر، من خلال إشاراته إلى تركيبة جديدة لعلاقات السيطرة للسلطة على الجسد الإنسانيّ

في منتصف سبعينات القرن العشرين، اعتُبر ميشيل فوكو من أهمّ مَنْ قدّموا مفهومًا جديدًا عن "السياسة الحيويّة"، المعنيّة بتحليل العمليّات السياسيّة بناءً على بيولوجيا السلوك والنظريّة والتطوّر، من خلال إشاراته إلى تركيبة جديدة لعلاقات السيطرة للسلطة على الجسد الإنسانيّ، باسم الحفاظ على حياة الإنسان، من خلال تدخّلها في حياته في الولادة والتوثيق والأوراق المدنيّة والعقاب والسجن. وإن كان الجسد السياسيّ كالجسد الآدميّ، ما إن يُولد حتّى يبدأ رحلته للموت، كونه يحمل في داخله أسباب هلاكه، كما يقول روسو، فلعلّ الربط هنا مع مقولة الطبّ الأساسيّة: "الهيمنة على أسباب الموت ومشاهده"، هو أساس شكل العلاقة بين المؤسّسة الطبّيّة والسياسيّة.

 لنتأمّل شكلًا تفصيليًّا لتلك العلاقة:

قدّمت مارغريت لوك مسحًا لعمل الجسد البشريّ، في مواجهة المرض والحالات الاستثنائيّة الّتي يستتبعها ذلك؛ فهي تلاحظ أنّ "المقاومة الجسديّة كانت تُؤوَّل حتّى فترة قريبة بأنّها هامشيّة أو مرضيّة، أو على قدر كبير من الغرابة، أو حتّى يجري تجاوزها بلا ملاحظة أو تسجيل". وأشارت إلى تفاصيل الحياة اليوميّة للأطفال والنساء والمهمَّشين – كنموذج بحث – في علاقتهم بالألم والمرض؛ وهو ما أدّى إلى إعادة تشكيل النظريّة عن الجسد المشبع بالمعنى الاجتماعيّ، وطرق التعبير عن الألم معنًى، فضلًا عن موضعتها تاريخيًّا، ودلالتها على الانتماء والانتظام في بنيةٍ ما إجرائيّة - ليست الطبّيّة فحسب - كما جاء في الأعمال الأنثروبولوجيّة الأقدم.

كشفت لوك عن تقابليّة الجسد المريض مع الطبقة العاملة المضطهدة؛ حين يُنظر إلى الجسد هنا على أنّه مقاوم، أو كما وصفه طلال أسد بأنّه "وكيل يدافع عن مصالحه". لكنّ المشكلة أنّ سلوك الجسد المريض وتعبيراته عن المعنى/ الألم بوصفه "تعبيرًا عن المقاومة"، يحتاج إلى معايير ومصطلحات للترجمة والتداول، مختلفة بدرجة ما عن تلك المستخدمة لمقاربة الطبقات الاجتماعيّة وحركيّتها، حتّى لو كان الجسد هو المشترك الأدائيّ والمفاهيميّ الأساسيّ في الحالتين، وهنا يظهر دور الطبّ بصفته أداةً من أدوات الرقابة والضبط، والأهمّ بصفته أداةً لتسييس الجسد.

... الألم لا موضوع له في العالم الخارجيّ (الخارج عن حدود الجسد)، لكن يصبح التساؤل حينذاك مشروعًا: ما حدود الجسد؟ وأين ما هو خارجه وما هو داخله؟ وهل الأصل في الألم - بهذه الفرضيّة - أنّه بلا موضوع، وبالتالي هو أصل في الجسد الإنسانيّ؟

ظهرت، مثلًا، بنية الاقتصاد السياسيّ للعمل شكلًا من أشكال الهيمنة على الألم والمرض؛ إذ إنّ استمراريّة مركزيّة العمل في الحياة اليوميّة تُعدِم الألم، حابسة إيّاه في مجال محدود. حين حاور دلفيشيو غود امرأتين تتابعان العمل، على الرغم من مرضهما، سجّل ما يأتي: "من جهةٍ، تدرك المرأتان أنّ العمل مجال لصناعة المعنى، والسيرورة المركزيّة للإبداع والنشاط في حياتهما، ومن جهة أخرى، فالألم يكثّف الفقدان والأهداف الّتي لم تتحقّق قطّ، والخيبات وغياب التحكّم إزاء ما يسمّيه غارو هجمات أنطولوجيّة"[8].

 

الألم مجازًا وسياسةً حدّيّة

تفترض بعض الأدبيّات الأنثروبولوجيّة أنّ الألم استثنائيّ، من حيث إنّه على غير ما هي مداخل الجسد الإدراكيّة الأخرى، الّتي تنفتح ضمن شكل علائقيّ مع العالم الخارجيّ، كالسمع والبصر؛ هو – الألم - لا موضوع له (Objectlessness)؛ بمعنًى آخر، الألم لا موضوع له في العالم الخارجيّ (الخارج عن حدود الجسد)، لكن يصبح التساؤل حينذاك مشروعًا: ما حدود الجسد؟ وأين ما هو خارجه وما هو داخله؟ وهل الأصل في الألم - بهذه الفرضيّة - أنّه بلا موضوع، وبالتالي هو أصل في الجسد الإنسانيّ؟ لتلك الفرضيّة وجاهة ما، من حيث قدرتها على حوار الألم والجسد بمعزل عن عالمهما الخارجيّ المشترك؛ فالقول إنّ الألم لا موضوع له خارج الجسد، وهي المقولة الّتي تنفيها – يا للسخرية! - مؤسّسة الطبّ نفسها؛ يؤدّي بنا إلى تفهّم الدافعيّة إلى اختراع الموضوع بالنسبة إلى الألم، مهما كانت أثمانه. 

القول إنّ لا موضوع للألم خارج حدود الجسد، يخلّ بقدرتنا على فهم أجسادنا، وبالتالي حدودها وفاعليّتها في هذا العالم، وشكل/ أشكال وجودها، بل مراوحتها أيضًا بين ما هو داخلها وما هو خارجها. بلا ألم لا نستطيع فهم أبعاد هذا الوجود وإدراكه، وتختلّ علاقاتنا بأجسادنا وببقيّة مشاعرنا ودافعيّتها. شاهدي على ذلك، شخصيّة دو لا تور في رواية "خادم ساد"[9] لنيقولاي فروبينوس، فلا يحسّ بأيّ ألم مطلقًا، ويقضي حياته كلّها في محاولة فهمه، ومقاربته بجرائم مختلفة ومتعدّدة تنتهي بتشريح ضحاياه، بحثًا عن عضو للألم غير موجود. في نهاية المطاف يقطع يده اليسرى على طاولة، لكي يتذوّق الإحساس بالألم، لكن من دون جدوى.

الألم هنا ليس بكلّيّته داخليًّا في الجسد، وهو أيضًا ليس بكلّيّته خارجًا عنه، إنّه شكل من أشكال الفضاءات المجازيّة للتداول بين الجسد والعالم، والفرد، وإلّا ما كان المؤثّر نفسه ليؤلمنا جميعًا بأشكال مختلفة

التفسير الوحيد الّذي يربط الألم بالموضوع هو الخيال، ومن هنا ظهرت مجازيّة الألم، لتعطي التجربة الذاتيّة بصحبته معنًى ومجالًا للذاتيّة والجمعيّة معًا، كشكل تداوليّ من أشكال الوجود والعلاقة بالجسد والآخر والمعنى. صحيح أنّ "الشخص غير القادر على الإحساس بأيّ ألم شخص مهدّد في حياته على الدوام؛ إذ إنّه يجهل العدوان الّذي يتعرّض له جسده ولا ينتبه لآثاره عليه، إنّه يتعرّض للجرح ولكسر عضو من غير أن يحسّ بأيّ شيء أليم"[10]، إلّا أنّ الألم بهذا المنطق هو المَعْبر الجسديّ للعلاقة بين ما داخل الجسد وما خارجه؛ بمعنًى آخر، الألم هنا ليس بكلّيّته داخليًّا في الجسد، وهو أيضًا ليس بكلّيّته خارجًا عنه، إنّه شكل من أشكال الفضاءات المجازيّة للتداول بين الجسد والعالم، والفرد، وإلّا ما كان المؤثّر نفسه ليؤلمنا جميعًا بأشكال مختلفة، تتباين بتباين أشكال التعبير عنها.

"الألم ليس استنساخًا في الوعي لشرخٍ عضويّ؛ إنّه يمزج الجسد في المعنى، وهو تجسيد للدلالة وبناء لها. الألم لدى الفرد هو المواجهة بين واقعة جسديّة وعالم من المعنى والقيم، ثمّ إنّ الإحساس به ليس تسجيلًا لتأثّر معيّن بقدر ما هو الصدى الداخليّ لمصاب واقعيّ أو رمزيّ. وفي الإحساس بالعالم، يكون الألم نفسه طريقة أخرى للتفكير فيه، وتغييره من المحسوس إلى المعقول. تُحيل التجربة الإنسانيّة أوّلًا إلى الدلالات الّتي بها يُعاش العالم؛ لأنّ هذا الأخير لا يمنح نفسه بشكلٍ أو بآخر. ويكون التأثّر العاطفيّ أوّل شيء في الإحساس بالألم، فهو يقيس حدّته ونبرته، فكلّ ألم يكون وراء تحريك دلالة وتأثّر عاطفيّ ما"[11].

يظلّ أن نقول في ظلّ كلّ هذا الألم في حياتنا وحولنا، إنّ الألم لا يقبل البرهنة ويُعاش كتجربة، إذ لا وجود لألم موضوعيّ؛ فالألم وقوّته نابعان من الذاتيّة الشخصيّة للتجربة، أو كما صرّح الطبيب والفيلسوف الفرنسيّ جورج كانغليهم: "الإنسان يصنع ألمه ويقوم به، أكثر ممّا يتلقّاه ويخضع له"[12].

******

تأمّلاتي:

قال لي يومًا أحد المحرّرين وهو صديق مقرَّب، متسائلًا: "لماذا تصرّ على تعريف نفسك طبيبًا، وأنت وأنا نعلم علم اليقين، وأظنّ أنّنا لسنا الوحيدين في هذا، أنّك تمقت مهنة الطبّ ومؤسّسة الجسد، ولك منها موقف نقديّ شديد الرفض والحسم، حتّى أنّك تصف الطبّ بأنّه ’أوّل الكفر‘، و’أوّل الاحتلال‘، وماذا أيضًا؟ ... آآه ... ’صحراء المعنى‘ أو ’موت المعنى‘؟ لا أتذكّر بالضبط".

أجبته، وأنا أتأمّلني في حروفه: "بل هو أسوأ من ذلك صديقي، لديّ قناعة بأنّك لتصبح طبيبًا عليك أن تقتل شيئًا ما في داخلك. كان الأمر واضحًا بالنسبة إليّ من السنة الأولى في كلّيّة الطبّ، بل من اليوم الأوّل. أتفهّم تساؤلك الّذي لا يخفى عنّي بيني وبيني أحيانًا كثيرة، لكنّني لا أستطيع التنكّر إلى ما أحدثه الطبّ فيَّ من أزمات وشروخ، شاركَت في تكويني وصقلي كما أنا الآن؛ حادّ... إلّا أنّه كذلك غرس في طينة عقلي تساؤلاتٍ كثيرة، وأضاء لي زوايا من جسدي وعقلي وإيماني، لم أكن أظنّ أنّها موجودة. ولو عادت بي الأيّام ما اخترت أن أكون طبيبًا (أنا أساسًا لم أختر ذلك في المقام الأوّل، إنّما كانت مقايضة أثبتت الأيّام فشلها؛ فالحبّ ليس معروضًا للتقايض ولا الاستجداء، وتلك قصّة أخرى)، كلّ هذا بات الآن جزءًا منّي ومن هويّتي.

شيء ما انكسر داخلي وأخرج ما بداخله. لكنّني لمّا أقتل ذلك الطبيب الّذي في داخلي بعد، ولا أعلم إذا كنت سأفعل، لا أريد أن أسير حاملًا جثّته معي. ألا يكفينا كلّ هذا الموت حولنا، وهذه الجثث المتدلّية من سمائنا، وكلّ هذه المقايضات الفاشلة مع السماء؟

لا أزال إلى الآن أعاتبني عندما أهرع لمعاينة طفل زلّت قدمه على سلالم بيته، وسقط على وجهه، ما زلت أدعو الله عندما أصعد إلى أيّ طائرة، ألّا يطرأ طارئ يستوجب عليهم أن يبحثوا عن طبيب بين الركّاب، ما زلت أتذكّر مناطق حروب زرتها وأنا طبيب، ما زلت أذكر المستشفى الميدانيّ في ميدانَي التحرير ورابعة. التحرير أذكره جيّدًا؛ أذكر أنّني يوم تنحّى مبارك، وأنا أمام قصره، مع أخي الأصغر، حينما هتف الناس: "الشعب خلاص أسقط النظام!"، ما رأيت أمامي إلّا قرارًا ناصعًا أبيض يخرج من رحم الله: لن أكون طبيبًا بعد اليوم! شيء ما انكسر داخلي وأخرج ما بداخله. لكنّني لمّا أقتل ذلك الطبيب الّذي في داخلي بعد، ولا أعلم إذا كنت سأفعل، لا أريد أن أسير حاملًا جثّته معي. ألا يكفينا كلّ هذا الموت حولنا، وهذه الجثث المتدلّية من سمائنا، وكلّ هذه المقايضات الفاشلة مع السماء؟ سأقصّ على ابنتي يافا هذه القصّة، حتّى لو اختارت أن تكون طبيبة، سأخبرها أنّ المقايضة فاشلة إذا كان الحبّ أو الحرّيّة أحد أطرافها، سأحميها من خياراتي المهزومة!".

..........

إحالات:

[1] دافيد لوبروطون، تجربة الألم (المغرب: دار توبقال، 2017)، ص 11.

   [2]                                                                           Murat Aydede (ed.), Pain (USA: The MIT Press, 2005), p. 177.

[3]  Mary-Jo DelVecchio Good, Paud E. Brodin (eds.), Pain as Human Experience: An Anthropological Perspective (USA: University of California Press, 1992), p. 2.

[4]  المرجع نفسه.

[5]  المرجع نفسه.

[6]  المرجع نفسه.

[7]  دافيد لوبروطون، تجربة الألم (المغرب: دار توبقال، 2017)، ص 50.

[8] لوبروطون، ص 54.

[9] La Valet du Sade, Nikolaj Frobenius, Actes Sud, France, 1998.

[10] المرجع نفسه.

[11]  لوبروطون، ص 19.

[12]                                                          Canguilhem G., Le Normal et le Pathologique (Paris: Puf, 1996), p. 56-57.   

 

 

عبد الله البيّاري

 

 

طبيب وباحث أكاديميّ فلسطينيّ، متخصّص في النقد الأدبيّ والدراسات الثقافيةّ، وله مقالات وبحوث منشورة في صحف ومواقع ومجلّات عربيّة.