الاحتفاء بعلامة "البسيخومتري"... عقدان على ظاهرتنا الحصريّة

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

الامتحان "البسيخومتري" أو "السيكومتري" هو الامتحان العامّ المُعْتَمَد للقبول للمؤسّسات الأكاديميّة الإسرائيليّة، وهو امتحان يتقدّم إليه الطلّاب بشكل تلقائيّ من غير علاقة بالواجبات المدرسيّة أو منهاج "وزارة التربية والتعليم الإسرائيليّة". المثال الأقرب إلى امتحان "البسيخومتري" قرينه امتحان الـ "سات - SAT" الأمريكيّ، الّذي كان بمنزلة مُوجّه لبناء الامتحان الإسرائيليّ، على يد "المركز القُطري للامتحان والتقييم" في القدس.

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

ماذا يفحص "البسيخومتري"؟

يفحص امتحان "البسيخومتري" قدرة المتقدّم في ثلاثة محاور: التفكير الكمّيّ، والتفكير الكلاميّ، واللغة الإنجليزيّة. تتراوح علامات هذا الامتحان بين علامتَي 200 و800، في حين تعالج المؤسّسات الأكاديميّة الإسرائيليّة هذه العلامة مع معدّل علامات الامتحانات الرسميّة النهائيّة المدرسيّة، من أجل فحص الطلّاب المقبلين عليها وتصنيفهم وتصفيتهم. ومن الجدير بالذكر أنّ وزن امتحان "البسيخومتري" في فحص إمكانيّات قبول الفرد، أكبر من وزن الامتحانات المدرسيّة، وهذا ليس قرارًا غير مدروس، بل إنّ التقارير الإحصائيّة الرسميّة، المنشورة على يد "المركز القُطريّ"، تفيد بأنّ قدرة تنبّؤ هذا الامتحان لأداء الطالب في السنة الأكاديميّة الأولى، أعلى من أيّ امتحان آخر موجود في الساحة الأكاديميّة.

ظاهرة نشر العلامات والتفاخر بها، والمباركات والاحتفاء بالحاصلين عليها، حصريّة للمجتمع الفلسطينيّ

حسب المستندات والأبحاث الرسميّة، فإنّ ثمّة علاقة إحصائيّة غير مباشرة بين الأداء في الامتحان والذكاء العقليّ العامّ (IQ)؛ أي أنّ أصحاب الذكاء العامّ العالي، قد يجدون أنفسهم حاصلين على علامات أعلى في امتحان "البسيخومتري" بالمعدّل، لكن ليس بشكل مُطلَق؛ إذ يُعقل وجود العكس أيضًا، فإنّ الامتحان يفحص جوانب عديدة غير متعلّقة بشكل مباشر بالذكاء العامّ، مثل اللغة الإنجليزيّة أو قدرات الكتابة والتعبير الإنشائيّ وغيرها.

 

"ألف مبارك لفلان علامة الـ 800"

حسب إحصائيّات "المركز القُطريّ"، نسبة العرب الحاصلين على علامة فوق 600 هي 15% من الطلّاب بالتقريب؛ أي 1 من كلّ 6 طلّاب. وحسب ذلك، فقد يبدو طبيعيًّا جدًّا التفاخر بعلامات شبيهة. لكن، بشكل مفاجئ، ظاهرة نشر العلامات والتفاخر بها، والمباركات والاحتفاء بالحاصلين عليها، حصريّة للمجتمع الفلسطينيّ، الّذي يخوض الامتحان "البسيخومتري".

بعد كلّ موعد امتحان (4 مواعيد في السنة)، تُرسَل العلامة بشكل فرديّ وسرّيّ إلى المتقدّمين كافّة، وبعد هذا الحدث لا نلبث إلّا أن نرى شبكات التواصل الاجتماعيّ تتفجّر بالمباركات والتمنيّات والإطراءات لهذا وذاك، مع الأخذ بعين الاعتبار أنّ المباركة تُحَدَّد وفق الرقم في العلامة، وبغضّ النظر عن أنّ هذه العلامة كافية للقبول لمؤسّسات التعليم العالي للموضوع التعليميّ المرجوّ. هذه الظاهرة؛ أي المباركة الدوريّة لعلامات نسبة ضئيلة من الطلّاب المتقدّمين، ظاهرة آخذة بالتفاقم والتوسّع في المجتمع الفلسطينيّ، تشجّعها بعض الجهات الربحيّة مثل شركات ومعاهد معيّنة لتدريس "البسيخومتري"، وهذا على الرغم من وجودنا في عصر، فيه تختفي ظواهر نشر العلامات والتفاخر بها، حيث يعتبرها الكثيرون ظاهرة تشجّع على التنافس السلبيّ، تقدّس الغاية لا الوسيلة، وخاصّة حين تكون هذه العلامة متأثّرة بعوامل كثيرة ومتنوّعة، ولا تقتصر على المجهود والاجتهاد الشخصيّ للفرد. والنقطة الأخيرة هذه محوريّة جدًّا، وهي تعني بكلمات أخرى أنّ مقارنة علامات "البسيخومتري" بين أشخاص مختلفين، ذوي معطيات مختلفة، هي كمقارنة بين معطيات بيولوجيّة جبريّة مثل الطول أو لون البشرة، المتعلّقة بالغالب بمعطيات أوّليّة جينيّة للشخص، أكثر من أن تكون متأثّرة بمدى استثماره في الدراسة والكدّ والجدّ.

الفهم المغلوط عن طبيعة الامتحان "البسيخومتري" ولّد توتّرًا كبيرًا حوله، أنجم عن بزوغ معسكرين متضادّين، أحدهما يتغنّى بهذا الامتحان، والآخر يبغضه ويرفض الاعتراف به

من هنا؛ فهذا الفهم المغلوط عن طبيعة الامتحان "البسيخومتري" ولّد توتّرًا كبيرًا حوله، أنجم عن بزوغ معسكرين متضادّين، أحدهما يتغنّى بهذا الامتحان، والآخر يبغضه ويرفض الاعتراف به. في المعسكر الأوّل نجد عادةً مَنْ يحرز نجاحًا فيه "علامة عالية نسبيًّا"، وحينذاك نراه لا يفوّت أيّ فرصة لإعلام جميع معارفه بنجاحه. وفي المعسكر المضادّ يكون عادةً كلّ مَنْ لم يحقّق العلامة المرغوبة في الامتحان، وآنذاك يميل إلى تسويقه بصفته حجر عثرة أمام الطالب الفلسطينيّ، أو امتحانًا عنصريًّا يجب إلغاؤه. هذا التضادّ في عاطفيّة التعاطي مع الامتحان حصريّ لمجتمعنا الفلسطينيّ؛ ففي المجتمع اليهوديّ ظاهرة نشر علامات الطلّاب معدومة، وكذلك في المجتمع الأمريكيّ، حيث تكون علامة امتحان الـ "سات" سرّيّة وفرديّة، ولا ربط بين هذه العلامات والمكانة الاجتماعيّة والمنصب.

 

كيف وصلنا إلى هنا؟  

صعدت ظاهرة نشر علامات "البسيخومتري" مع صعود شبكات التواصل الاجتماعيّ، لكنّها بدأت قبل ذلك بكثير في فترة دخول الدورات التحضيريّة لامتحان "البسيخومتري". هذه السوق الّتي تحصد عشرات ومئات ملايين الشواكل سنويًّا في المجتمع الفلسطينيّ في أراضي 48 فقط، تبنّت اللغة التسويقيّة الّتي تتكلّم بنشر العلامات. هذا النهج الّذي يخدم رؤوس الأموال في سوق "البسيخومتري" أساسًا، أدّى بشكل اصطناعيّ إلى الاحتفال والتفاخر بعلامة "البسيخومتري" بحفاوة أكبر من إنجازات أكاديميّة حقيقيّة وفعليّة، مثل إنهاء اللقب الأكاديميّ أو توظيف التخصّص العلميّ في مصلحة المجتمع والأمّة.

ربّما المثال الأوضح لهذا الادّعاء الاحتفاء بأحد الطلّاب الفلسطينيّين، وقد حصل على علامة كاملة 800 في الامتحان "البسيخومتري" عام 2016، وقد جرى استقباله في برامج إعلاميّة كثيرة، وكذلك المباركة له من قِبَل نوّاب فلسطينيّين في الكنيست، إضافة إلى وزير التربية والتعليم الإسرائيليّ آنذاك. وهذا مع العلم بأنّ العلامة في حدّ ذاتها لا تمثّل أيّ إنجاز حقيقيّ على أرض الواقع؛ فهي لا تضمن إنهاء الطالب للّقب الأكاديميّ، ولا تؤكّد رجوعه لإفادة مجتمعه وشعبه بعلمه وتخصّصه. لكن ما هو صاعق في كلّ هذه القصّة نهايتها، حين تبيّن أنّ هذا "الإنجاز" ليس أكثر من نسج خيال؛ ففي تقرير إحصائيّ رسميّ "للمركز القُطريّ" منتصف عام 2017، اتّضح أنْ لا طالبَ عربيًّا حصل على علامة أعلى من 790 في العام المنصرم، 2016.

لا يمكن تحميل الشركات والمعاهد الخاصّة بالتحضير للامتحان، كلّ مسؤوليّة هذه الظاهرة؛ فإنّ ثقافة البروز بكلّ ثمن، حتّى بثمن باهظ مثل التلفيق والتجميل والكذب، قد تكون مفسَّرة، جدلًا، عبر البنية الاجتماعيّة القرويّة أو القَبَليّة

قد يكون هذا المثال الدرس الأكبر، والتحصيل الحاصل، بعد أكثر من 15 عامًا من تبجيل البعض وازدراء الآخرين، حسب أداء هو في معظمه خارج عن سيطرة الطالب نفسه. أمّا ثقافة التجميل والتلفيق (أو الكذب، بكلمات أقسى) فتستمرّ حتّى يومنا هذا، حين تَظهر في مراجعة التقارير الرسميّة "للمركز القُطريّ" نمطيّة عدم ملاءمة بين العلامات الحقيقيّة والعلامات المنشورة على يد الشركات والمعاهد للتحضير للامتحان. يمكن فحص هذا الادّعاء بسهولة، عن طريق رصد عدد العلامات المنشورة في شبكات التواصل الاجتماعيّ في عام معيّن، والمقارنة بالتقرير الإحصائيّ الرسميّ "للمركز القُطريّ" في العام ذاته.

 

ثقافة البروز

لكن لا يمكن تحميل الشركات والمعاهد الخاصّة بالتحضير للامتحان، كلّ مسؤوليّة هذه الظاهرة؛ فإنّ ثقافة البروز بكلّ ثمن، حتّى بثمن باهظ مثل التلفيق والتجميل والكذب، قد تكون مفسَّرة، جدلًا، عبر البنية الاجتماعيّة القرويّة أو القَبَليّة. حين تكون المدينة غائبة فالكلّ يعرف الكلّ، و"قريتنا صغيرة والكلّ بعرف بعض"، وجملة مثل "شُفِت ابن فلان قدّيه جاب بالبسيخومتري؟" لا بدّ من سماعها على الأقلّ مرّة واحدة في حياة كلّ أمّ أو أب، ومن ثَمّ تكون هذه البنية الاجتماعيّة أرضيّة خصبة لكلّ ما يغذّي ثقافة البروز والشهرة المحلّيّة.

وممّا يدعم هذا الادّعاء انتهاج شركات تجاريّة أخرى، غير متعلّقة بامتحان "البسيخومتري"، تسويق نفسها على يد شخصيّة معيّنة - وأحيانًا عشوائيّة - من القرية، وهذا يتجلّى في مشاهد مثل إعلان على مدخل القرية، يشمل صورة لشخصيّة محلّيّة تربطها بالشركة التجاريّة المبادرة للإعلان. تخلق صورة الشخص المألوف تفاعلًا إدراكيًّا غريزيًّا لدينا؛ لأنّ الكائن البشريّ يحترف تمييز الوجوه، ولا سيّما الوجوه من البيئة القريبة. تبعًا لذلك، نفس المنطق في استخدام التأثير الغريزيّ لتمييز الوجوه بتمثّله بإعلانات مثل "ألف مبارك علامة 722 لسماح من باقة الغربيّة"، هو ساري المفعول في إعلانات تستهدف أبناء المجتمعات المدنيّة، الّذين لا يمكن افتراض أنّهم يعرفون "سماح" أو "محمّد"؛ ولهذا تستأجر لاعبي كرة قدم مشهورين مثل ميسي ورونالدو.

ربّما يكون رصد ظاهرة نشر العلامات تذكيرًا لنا بأهمّيّة التخطيط والإقامة، لمدينة فلسطينيّة حقيقيّة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948

 

في النهاية، ربّما يكون رصد ظاهرة نشر العلامات تذكيرًا لنا بأهمّيّة التخطيط والإقامة، لمدينة فلسطينيّة حقيقيّة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948، للخروج من بوتقة المقارنات المحلّيّة المحدودة، وتشجيع الانتماء إلى القرية العالميّة الأوسع؛ وهو ما يحفّز رفع المعايير الاجتماعيّة إلى مستوًى يليق بمجتمعنا وطاقاته الكامنة.

 

 

جاد قعدان

 

باحث ومدرّب وناشط. متخصّص في علوم الدماغ (بيولوجيا وعلم نفس)، وعلم النفس الإدراكيّ اللسانيّ. يدرس حاليًّا ضمن برنامج الدكتوراه في الدراسات الإدراكيّة اللسانيّة، في "جامعة تل أبيب". معلّم بسيخومتري منذ 2007، ومدرّب للدبكة التراثيّة الفلسطينيّة.