الكورونا... فردوسنا المفقود!

بلدة عربيّة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

تُحجَر في بيتك حَجْرًا قسريًّا، وتطول جلستك المنزليّة تجنّبًا للعدوى من فايروس الكورونا، وتصبح عطلتك المباغِتة مُرْبِكَة مُرَكَّبَة. الآن صرنا ننتمي إلى جيل يُدوّن في سيرته الذاتيّة والجماعيّة "جيل الكورونا". لطالما أبهرك الأجداد برواياتهم الخرافيّة وقصص أزمنتهم الاستثنائيّة، لكنّنا الآن لدينا نحن الأبناء قصص استثنائيّة نرويها لأحفادنا. سنحكي لهم عن عطلةٍ هي أختٌ لحظر التجوال، سنحاول شرح عبثيّة إجازتنا المنصاعة لتدابير الصحّة والعافية، بإدارة خبراء الطبّ والأمن والمال وبإشرافهم. لاحقًا سنعيد ترتيب ما يجري وتنسيق الحيثيّات وغرابتها، سنروي القصص المتخيّلة.

 

مَنْ يعوّضنا؟

الآن في حجرنا المنزليّ، نرسم من القمح أشكالًا، وننظم قصائد في مديح الطحين، وننشغل بتداعيات هذا الحَجْر على مخزوننا النقديّ ومعاملاتنا المصرفيّة ومعاشاتنا المنكسرة. لكن، ونحن على هذه الحال، نتجنّب التحديق بالعزلة المفروضة على التماثيل في حدائقنا العامّة، ننشغل بالأشياء لكي نتجنّب الحديث عن الفضاءات الثقافيّة المغلقة. إنّه القلق، كبقيّة مدن العالم وبلداته القلقة من تلويث الفايروس لمناخهم الفنّيّ والإبداعيّ والترفيهيّ، نحن أيضًا مصابون بالهلع من مصادرة الفايروس لروتيننا الجميل. لن تعوّضنا الجلسة البيتيّة الكورونيّة عن جودة وقتنا النوعيّ خارج المنزل.

لطالما أبهرك الأجداد برواياتهم الخرافيّة وقصص أزمنتهم الاستثنائيّة، لكنّنا الآن لدينا نحن الأبناء قصص استثنائيّة نرويها لأحفادنا. سنحكي لهم عن عطلةٍ هي أختٌ لحظر التجوال، سنحاول شرح عبثيّة إجازتنا المنصاعة لتدابير الصحّة والعافية...

حتّى لو عانقنا "البلاي ستيشن" ساعات، وأَدْمنّا السينما والمسلسلات في "نتفلكس"، وأعددنا لها ما استطعنا من الفُشار، حتّى لو قرأنا رواية، وحتّى لو حفظنا معجم "لسان العرب"؛ فمَنْ يعوّضنا عن خسارة جودة وقتنا؟ كيف سنعيد ترميم روح الترف في جماليّات المَعارض الفنّيّة، على طول البلاد وعرضها؟ مَنْ يرمّم نفسيّاتنا التوّاقة إلى الفردوس المفقود، ويبدّد أكذوبة الملل؟

 

"البو - سكيت"

هل ثمّة مَنْ يفكّر في خسارة أطفال عرّابة وحرمانهم من الانطلاق، مبتهجين نحو المسارات المخصّصة للبوسكليتات ليمارسوا رياضتهم بأمان؟ هل من أحد يساوره القلق تجاه ساحات "السكيت" (Skate) الحزينة في قرانا ومدننا العربيّة؟ هل خطر ببالكم قساوة عزل تلك الساحات  عن ضجيجنا وصراخنا عند الصعود وعند الهبوط؟ ألن نمنح مساحة للتفكير في مسارات الركض الممتدّة على الأرصفة، وعلى السهول، وعلى التلال الربيعيّة، وهي تتوق إلى عودتنا؟

 

"سينماتيك يركا"

لماذا لا نتحدّث عن دار السينما الّتي أغلقت أبوابها في قرية المغار؟ لماذا لا نكتب عن مقاعد السينما الّتي تُركت وحيدة في قرية عين ماهل الجليليّة؟ وهنا، سأعترف لأصدقائي بأنّني تظاهرت بالاستمتاع بعروض السينما في تل أبيب، والْكِرْيونْ، وكرميئيل. وفي الحقيقة شدّتني العروض الكلاسيكيّة الرزينة في صالات "السينماتيك" في الرامة، ومجد الكروم، ونحف، ويافا. استمتعت أساسًا بتلك الإنتاجات القادمة إلينا من العالم العربيّ، الّتي تُشعرنا بمعاني هويّتنا، ولذّة التواصل مع لغتنا وثقافتنا في العالم العربيّ الكبير؛ ومن هنا أستوعب كلّ الاستيعاب هذا الإحباط البارز على ملامح شابّة من سخنين، "ما صدّقت" أن افتُتحت سينما في مدينتها، تريحها من عناء السفر إلى خارج بلدتها؛ وإذ بالكورونا الزِّفْتِة تسلبها فرحتها، وتخمد شرارة الشغف.

أستوعب كلّ الاستيعاب هذا الإحباط البارز على ملامح شابّة من سخنين، "ما صدّقت" أن افتُتحت سينما في مدينتها، تريحها من عناء السفر إلى خارج بلدتها؛ وإذ بالكورونا الزِّفْتِة تسلبها فرحتها، وتخمد شرارة الشغف

وإذا كانت الرسوم البيانيّة تعدّد أضرار فايروس الكورونا، فلن أشعر بالإحراج في أن أحدّثكم عن خسارة قد تبدو لكم هامشيّة. حاليًّا، وبسبب الكورونا؛ فإنّ اشتراكي في "سينماتيك يركا" متوقّف أيضًا، ولا أعلم حتّى الآن، إن كان من الممكن استرداد مَصْرِيّاتي.

 

في انتظار غودو

هو المسرح الحزين. التفتوا إليه قليلًا، فكّروا فيه، فكّروا فينا، ولنفكّر نحن أيضًا في ذواتنا، نحن المعتادين على حياة المسرح. بلداتنا العربيّة الّتي تحتضن خلايا النحل المسرحيّة: فكّروا مثلًا في البلدتين المندمجتين جديدة والمكر، حيث فرضت الكورونا رعبها على مسرحهما فأغلق بابه المصنوع من خشب الزيتون. لماذا لا نكترث بخسارتنا الكبيرة هناك؟ ونحن نعيش هذه الحالة الاستثنائيّة؛ لا بدّ من أن ندعو بعضنا بعضًا لتأمّل واقعنا الثقافيّ المشلول في جليلنا ومثلّثنا ونقَبنا. فلنُطلق فكرة إصدار بيان مجنون يستنكر ظلم "الكورونا"، ونحمّله مسؤوليّة إغلاق مسارحنا في الرينة، وكفر كنّا، وعيلبون، وكفر قرع، واللدّ، والرملة. ولن ننسى مسرح مدينة رهط عاصمة الجنوب. مسارحنا مغلقة و"انتظار غودو" صار عصيبًا وعصبيًّا. الكراسيّ الخمريّة المعتادة على ثقل أردافنا تفتقدنا، ونحن الّذين اعتدنا على حياة البَطَر الترفيهيّ، وعلى صناعة احتفاليّات نهايات الأسبوع الصاخبة، وشرب الكوكتيلات نخب مسرحيّات جديدة.

 

انتشار المكتبات

علينا، نحن العرب، ألّا نتردّد وألّا نخجل - في ظلّ حَجْر الكورونا - من قياس خسارتنا بمقاييس ثقافيّة؛ فليس بالمال وحده يحيا الإنسان. لنتحدّث عن المكتبات؛ مكتباتنا مغلقة، تخيّلوا كمَّ المكتبات العربيّة المغلقة! وبالطبع لا أقصد مكتبات القرطاسيّة، وهي فرصة لوضع حدّ للّغط والخلط بين عالم المحّايات والأقلام والبرّايات والدوسيّات، وعالم الكتب، والزجّ الدائم بها في مكان واحد غير متكافئ.

علينا، نحن العرب، ألّا نتردّد وألّا نخجل - في ظلّ حَجْر الكورونا - من قياس خسارتنا بمقاييس ثقافيّة؛ فليس بالمال وحده يحيا الإنسان. لنتحدّث عن المكتبات؛ مكتباتنا مغلقة، تخيّلوا كمَّ المكتبات العربيّة المغلقة!

ما أقصده هنا مكتبات الكتب، النوع الواحد والأطعمة المتعدّدة، ذاك المكان الّذي يؤول إليه حبر المطابع: الروايات والدراسات وقصص الأطفال. لنفكّر في حجم المكتبات المغلقة في بلداتنا، الّتي لم تتجوّل فيها عيوننا القارئة. لنفكّر أعزّائي في المكتبات المنتشرة في دنّون، وقلنسوة، وكابول، وطمرة، ودير حنّا، وكفر ياسيف، وأبو سنان، والطيّبة، وكثير من البلدات. لنتذكّر انتشار المكتبات قبل انتشار الكورونا. هي دعوة إلى وقفة قصيرة مع الثراء الفكريّ والروحيّ، المفقود بفضاء بلداتنا في زمن الوباء.

 

صمتٌ بعد موسيقى

كنّا معتادين على صالات عروض الموسيقى فعّالة ونشطة؛ عروض الموسيقى الشرقيّة والغربيّة الّتي تُقام ليليًّا في المقاهي والبارات، وفي الأفنية والأحواش، وفي القاعات الصغيرة والكبيرة. نحضر بشغف ونهم عروض العزف الفرديّ والثلاثيّ والرباعيّ، وعروض الأوركسترا والجوقات، فضلًا عن الأمسيات المميّزة نهاية كلّ أسبوع. فكّروا، بأسلوب مقارن، بين نهاية أسبوع ثقافيّة موسيقيّة، في شعب وسخنين وعكّا وأمّ الفحم وطرعان، قبل الكورونا، ونهاية أسبوع بعد الكورونا. لنقارن بين مزاج قاعات بلداتنا وفضاءاتها الّتي كانت تجيد اللعب المكثّف على الأوتار، وبين مزاجها الساكن الصامت الحزين الآن.

 

لا خبطة قدم ولا أر ض هدّارة

في زمن الكورونا خسرنا حراكًا، حراكًا مهمًّا، ليس بمعانيه المجازيّة فحسب، بل بمعانيه الحرفيّة أيضًا. تركنا باحات الرقص، وأستوديوهات الرقص، ودورات الرقص من الباليه والكلاسيكيّ والرقص المعاصر و"السالسا" و"التانچو"، وصولًا إلى الدبكة، وأُغلقت أكاديميّة الرقص العربيّ. كيف غادرنا كلّ ذلك بلا عناق، ونحن مَنْ حرصنا على محاورة أجسادنا من خلال أنشطة الرقص في النوادي والمراكز المهنيّة، الّتي تقدّم خدمةً لكلّ شرائح المجتمع؟ فجأة تتوقّف الرقصة دون إرادتنا. الآن "لا خبطة قدم "عالأرض هدّارة"، ولا "نحن بالصدارة". ولنتعاطف مع الأستوديوهات في شفا عمرو والطيرة وكوكب وكفر مندا. لنشاهد تسجيلات عروض ظهيرة يوم الجمعة، على المنصّات الّتي كانت تُنْصَب في الحدائق والساحات العامّة. لنعلن أنّ ذنب الكورونا لا يُغتفَر.

ولنتعاطف مع الأستوديوهات في شفا عمرو والطيرة وكوكب وكفر مندا. لنشاهد تسجيلات عروض ظهيرة يوم الجمعة، على المنصّات الّتي كانت تُنْصَب في الحدائق والساحات العامّة. لنعلن أنّ ذنب الكورونا لا يُغتفَر

السباحة بالخيال

إذا طال مكوث هذا الفايروس، ودخلنا في موسم السباحة، فلنُعِدّ نفسيّاتنا لوجبات مختلفة من الإحباط. لنا أن نتخيّل العلاقة الموجعة المستجدّة، بيننا وبين برك سباحة مغلقة في بلداتنا العربيّة. وفي حال حدوث ذلك، وسّعوا مساحات الخيال؛ لنتعامل بإيجابيّة مع الإحباط والغياب، مثلًا، أن نحوّل أحواض الاستحمام البيتيّة الفرديّة إلى مساحة للاستجمام. ليستحضر كلٌّ منّا بركة بلدته الجافّة إلى قلب منزله، وليحاول أن يطفو على شبر ماء.

لن أتحدّث عن متاحفنا الحزينة، لكنّها لا بدّ من أنّها تنتظر خروجنا من الحَجْر، تنتظر عودتنا لندوّن فيها قصصنا الحزينة عن الهذيان في زمن الكورونا.

 

 

فايد بدارنة

 

باحث وكاتب. حاصل على البكالوريوس في علم الاجتماع والأنثربولوجيا والعلوم السياسيّة، والماجستير في مجال السياسات العامّة من الجامعة العبريّة في القدس، كما يحمل شهادة في الدراسات الثقافيّة. يحضّر لرسالة الدكتوراه في موضوع المجتمع المدنيّ وبلورة الهويّة الوطنيّة في الجامعة العبريّة. كتب عدّة مقالات في السياسة، والنقد الموسيقيّ والمسرحيّ، والسينما.