وصفات من الحَجْر

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

ملء الوقت والذات بالمعنى

حُجِر علينا رغمًا عنّا، حَجَرَنا فايروس لا يُرى بالعين المجرّدة. أُغلقت السماء، وتوقّفت الحركة إلى موعد غير محدَّد.

أُجبرنا على وضع الكمّامات على وجوهنا؛ فبدونا ونحن نسير في الشوارع الخالية إلّا من بعض قطط الشوارع، بدونا كأنّنا مخلوقات فضائيّة هبطت للتوّ من السماء. النشرات الإذاعيّة لا تُنبِئ بالخير ولا تَعِد بفرج قريب. صور الموتى وأعدادهم جعلتنا نهرب من جديد من المواجهة إلى الانشغال، الانشغال بالذات وبالجماعة المصغّرة، الوحدة العائليّة المصغّرة. طبّقنا حكمة السماء المُعلَنة من فم قسّيس في طقوس زواج: "فيترك الرجل أمّه وأباه ويلتصق بزوجته"؛ التصقنا ببعضنا بعضًا عائلاتٍ نوويّة في بيوتنا، وأغلقنا أبوابنا أمام العالم الخارجيّ. حجرونا وفصلونا عن العالم، واستكملنا نحن ما بدؤوه وفق ما أملوه علينا؛ ففصلنا حالنا عمّن حولنا، وبات الرعب يدبّ في داخلنا، إذا مشينا في الحارة واقترب منّا جار أو مارّ طريق، صرنا أغرابًا في عالم يضجّ بالفايروسات.

بات موضوع المأكولات والحلويات يحتلّ حيّزًا عبر صفحات التواصل الاجتماعيّ، ولربّما جاء هذا تعويضًا لخوفنا من المجهول، لقلقنا من المرض وسرعة انتشاره ومدى صعوبة السيطرة عليه؛ فعلى الأقلّ ها نحن نسيطر على حيواتنا، على ما نأكل.

 

أغلبنا ترك عمله من خلفه في المكتب، وجلس في قوقعته الجديدة، لا يعرف كيف سيمرّ الوقت، وهنا انطلقت الإبداعات من نكات وتوقّعات لما يمكن أن يحدث، وتحليلات لمصدر الفايروس وأسباب انتشاره، وحتمًا لا يخلو أيّ تحليل في أيّ موضوع من "نظريّة المؤامرة".

وبين هذه الإبداعات من عين المشاهدة والمراقبة، في الساعات الطويلة الممتدّة على امتداد النهار بين إنجاز عمل وآخر؛ فقد حالفني الحظّ فكنت ممّن استمرّوا بعملهم من بعيد، مستعملةً التقنيّات الحديثة الّتي يوفّرها الإنترنيت من لقاءات "الزووم" إلى غيرها. استمرّ عملي لكنّ ساعات التأمّل زادت؛ إذ لا سفر ولا انتظار قطارات، وفي هذا الزمن كنت أراقب وأنشط، فأنا لا أعرف الركون والهدوء؛ فرسمت في البدايات وكتبت وقرأت، وكغيري من حولي من الكائنات البشريّة، بحثت عن ملء الوقت بالمعنى، والهروب من فكرة العزل، من القلق لا من المرض، بل من فكرة أنّ العالم لن يعود إلى ما كان عليه.

 

نسيطر على ما نأكل... على الأقلّ

 لاحظت أنّ رغبة دفينة لديّ بدأت تظهر وتأخذ حيّزها: الطبخ وعمل الحلويات. كان ذلك ربّما من أثر الكمّ الكبير في نشر الصور عبر صفحات التواصل الاجتماعيّ للطبخات اليوميّة، ولا سيّما الفيسبوك والإنستغرام. كنت في البداية مشاهِدة متردّدة في نشر ما أطبخ؛ فالمطبخ ذاك الحيّز الخاصّ ضمن الحيّز الخاصّ – البيت - حيث لا نشارك الجموع ما يحدث داخله غالبًا. هذا جزء من ثقافة تربَّينا عليها. لكنّ الحجر طال، وبدأت الصور تتكاثر عبر صفحات التواصل الاجتماعيّ، ووجدت نفسي أنشر صورة لما قمت به، وتحظى باللايكات والتعليقات الإيجابيّة، فأعدت الكَرّة.

 

مشاركة إحدى عضوات مجموعة "وصفات من الحجر"

 

بات موضوع المأكولات والحلويات يحتلّ حيّزًا عبر صفحات التواصل الاجتماعيّ، ولربّما جاء هذا تعويضًا لخوفنا من المجهول، لقلقنا من المرض وسرعة انتشاره ومدى صعوبة السيطرة عليه؛ فعلى الأقلّ ها نحن نسيطر على حيواتنا، على ما نأكل.

لفت نظري في هذه الفترة الكمّ الهائل من النشر، وفيه عودة إلى الذات، وعودة إلى ما اعتادت أمّهاتنا وجدّاتنا القيام به من مأكولات ووصفات لم نكن نفكّر في أن نجرّبها في الأيّام العاديّة قبل وباء الكورونا. ووجدت نفسي ضمن الجموع أقوم بتجارب جديدة، وأخبز الخبز المنوّع من خبز شوفان، مع إضافة متنوّعة من لوز وحَبّ شوفان ورشّة سمسم وغيرها، إلى صنع الخبز الّذي نسمّيه "الإفرنجيّ"؛ فكلّ ما هو ليس خبزًا عربيًّا بالنسبة إلينا هو إفرنجيّ!

في المقابل للنشر المكثّف لوجبات الطعام، والأغلب كان نشرًا "نسائيًّا"؛ إذ كان عدد الرجال الّذين سمحوا لأنفسهم نشر وصفات طعام قليلًا نسبيًّا، شاهدت تعليقات متذمّرة من النشر المكثّف لصور وصفات الطعام، تراوحت بين الجدّ والمزاح، أغلبها كان أيضًا من خلال مشاهدتي من الرجال. رأيت في هذا نوعًا من "الإخراس" لما قرّرنا أن نبدع فيه وأن نعمله، ومن هذا المنطلق أيضًا استمررت بنشر ما أنشره من وصفات طعام، وبتّ أفكّر بكامل الجدّيّة في أن أفتح صفحة إضافيّة في الإنستغرام، تكون عامّة لهذا الموضوع، أو مثلها على الفيسبوك.

"وصفات من الحجر" اشترطت على المنضمّات أن تكون الوصفات سهلة وسريعة التحضير ونباتيّة، فجاءت الوصفات بناءً على الطلب، وكبر عدد المنضمّات بشكل ملحوظ

 

 

"حفلات استقبال"

تزامن هذا مع دعوة وصلتني من صديقة من رام الله، للانضمام إلى مجموعة فيسبوكيّة عنوانها "وصفات من الحجر". أعجبتني الفكرة، وانضممت على الفور، وأرسلت الرابط إلى صديقات لي للانضمام أيضًا.

أقولها بكامل الجدّيّة، فقد وجدت النساء في هذه المجموعة متنفَّسًا وموقعًا لطيفًا للمشاركة، ومساحة لتبادل الخبرات، وصار يومي يبدأ بمتابعة المجموعة وينتهي بها، إضافة إلى كلّ الأمور الأخرى الّتي أقوم بها؛ إذ عملي محامية لم يتوقّف.

"وصفات من الحجر" اشترطت على المنضمّات أن تكون الوصفات سهلة وسريعة التحضير ونباتيّة، فجاءت الوصفات بناءً على الطلب، وكبر عدد المنضمّات بشكل ملحوظ. صرنا نتبادل الخبرات والتعليقات؛ تنشر إحداهنّ صورة لوصفة فترى النساء يكتبن تعليقات، يسألن فيها عن أمور ما، ويجرّبنها، ويرسلن صور ما قمن به.

تنوّعت النساء في المجموعة، بعضهنّ أعرفه والغالبيّة لا أعرفها من قبل، نساء من أجيال مختلفة، نساء من فلسطين بتنوّعها؛ من رام الله والقدس وحيفا، والناصرة وعكّا وبيت لحم، نساء من العالم العربيّ، من تونس والجزائر، ومن لبنان ومصر، نساء عربيّات يعشن في أوروبّا وأمريكا. تنوّعت مهن تلك النساء واهتماماتهنّ، أعرف بينهنّ الباحثة والفنّانة والمحامية، وصاحبة المقهى والنادلة والمعلّمة.

ذكّرني أيضًا بما حدّثتني فيه نساء قابلتهنّ لبحثي الجماعيّ حول أدوار النساء في فترة الانتداب، وتحدّثن في المقابلات عن "حفلات الاستقبال" الّتي كانت نساء كبار العائلات تقوم بها

رأيت في هذه المشاركة شيئًا نسويًّا بحتًا، بلا ضغوطات، بلا محاولات استهزاء بما ننشره هناك. ما أحببته أيضًا في هذه المجموعة أنّ كلًّا منّا تشارك من موقعها، وفي الكمّ والوتيرة الّتي ترغب فيها، من مطبخها، مطابخنا الّتي نقضي فيها وقتًا ليس بالقليل، وطبعًا في أثناء الحَجْر نقضي وقتًا أكبر كثيرًا؛ فلِمَ لا نشارك في ذلك؟

ذكّرني الأمر نوعًا ما بجدّاتنا، وبحياة النساء الفلسطينيّات قبل النكبة، بكيف كنّ يعشن الحياة الجماعيّة ويتبادلن الخبرات والأدوار، حتّى أنّ العائلة العربيّة المكبّرة كانت مبنيّة بهذا الشكل التكافليّ والتعاونيّ بين نساء العائلة، في إنجاز المهامّ المشتركة. ذكّرني أيضًا بما حدّثتني فيه نساء قابلتهنّ لبحثي الجماعيّ حول أدوار النساء في فترة الانتداب، وتحدّثن في المقابلات عن "حفلات الاستقبال" الّتي كانت نساء كبار العائلات تقوم بها؛ كلّ يوم خميس مثلًا يكون لامرأة، تستقبل هذه المرأة بقيّة النساء في بيتها، وتَحضر النساء محمَّلات بأطايب الطعام، ويعملن حفلة وغناء وتبادل كلام. هذه الحفلات في أثناء الانتداب والنكبة غدت بديلًا عن الاجتماعات السرّيّة السياسيّة؛ فاستمرّت النساء الناشطات سياسيًّا بإحيائها ظاهريًّا، وإحضار الطعام والدفّ والدربكّة، بينما باطنيًّا كانت الحفلة عبارة عن اجتماع سرّيّ لتنسيق المهامّ.

في الأيّام الأخيرة، رأيت بعض أسماء الرجال من النسويّين ومحبّي إعداد الطعام والمحترفين فيه، ينضمّون إلى المجموعة.

 

 

جنان عبده

 

 

محامية وفنانة تشكيليّة، من سكّان حيفا. ساهمت في تأسيس عدد من الأطر الأهليّة، ولها إسهامات بحثيّة. صدر لها كتاب "الجمعيّات النسائيّة والنسويّة الفلسطينيّة في مناطق 48" عن "مدى الكرمل". تنشط وتكتب عن قضايا الأسرى والمرأة.