التجوالات... أرض البلد أوراق لسِيَر ذاتيّة

"تجوال سفر" في الضفّة الغربيّة

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

فكرة التجوالات أو المسارات في فلسطين برزت على نحو كبير في العقد الأخير؛ فانطلقت مبادرات فرديّة وجماعيّة وتطوّعيّة عديدة لحشد الأصدقاء، قبل تأسيس المجموعات الشبابيّة لتنظيم تجوالات كهذه، مثل "المُلتقى الفلسطينيّ للتصوير والاستكشاف"، و"تجوال سفر"، وغيرهما.

وصارت التجوالات فكرة تتكرّر أكثر من مرّة شهريًّا، وحسب متغيّرات الحالة الجوّيّة، وقد يبلغ عدد التجوالات سنويًّا للمجموعة الواحدة 15 إلى 20 تجوالًا؛ وهذا يعني مكانًا جديدًا للاستكشاف والتعرّف.

تُبنى فكرة التجوالات على المشي الجماعيّ، لكن يتخلّله العديد من النشاطات المصاحبة والفعاليّات، الّتي تعزّز روح الجماعة والفريق...

تضمّ هذه المجموعات مختلف شرائح المجتمع الفلسطينيّ، والمهن، والانتماءات السياسيّة والخلفيّات الفكريّة، والفئات السنّيّة المتفاوتة، وصولًا إلى أنّ التجوال الواحد يضمّ أهل الضفّة الغربيّة، وفلسطينيّي أراضي 48، ومَنْ سنحت لهم الفرصة بالمكوث من غزّة أو الشتات؛ أي أنّ التجوال يكون مجمّعًا فلسطينيًّا بامتياز، وهو ما يخلق نسيجًا اجتماعيًّا بين أهل هذه المناطق، الّتي فكّك الاحتلال الترابط الاجتماعيّ بينها، واجتمعوا على حبّ الأرض، وهواية الاستكشاف، وتعرُّف البلد الّتي مشى عليها الأجداد.

 

"كسالى"

كثيرًا ما سمعنا جيل الآباء أو جيل الأجداد، وهم يشيرون بأصابع الاتّهام إلى "جيل اليوم" على أنّهم كسالى، أو تاركون للأرض غير منتبهين إليها أو مكترثين لأهمّيّتها، وأنّ حالة التمدّن طغت على الفلاحة الفلسطينيّة، وجعلهم التحضّر أكثر ابتعادًا عن حياة القرى أو عاداتها، وغير هذا أنّهم غير متمسّكين بالهويّة القرويّة.

لكنّ الناظر أيّام الجمعة في مراكز المدن الفلسطينيّة، ولا سيّما مدن الضفّة الغربيّة، يجد أنّ في رام الله على سبيل المثال لا الحصر، وتحديدًا في "شارع الإرسال" أو قرب "مدرسة الفريندز"، عددًا من الباصات الّتي تتّسع خمسين راكبًا، تستعدّ للانطلاق إلى إحدى القرى أو الخرب الفلسطينيّة، ومثلها في نابلس والخليل وبيت لحم وجنين؛ أي أنّ المئات من مختلف المناطق الفلسطينيّة، يتمركزون منذ ساعات الصباح الباكر جدًّا، ثمّ ينطلقون من مراكز مدنهم لزيارة الريف أو البدو الفلسطينيّ واستكشافه، في محاولة زيادة ارتباط الإنسان الفلسطينيّ بأرضه، بعيدًا عن مشاغل الحياة الّتي من الممكن أن تحول بينهما.

إعلان عن جولة لـ "الملتقى الفلسطينيّ للتصوير والاستكشاف"

 

روح الجماعة

تُبنى فكرة التجوالات على المشي الجماعيّ، لكن يتخلّله العديد من النشاطات المصاحبة والفعاليّات، الّتي تعزّز روح الجماعة والفريق؛ فيحدث في كثير من المرّات أن يكون ثمّة جلسة مع أهل البلد، سواء مع أعضاء البلديّات أو الأهالي أو أصحاب المحلّات، إضافة إلى فعاليّات الأكل الجماعيّ البيتيّ؛ إذ تنقسم المجموعات إلى حلقات وتتشارك الطعام، وإن صدف أن كان أحدٌ ما لم يحضر أكله معه فإنّه يستطيع الانضمام إلى أيّ مجموعة بلا حرج، وثمّة فقرات من الدبكة الفلسطينيّة، أو الأغاني والأهازيج الشعبيّة أيضًا.

وتقوم بعض المجموعات، خاصّة في "تجوال سفر"، بأعمال تطوّعيّة مثل الزراعة أو بناء بيوت طين أو سلاسل، أو تنظيف عيون ماء، أو حسب حاجة أهل البلد المستضيف لمجموعة التجوال. في المقابل، تقوم مجموعة "الملتقى الفلسطينيّ للتصوير والاستكشاف" على مبادرات أخرى، مثل تطوير الحركة الفوتوغرافيّة من خلال نشر ثقافة الصورة، وتشجيع الهواة والمبتدئين على الاهتمام بالأبعاد الجماليّة للصورة. وقد أثمرت جهوده بإقامة المعارض الجماعيّة، على المستويات المحلّيّة والإقليميّة والعالميّة، آخرها في تركيّا عام 2019.

 

حبّ أكبر للأرض

يهدف الاستعمار الإسرائيليّ بالطبع إلى مصادرة ما يستطيع من الأراضي الفلسطينيّة، وإقامة المستعمرات عليها، لكن ما يحاول فعله أيضًا قطع الصلة العاطفيّة بين الفلسطينيّين وأرضهم. في المقابل، يرى المشاركون في التجوالات أنّ تَعَرُّفهم واستكشافهم المناطق الريفيّة والجبليّة والأغوار الفلسطينيّة، يزيد تقدير جماليّاتها وحبّها أكثر، ويعزّز انتماء الأفراد للأرض.

الوجود والتكتّل البشريّ الجماعيّ في مناطق فلسطينيّة عدّة في يوم واحد، وتوثيق هذه الأحداث بالصور، ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعيّ، رسالة واضحة للاحتلال: أنّ هذه الأرض للفلسطينيّين...

هذه الرحلات داخل حدود البلد تجعل المشاركين كأنّهم مُلّاك لما مرّوا خلاله. وفي حديث مع بعض المشاركين، أشاروا إلى أنّ حادثة الشروع بإنشاء كسّارة إسرائيليّة على أراضي عين الساكوت، الواقعة في الأغوار الشماليّة، كانت ذات تأثير كبير؛ فالتجوال الّذي شاركوا فيه جعلهم يشعرون بأنّ هذه الأراضي تخصّهم بالاسم. من ناحية أخرى، الوجود والتكتّل البشريّ الجماعيّ في مناطق فلسطينيّة عدّة في يوم واحد، وتوثيق هذه الأحداث بالصور، ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعيّ، رسالة واضحة للاحتلال: أنّ هذه الأرض للفلسطينيّين، نمشي بلا خوف، أحذيتنا تكتب ما تشاء، وأرض البلد أوراق لسِيَر ذاتيّة.

 

 

أحمد جابر

 

 

قاصّ وكاتب من فلسطين. حاصل على الماجستير في هندسة الطرق والمواصلات. حائز على جائزة مؤسّسة عبد المحسن القطّان للكاتب الشابّ 2017، عن مجموعته القصصيّة "السيّد أزرق في السينما".