"كورونافون"... يوميّات الحجْر الفلسطينيّ

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

فور إعلان أوّل إصابات بفايروس كورونا (Covid-19) في مدينة بيت لحم، خلال آذار (مارس) الماضي، وبدء إجراءات الحَجْر الصحّيّ والتباعد الاجتماعيّ في الضفّة الغربيّة، بادرت "مؤسّسة عبد المحسن القطّان" إلى رعاية مشروع ثقافيّ حمل عنوان "كورونافون"؛ يهدف إلى خلق حوار حول المعضلة الفلسطينيّة المركّبة، بين الأزمة الصحّيّة العالميّة والمشروع الاستعماريّ الإسرائيليّ في ظلّ الجائحة، وأبعاد هذه الأزمة على الحقل الثقافيّ الفلسطينيّ، وتداعياتها المباشرة والبعيدة المدى، وذلك من خلال مداخلات مستمرّة لمجموعة من الكتّاب الشباب.

وللوقوف على تفاصيل مشروع "كورونافون" ومدى أهمّيّته على الصعيد الإبداعيّ الشبابيّ، توجّهت فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة لعدد من الكاتبات والكتّاب الشباب ممّن شاركوا في المشروع، راصدين انطباعاتهم عن المبادرة وأثرها في مشروعهم الكتابيّ، فكان حديثنا مع مي كالوتي من القدس، وحكيم خاطر وعبد المعطي مقبول من نابلس، ومحمود الشاعر ورائد إشنيورة وضحى الكحلوت من قطاع غزّة المحاصر، لتعرُّف تفاصيل مساهماتهم في مشروع "كورونافون".

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

صورة عن القدس

الكاتبة المقدسيّة مي كالوتي قالت لفُسْحَة حول مساهمتها: "عندما وصلتني الدعوة للانضمام إلى مشروع ‘كورونافون‘، اعتبرتها فرصة للحديث عن كثير من المشاعر الّتي رغبت في مشاركتها مع أصدقائي على فيسبوك، لم أكن لأجد الوقت لها مسبقًا، لكنّ ارتباطي بالمشروع أشعرني بمسؤوليّة هذه المساحة الّتي أُعطيت لي؛ فصرت أكتب أسبوعيًّا بعد انقطاع بسبب انشغالي بمسؤوليّات البيت والصغار".

مي كالوتي

تتابع كالوتي قائلة: "لطالما شعرت بالتقصير تجاه الكتابة، تجتاحني الأفكار فأُدوّنها على ورقة أو دفتر بنِيّة كتابتها في وقت لاحق، قصّة قصيرة أو مجرّد منشور فيسبوكيّ بسيط، لكنّ انشغالي بأمور حياتيّة روتينيّة ينسيني أمرها، وما إن أضع رأسي على المخدّة ليلًا، حتّى أقول لنفسي: ‘غدًا أكتب‘، وهكذا، حتّى لم أعد أكتب إلّا إذا أُرغمت على ذلك؛ فأتى مشروع ‘كورونافون‘ ليُجبرني – مشكورًا - على الكتابة. اطّلعت على أسماء المشاركين والمشاركات في المشروع، من رام الله ونابلس ورفح وخان يونس وحيفا، ومدن فلسطينيّة أخرى، وأنا مع صديق آخر من مدينة القدس، وكم كنت سعيدة لأنّ اسمي موجود مع مجموعة من الشباب والشابّات الموهوبين، على أمل أن تنتهي الجائحة سريعًا؛ كي نعود نحن كلّنا إلى حياتنا وكتاباتنا، وربّما لقاء يجمعنا".

وتضيف كالوتي: "يشعرني انتمائي إلى القدس دائمًا بمسؤوليّة كبيرة، عليّ واجب تقديم صورة واقعيّة عن مدينتي، سواء خلال هذه الجائحة أو غيرها. في ثلاثة نصوص من أصل أربعة، حكيت - ولو بشكل غير مباشر - عن ممارسات الاحتلال الإسرائيليّ بحقّ أهل القدس؛ الضغط عليهم في معيشتهم وتحرّكاتهم، وإهمالهم في المقابل واجبات حمايتهم من فايروس كورونا. لم أنصّب نفسي مرّة مندوبة أو ناطقة رسميّة عن القدس، لكن واجبي تجاه هذه المدينة يجعلني مرغمة – بمحبّة - على قول ما لا يراه الآخرون، أو يسمعونه عبر الإنترنت والتلفزيون".

 

المعرفة بالشيء المجتمعيّ

من مدينة نابلس، حدّثنا الكاتب والروائيّ حكيم خاطر، عن تفاصيل مشاركته في هذا المشروع، فقال: "يهدف ‘كورونافون‘ في الأساس إلى خلق فضاءات للحوار حول الوضع الحاليّ، وتداعياته على الحياة العامّة والوضع الاقتصاديّ والاجتماعيّ والسياسيّ، وأبعاد ذلك على الحركة الثقافيّة في البلاد، وهذه هي الأهداف العامّة للمشروع، على أن يكتب الكاتب أو المساهم ‘يوميّات‘ أسبوعيّة حول الوضع الراهن"، ويضيف خاطر: "بالنسبة إليّ، اتّبعت منهجًا أكثر خصوصيّة، قد يختلف معه البعض أو يتّفق؛ كتبت في المقال الأوّل عن الفجوة بين الصانع والجمهور، إذ يكون حديثه منفصلًا متعاليًا عن هموم العامّة، ولماذا يكون تنظيريًّا محاكمًا في أوقات الأزمات؛ الأوقات الّتي يجب عليه فيها أن ينظر إلى الأقلّ حظًّا، ورأيت أنّ الحالة لا تحتمل مثل هذا التعالي، وأنّ الصمت في هذه الأوقات أقلّ ضررًا".

حكيم خاطر

يواصل صاحب "كليشيه وديستوبيا أناسٌ عاديّون" حديثه معنا حول تفاصيل تجربته، فيقول: "بينما تناول الطرح الثاني الأهرام السلطويّة العديدة الّتي تحكم الناس، وكيف أنّ هذه الأهرام تؤكّد سُمِّيَّة الخطابات كلّها، وكيف أنّها في خضمّ دعوتها إلى القيم العامّة، تترك الفرد الواحد عرضة للانتهاك من قِبَل هذه البنية المجتمعيّة وأفرادها، بمجرّد حدوث أوّل اختلال، وفي الطرح الأخير، كان هنا سؤال القيمة من العائد الّذي لا يقابل المجهود، وأنّ قيمة الطرح لا تحدّد مدى وصوله، وإنّما هي عوامل أخرى كثيرة بعيدة كلّ البعد عن القيمة المعرفيّة أو القيمة الترفيهيّة لمنتوج ما كالرواية مثلًا"، مبيّنًا أنّ "ثمّة سببين لاتّباعي هذا النهج تحديدًا، أوّلهما - وهو الأكثر وضوحًا -  كون هذا المشروع ‘يوميّات‘، وهذه نابعة من نظرة الواحد الخاصّ إلى العامّ وما هو حوله، والسبب الثاني أنّني لا أعتبر أنّ قدرة المرء على كتابة الرواية مثلًا، أو إخراج الفيلم، أو كتابة الشعر، تعني بالضرورة أنّه عارف بالشيء المجتمعيّ؛ يمكنك أن تتحدّث عن المجتمع بما يقع عليك، وليس من السليم أن نتحدّث بلا معرفة واثقة في تحليل الحالة كلّها؛ لذلك فالأولى هي عينك وما ترى في نطاق رؤياك، والثانية هي محاولات تنظيريّة".

 

في بيت واحد

وقال لنا الكاتب عبد المعطي مقبول، ابن مدينة نابلس، إنّ "الّذي يختلف في تجربة ‘كورونافون‘أنّنا سنجتمع أخيرًا معًا في بيت واحد، الكتّاب والقرّاء، تمامًا كما ستجتمع العائلات بسبب تفشّي فايروس كورونا".

عبد المعطي مقبول

ويضيف مقبول: "قيلت جُمل على شكل دعابة في بداية الأزمة مثل ‘طلع ابني/ أبوي/ أخوي ... شخص منيح والله‘، دلالة على التعرّف على الشخص من موضع قريب. هذا بالضبط الّذي حصل، هذا القرب هو النظرة الواعية في شخصيّات الكتّاب، وأساليبهم، وطرائقهم، ومراكز اهتمامهم، ودواعي خيالهم. ثمانية عشر كاتبًا وكاتبة فلسطينيّين يكتبون لنفس الفكرة، مرّة تلو الأخرى. يبدو لي أنّي أعي نفسي أكثر بين سطورهم، ويبدو لي أيضًا ما هو عمري وحجمي الافتراضيّ في هذه العائلة. القرّاء كذلك، ولفظ القرّاء اختلف عندي قليلًا؛ فأصبح يُطْلَق على مَنْ في الأصل تخصّهم الكلمة، وهم قليل، وعلى آخرين كثير، يعيشون عوالم أخرى. تقمّصوا الكلمة أو ألبسوها ثوبًا لنوع معيّن من الحفلات الخاصّة".

ويقول مقبول: "ذلك بالتحديد الّذي جعلني أسمع جملة للكاتب مريد البرغوثي صوتًا في خيالي، مفادها أنّ ‘الكاتب سيكتب ويترجم للغرب؛ لكي يستطيع أن يصل إلى المحيط‘. اجتمعت العائلة، وأُوْقِدَت النار. ذلك جوّ دافئ بالتأكيد؛ فمَنْ منّا لا يحبّ جوّ العائلة؟ لكن، إنّ قدَر الكاتب وفلسفة وجوده يتمحوران حول عيشه عوالم خاصّة في داخله هو، نار تحمى، أو بستان يزهر. انفجار، أو رشرشة لطيفة من ذرّات حبّ. يمتلئ وعاؤه فيُفرغه حبرًا على ورق، يخرج حال نضوجه، ولا يمكن أحدًا أن يطلب من الكاتب - أو يستجديه - طفلًا قبل تكوّنه، أو قبل إرادة الله".

 

إحياء ما كان مهدّدًا بالموت

ضحى الكحلوت

من قطاع غزّة المحاصر، يأتينا صوت الكاتبة ضحى الكحلوت، إحدى المشاركات في مشروع "كورونافون"، لتخبرنا وهي تقاوم بالكتابة، بالهلع الّذي انتشر بين الناس في أصقاع المعمورة بعد تفشّي كورونا، فقالت لنا: "هذا المشروع الّذي أطلقته ‘مؤسّسة عبد المحسن القطّان‘ يهدف إلى خلق حوار واسع حول المعضلة الّتي يعيشها الفلسطينيّون، بين المشكلة الصحّيّة والاستعمار الإسرائيليّ، من خلال مداخلات لشباب وشابّات، نتحدّث فيها عن التوقّف التامّ لمنظومة الاقتصاد، وأثر ذلك في الثقافة داخل فلسطين وفي الشتات. المقالات الّتي تُكتب أسبوعيًّا، تتيح للكتّاب تسليط الضوء على أهمّ التغيّرات الّتي واجهتهم خلال الأزمة، وتتيح للأسئلة القفز بين الأسطر؛ فتخلق حالة من الاتّصال مع القرّاء، مشكّلة بذلك تحدّيًا للحجْر المفروض عليهم في ظلّ الجائحة".

"الناظر إلى المقالات من بعيد، لا يشهد اختلافًا بين ما قبل الكورونا وبعدها، لكنّ واقع الأمر أنّها تجربة مختلفة"، هذا ما تؤكّده ضحى لنا، وتضيف: "على صعيدي الشخصيّ تعرّفت على كتّاب من خارج غزّة – غالبًا - لن تُتاح لي الفرصة لأتعرّف عليهم لولا العمل كفريق، أو ضمن مشروع واحد، بسبب الجغرافيا والحدود"، مشدّدة على أنّه "على صعيد اجتماعيّ، فالتجربة تعبّر عن رفض ومقاومة لفكرة الحَجْر؛ فالحوارات والأسئلة المصوغة تشجّع على إحياء ما كان مهدّدًا بالموت (التواصل)"، وأنّ التجربة "تثير أسئلة حول نظام العمل في ما بعد الكورونا، وجدوى التقييد الوظيفيّ في المكتب ما دام العمل يصل عن بُعْد بنفس الكفايَة؛ فالحجر المنزليّ المفروض أتاح تجارب عدّة، تقابلها أسئلة ما زالت إجاباتها لمّا تكتمل".

 

استفزاز الثلاثاء

من قطاع غزّة أيضًا، كان لنا وقفة مع الكاتب رائد اشنيورة، الّذي أكّد في بداية حديثه أنّ مشروع "كورونافون" بالنسبة إليه "تجربة للصراخ، لفتح القلب على مصراعيه"، مضيفًا: "هي تجربة لممارسة مخاوفنا وهواجسنا، حالة تضعني في حلبة مصارعة مع عدوّ من نوع جديد، أحاربه بالشعر واللغة والحبّ، وبالنار". 

راشد اشنيورة

ويضيف اشنيورة: "حين وصلني إيميل الدعوة للمشاركة غمرتني فرحة عامرة؛ فمنذ أن بدأ الوباء وأنا أبحث عن مدخل للصراع، بعيدًا عن حربنا اليوميّة مع التدابير الوقائيّة والعلاجيّة، وما نعيشه بخصوصيّة في غزّة، وتفاصيل كثيرة في حياة غزّاويّ يضحك على الموت، ولا يعطيه باله".

ينهي اشنيورة حديثه معنا قائلًا إنّ "مشروع ‘كورونافون‘ استفزّني للكتابة؛ فمنذ زمن طويل لم أكتب لأجل شيء مهمّ وهدف سامٍ للغاية، في محاولة لإعادة تسليط الضوء على دور المبدع والمثقّف الفلسطينيّ تجاه وطنه وشعبه وقضاياه المصيريّة، وبالنسبة إليّ ولجميع الأصدقاء المشاركين، أصبح يوم الثلاثاء يومنا الّذي نوجّه فيه لكماتنا علانية لهذا الكورونا اللعين، هذه مساحة أرشيفنا الّتي سنتركها لأجيال قادمة، ونحكيها لأولادنا وأحفادنا، كيف أنقذتنا اللغة من وباء قاتل".

 

شرح المكان المحاصَر

محمود الشاعر، مبتكر وصانع محتوًى، والمدير التنفيذيّ لـ "مجلّة 28" الغزّيّة، كان آخر مَنْ تواصلت معهم فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة، ليحدّثنا عن مساهمته الخاصّة في مشروع "كورونافون"، فأفاد: "بدأت الجائحة وأُغلقت كلّ الأبواب المفتوحة، والنوافذ، حتّى الطريق الطويل الّذي نسلكه إلى أحلامنا، وبدا المشهد مثل عاصفة تجرف معها كلّ مَنْ في الخارج. #خليك_بالبيت، كان نداء الحياة لمَنْ يريدها، واستمرّت حركة الحياة على الفضاء الإلكترونيّ، بدا الفراغ واضحًا بداية الإغلاق، والارتباك كان واضحًا علينا جميعًا، كانت الشاشة الخيار الّذي من خلاله نمارس حركتنا وتفاعلنا".

محمود الشاعر

يضيف الشاعر: "في اللحظة الّتي وصلتني فيها دعوة المشاركة في مشروع ‘كورونافون‘، كنت كأيّ أحد آخر يمارس بحثه عن طرق للتواصل الإنسانيّ والعاطفيّ والاجتماعيّ، في وقت تفرض فيه تداعيات انتشار الفايروس مزيدًا من الإجراءات الوقائيّة، وكانت الفرصة تشبه الصعود على مسرح كلّ يوم ثلاثاء، برفقة أصدقائي الكتّاب من داخل فلسطين وخارجها، نعبّر من خلالها عن أنفسنا، ونحاول أن نكون في أماكننا مثقّفين وفاعلين ثقافيّين فلسطينيّين، نشكّل مشهدنا الثقافيّ الحيّ رغم كورونا؛ إذ في رأيي أنّ هذا الفايروس دعانا جميعًا لشرح المكان المحاصر، الّذي لمّا نهرب منه بعد، وإثبات قدرتنا على التواصل من خلف الشاشات كما كنّا نفعل دائمًا، نحن ما زلنا خلف الشاشات نقاتل ونصرخ ونتألّم، وسنبقى نطرق جدران الخزّان حتّى نتحرّر من عزلتنا."

الشاعر، قال في ختام حديثه معنا إنّ "مشروع ‘كورونافون‘ طريقتنا لتعويض غياب فكرة التواصل، ومنصّتنا الّتي تحتوي أصواتنا الفلسطينيّة".

 

 

أوس يعقوب

 

صحافيّ وباحث فلسطينيّ من مواليد دمشق، يتخصّص في الشؤون الفلسطينيّة والصهيونيّة. درس الصحافة وعلوم الأخبار في جامعة تونس، ويعمل مراسلًا صحافيًّا ومحرّرًا في عدد من المنابر العربيّة منذ عام 1993. له عدّة إصدارات، من ضمنها دراسات منشورة في 'أعلام العلماء والأدباء العرب والمسلمين' الصادرة عن المنظّمة العربيّة للتربية والثقافة والعلوم (ألكسو).