استهداف مؤسّسات القدس الثقافيّة... ضرب للهويّة وفرض للسيادة

سهيل خوري، رانيا إلياس، داوود الغول

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة                                                                              

فرية "تمويل الإرهاب"!

سياسة تهويد القدس والتضييق على سكّانها الفلسطينيّين الأصليّين ليست بجديدة؛ فمنذ احتلال المدينة تحاول الحكومات الإسرائيليّة طمس الهويّة الفلسطينيّة فيها، جغرافيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا.

الأربعاء الماضي، الساعة التاسعة صباحًا، داهمت قوّات من شرطة الاحتلال والمخابرات والضرائب صرحين ثقافيّين مهمّين في القدس: "مركز يبوس الثقافيّ" و"معهد إدوارد سعيد الوطنيّ للموسيقى". قلبت هذه القوّات المكاتب رأسًا على عقب، وصادرت حواسيب وملفّات منذ عام 2014 حتّى يومنا هذا. عندما سأل الموظّفون رجال الشرطة عن سبب المداهمة والتفتيش، قدّموا لهم ورقة مصادقًا عليها، نصفها مطبوع وآخر مكتوب بخطّ اليد؛ بحجّة أنّ هاتين المؤسّستين الثقافيّتين داعمتان ومموّلتان للإرهاب.

خلال التفتيش ومصادرة الوثائق، داهمت قوّات أخرى منزل رانية إلياس مديرة "مركز يبوس الثقافيّ" وزوجها سهيل خوري، مدير "المعهد الوطنيّ للموسيقى"، وفتّشت المنزل وصادرت أوراقًا ووثائق، واقتادت الزوجين إلى التحقيق في "مركز شرطة أبو غنيم".

"أخرجت قوّات الاحتلال 21 صندوقًا، من الحجم المتوسّط من الملفّات والأجهزة، وكذلك الأمر من ‘مركز يبوس الثقافيّ‘، إضافة إلى مصادرة كاميرات المراقبة".

 

في اليوم نفسه، داهمت الشرطة والمخابرات منزل مدير "شبكة فنون القدس - شفق"، السيّد داود الغول، القاطن في حيّ راس العمود، وفتّشت المنزل وصادرت أوراقًا ومستندات.

محمّد مراغة مدير "معهد إدوارد سعيد"، سرد لـ "وكالة وطن الإخباريّة" الأحداث بدقّة؛ فقال: "إنّه في نحو الساعة التاسعة صباحًا، كانت قوّة من شرطة الاحتلال ومخابراته أمام مقرّ المعهد الكائن في شارع الزهراء، في انتظار وصول الموظّفين إلى المعهد. صادرت قوّات الاحتلال كمّيّات كبيرة من الملفّات (كلّ الملفّات الماليّة منذ عام 2014 إلى عام 2020)، وصادرت جميع أجهزة الحاسوب، ويُقَدَّر عددها 7 أجهزة، وجميع الأوراق في المعهد".

وأضاف: "أخرجت قوّات الاحتلال 21 صندوقًا، من الحجم المتوسّط من الملفّات والأجهزة، وكذلك الأمر من ‘مركز يبوس الثقافيّ‘، إضافة إلى مصادرة كاميرات المراقبة".

 

صلاحيّات للأجهزة الأمنيّة بلا رقابة

في حديث مع ناصر عودة، محامي رانيا إلياس، قال لفُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة: "الحجّة القانونيّة الّتي استندوا إليها هي ‘قانون مكافحة الإرهاب‘، قانون جرت المصادقة عليه قبل 4 سنوات، وبناءً عليه تستطيع الأجهزة الأمنيّة والشرطة ربط أيّ جسم أو أيّ مؤسّسة أو شخص بمواضيع تتعلّق بقضايا الإرهاب، إذا كان دعمًا معنويًّا أو سياسيًّا أو مادّيًّا...، هذا يعطيهم الصلاحيّة بمداهمة أيّ مكان واقتحامه في كلّ زمان، يعتقلون أو يصادرون أموالًا وحواسيب وسيّارات، وممتلكات شخصيّة ووثائق وذهبًا. القرار الّذي صدر عن المحكمة الإسرائيليّة بطلب من الشرطة والمخابرات، هو قرار بتفتيش مقرّات المؤسّسات والعاملين فيها؛ بتهمة أنّ لديهم شكوكًا في أنّ هذه المؤسّسات ضالعة في دعم منظّمات إرهابيّة وتمويلها، وقد جرى التحقيق مع المعتقلين بهذه التهم".

"مجرّد أنّك فلسطينيّ، من السهل أن تُتّهم بالإرهاب. إنّ هدف سنّ ‘قانون الإرهاب‘ إعطاء الأجهزة الأمنيّة مساحات أكبر غير خاضعة للرقابة؛ إذ إنّه حتّى المحاكم من الصعب أن تتدخّل حين تكون التهم بحجّة الإرهاب..."

وأضاف عودة عن خطورة "قانون الإرهاب": "مجرّد أنّك فلسطينيّ، من السهل أن تُتّهم بالإرهاب. إنّ هدف سنّ ‘قانون الإرهاب‘ إعطاء الأجهزة الأمنيّة مساحات أكبر غير خاضعة للرقابة؛ إذ إنّه حتّى المحاكم من الصعب أن تتدخّل حين تكون التهم بحجّة الإرهاب. من المؤسف أنّنا لم نعمل على محاربة ‘قانون الإرهاب‘ محلّيًّا أو دوليًّا؛ هذا قانون جائر يعطي صلاحيّات كبيرة تحت شكوك وهميّة بلا أساس، لكي تجري المداهمة والمصادرة والاعتقالات؛ فالقانون فضفاض، يعاقِب قبل أن يتأكّد أو يفحص إن كان للشخص الموقوف أيّ ضلوع بالتهم".

أُفرج عن السيّدة رانيا إلياس وزوجها سهيل خوري بعد 12 ساعة من التحقيق، وقد أفاد المحامي عودة حول ذلك: "الاحتجاز 12 ساعة غير قانونيّ؛ فليس لدى الأجهزة الأمنيّة صلاحيّة لاحتجاز أيّ إنسان أكثر من 3 ساعات، مع إمكانيّة تمديد 3 ساعات أخرى بموافقة ضابط؛ لذلك أُفْرِجَ عنهما من الاحتجاز بشروط كفالة شخصيّة وكفالة طرف ثالث، فضلًا على منعهما من التواصل مع موظّفيهما ومع مجلس الإدارة ومع المحاسبين. وحين استدعائهما للتحقيق عليهما أيضًا الحضور في أيّ وقت وزمان ومكان".

 

تشويه للصورة

من جهة أخرى، وبعد المداهمة والاعتقال مباشرة، عمّمت المتحدّثة باسم الشرطة في القدس، والمتحدّثة باسم وزارة العدل، والمتحدّثة باسم مصلحة الضرائب، بيانًا مشتركًا على الصحافة، جاء فيه ما يأتي:

"في نشاط مشترك، قامت به الشرطة الإسرائيليّة صباح اليوم في القدس الشرقيّة، بالاشتراك مع مصلحة الضرائب وهيئة الشركات، احتُجز 3 من المشتبه بهم في جرائم ضريبيّة وغسيل أموال وجرائم اقتصاديّة أخرى، ونُقِلوا للاستجواب. هذا الصباح، وصلت قوّات الشرطة الإسرائيليّة، مع موظّفي مسجّل الجمعيّات والمحقّقين من مصلحة الضرائب والجنوب، إلى موقع جمعيّتين في القدس الشرقيّة، تعملان على تعزيز الثقافة الفلسطينيّة. خلال التحقيق السرّيّ، نشأ الشكّ في وجود مخالفات وارتكاب جرائم اقتصاديّة خطيرة تتعلّق بتهرّب من ضريبة الدخل، وجرائم الضرائب، وجرائم غسل الأموال، وجرائم أخرى، بما في ذلك مع مسجّل الجمعيّات وضريبة الدخل. هذا النشاط الّذي كان صباح اليوم بقيادة الشرطة، مع انتقال التحقيق إلى المرحلة المرئيّة، يهدف إلى التقاط الموادّ ذات الصلة، وجمع الأدلّة والنتائج، لمزيد من التحقيق. هذه خطوة أساسيّة في تغيير تصوّر الموقف في ‘مسجّل الجمعيّات‘، وكجزء من خطوة سياسة أفقيّة لتحسين إجراءات الإشراف والتنفيذ، الّتي يقوم بها المسجّل من خلال الإنفاذ المتكامل. نُقِلَ المشتبه بهم مع موادّ التحقيق إلى تحقيق مشترك، من قِبَل الشرطة والسلطات".

التناقض بين أمر الاعتقال وما ورد فيه، وبين الحديث مع محامي المعتقلين وتأكيده أنّ الاعتقال والمداهمة والمصادرة والتحقيق مع المعتقلين أيضًا، جاءت تحت بند الإرهاب، يؤكّد مرّة أخرى من جديد السياسات الإسرائيليّة الممنهجة، لتدمير كلّ ما هو فلسطينيّ ومحوه...

ليس غريبًا على السلطة الإسرائيليّة، محاولة خلق البلبلة في صفوف الشارع الفلسطينيّ لتفكيك وحدته؛ فسياسة "فرّق تسُد" بدأت قبل إقامة دولة إسرائيل، وما زالت مستمرّة ربّما بقوّة أكبر. إنّ البيان المشترك استطاع أن يخلق جوًّا من الاضطراب لدى بعض الأشخاص في الشارع المقدسيّ، في ظلّ المحاولة البائسة للسلطات الإسرائيليّة المتمثّلة بأجهزتها الأمنيّة والعسكريّة بتشويه صورة هذه المؤسّسات، واتّهامها بتبييض الأموال، وكأنّ الجنحة جنحة إجراميّة؛ وبكلمات أخرى سرقة، وليست تفكيكًا وتدميرًا لكلّ ما هو فلسطينيّ على أرض القدس.

التناقض بين أمر الاعتقال وما ورد فيه، وبين الحديث مع محامي المعتقلين وتأكيده أنّ الاعتقال والمداهمة والمصادرة والتحقيق مع المعتقلين أيضًا، جاءت تحت بند الإرهاب، يؤكّد مرّة أخرى من جديد السياسات الإسرائيليّة الممنهجة، لتدمير كلّ ما هو فلسطينيّ ومحوه، ولشرذمة الشارع الفلسطينيّ أيضًا وتقطيع أوصاله، ليس فقط جغرافيًّا بل معنويًّا وأخلاقيًّا.

 

خشية من قوّة الفعل الثقافيّ

سرعان ما نشرت "وزارة الثقافة الفلسطينيّة" بيان استنكار كتبت فيه: "إنّ الاحتلال الإسرائيليّ يمارس كلّ أشكال القمع والتهويد، والتضييق على المؤسّسات الثقافيّة والعاملين فيها من كتّاب وأدباء وفنّانين، خاصّة في المدينة المقدّسة؛ وهو ما يدلّل على مساعي الاحتلال العنجهيّة، وانتهاكاته المتواصلة في حقّ هذه المؤسّسات".

واستنكرت الوزارة الاعتقال وملاحقة المثقّفين واقتحام المؤسّسات الثقافيّة في القدس، وتدمير محتوياتها والعبث في مقتنياتها، مؤكّدة أنّ الاعتداء على هذه المؤسّسات تعدٍّ على الثقافة الوطنيّة الفلسطينيّة والموروث الثقافيّ. وطالبت الوزارة في بيانها مؤسّسات المجتمع الدوليّ، بضرورة حماية المؤسّسات العاملة في الحقل الثقافيّ، خاصّةً المقدسيّة، وما تعانيه هذه المؤسّسات من تهويد وطمس واعتداءات إسرائيليّة متواصلة.

العدوان ... على المكوّنات الثقافيّة الفلسطينيّة، في مدينة القدس وغيرها، ما هو إلّا دليل دامغ على ... أهمّيّة الفعل الثقافيّ الفلسطينيّ، والدور الّذي راكمه على مدى العقود المنقضية في الإبقاء على جذوة الوعي الوطنيّ متّقدة...

وثمّة وثيقة مشتركة، وقّع عليها كلّ من "شبكة الفنون الأدائيّة"، و"مؤسّسة عبد المحسن القطّان"، و"سريّة رام الله الأولى"، و"فيلم لاب"، و"حوش الفنّ الفلسطينيّ"، و"مؤسّسة المعمل"، و"منتدى الفنون البصريّة"، جاء فيها:

"هذا العدوان السافر الّذي يشنّه الاحتلال الإسرائيليّ على المكوّنات الثقافيّة الفلسطينيّة، في مدينة القدس وغيرها، ما هو إلّا دليل دامغ على شعوره بأهمّيّة الفعل الثقافيّ الفلسطينيّ، والدور الّذي راكمه على مدى العقود المنقضية في الإبقاء على جذوة الوعي الوطنيّ متّقدة، وتعزيز التمسّك بالهويّة الوطنيّة والموروث الثقافيّ، وفي تعزيز قدرة الفلسطينيّ على تقديم روايته، ومخاطبة العالم بكلّ أشكال التعبير الإبداعيّة؛ وهو ما يعمل على توليد حالة عالية من التضامن مع الشعب الفلسطينيّ في نضاله لنيل حقوقه، ويزيد من العزلة الثقافيّة والأخلاقيّة الّتي يعاني منها الاحتلال".

 

16 مؤسّسة فاعلة في القدس... مغلقة

أمّا الحرب على فرض السيادة على القدس، فأدّت بإسرائيل إلى إغلاق 16 مؤسّسة فعّالة فيها؛ فقد سبق أن تعرّض "بيت الشرق"، الّذي أسّسه المرحوم فيصل الحسيني، إلى العديد من الملاحقات والتنكيل والإغلاق. قبل أكثر من عام داهمت الشرطة مكاتب "التلفزيون الفلسطينيّ" في القدس، وصادرت معدّاتها، وحقّقت مع العاملين في التلفزيون من مراسلين ومصوّرين وتقنيّين، وأغلقت المكاتب، ومنعت الصحافيّين من ممارسة عملهم في المدينة؛ بحجّة السيادة وأنّهم ينتهكون السيادة الإسرائيليّة. استُدعيت الصحافيّة كريستين ريناوي، مراسلة "التلفزيون الفلسطينيّ" في القدس، 4 مرّات خلال عام للتحقيق، وهُدِّدت بالاعتقال إذا استمرّت في تأدية عملها.

الحرب على فرض السيادة على القدس، فأدّت بإسرائيل إلى إغلاق 16 مؤسّسة فعّالة فيها... 

وفي السياق نفسه، محافظ القدس، عدنان غيث، اعْتُقِلَ وحُقّق معه 17 مرّة خلال عامين، أي منذ بدء عمله، وما زال قيد الاعتقال، وقد مدّدت "محكمة الصلح" اعتقاله أمس الجمعة، 24 أيّار (مايو)، حتّى الخميس القادم. وفي شهر نيسان (أبريل) المنصرم، داهمت الشرطة الإسرائيليّة عيادة طبّيّة أجرت فحوصات كورونا في راس العمود، واعتقلت 4 من العاملين فيها. وصرّحت وزارة الأمن العامّ في بيان، أنّ "كلّ نشاط للسلطة الفلسطينيّة في الأراضي الإسرائيليّة، غير منسّق وغير موافَق عليه من قِبَل السلطات، محظور بموجب القانون، وعلى الشرطة منعه".

 

 

سها عرّاف

 

 

كاتبة ومخرجة وصحافيّة فلسطينيّة. كتبت سيناريو وأخرجت عددًا من الأفلام، من ضمنها "نساء حماس" و"فيلا توما"، وقد حصلت على عدّة جوائز عربيّة وعالميّة، أبرزها جائزة أفضل مخرجة امرأة في "مهرجان المرأة الدوليّ للسينما والتلفزيون - لوس أنجلوس" لعام 2014.