ماذا سيشغل بال صالح أبو مخّ؟

الأسير السياسيّ السابق صالح (رشدي) أبو مخّ

 

عشيّة خروجه من السجن بعد اثني عشر يومًا، يضاف إليها ستّة وثلاثون عامًا، راودني خليط من تفكير ومشاعر مكثّفة، كاد لا يتركني، وهو: ماذا سيشغل بال صالح أبو مخّ؟ وكيف ستكون مشاعره؟ قلت لنفسي إنّه لا يعرف أحدًا من الناس باستثناء إخوته، وبالنسبة إليه فإنّ أكثر مَنْ يعرفهم هم الأسرى الّذين أنهوا محكوميّاتهم، الّذين يعتبرهم إخوته.

ذكرت الحكم بالأيّام أوّلًا؛ لأنّ تاريخ الفَرَج الأصليّ بعد تحديد الحكم من المؤبّد، كان الرابع والعشرين من آذار (مارس) 2021، لكن للقانون جلالة، والجلالة متوارثة ولا تكترث للسنين، وبما أنّ القانون «سيفه بإيديه» كما أكّد شاعر مصر والعرب أحمد فؤاد نجم، فإنّه حسب السيف لا تقادم هذه المرّة.

هل ما سيشعر به هو المكان؟ أهو الزمان أم الضياع؟ ليس ضياع الجغرافيا بل ضياع الملامح والزمان، وتغيّر الناس وهو يفتّش عن الطيبة الّتي نشأ فيها، وعن رائحة البيت والأرض والبلد...

لقد فات صالح بعد ستّة وثلاثين عامًا أنّه لم يسدّد مخالفة السير منذ عام 1985، غريب أمره كيف لم يتذكّر، وهكذا أصدرت بحقّه المحكمة المدنيّة، الّتي لا علاقة لها بالاحتلال، حكمًا بالسجن اثني عشر يومًا. ومن منطلق إنصاف القويّ العايب، فقد خيّرته بين أن يدفع الغرامة مع التقادم، أو يُمْضي هذه الأيّام في السجن، وبعد انتهاء محكوميّته، فابتسم القاضي ابتسامة المنتصر لأخلاقيّاته، واعتدّ القضاء بنزاهته، وتحمّل صالح المسؤوليّة، وتطوّع بشكل حرّ لتُضاف هذه الأيّام الطويلة إلى حكمه. أمّا السنوات الستّ والثلاثون فهي نتاج حكم المحكمة العسكريّة في اللدّ، الّتي انتهى وجودها قبل أن تنتهي مدّة الأحكام الّتي أصدرتها، فليس من الأهمّيّة بقاء المحكمة قائمة ما دام قضاؤها ساريًا. لقد أصدرت هذه المحكمة بحقّه حكمًا بالسجن المؤبّد مدى الحياة.

في عام 2013، حدّد رئيس الدولة شمعون بيرس، الّذي هو أيضًا لا علاقة له بالاحتلال، والمعروف برحمته، وأكبر تجلّياتها كان مجزرة قانا، حدّد الحكم، وذلك خلال المفاوضات مع منظّمة التحرير الفلسطينيّة، وتمهيدًا لإطلاق سراح صالح وزملائه، من أسرى ما قبل أوسلو - فالمراحل عندنا تُقاس بالنوائب: النكبة والنكسة وأوسلو - ضمن أربع دفعات اتّفق عليها مع الإدارة الأميركيّة ومنظّمة التحرير. نكثت إسرائيل لاحقًا بتعهّدها بعد أن اكتشفت بالصدفة المفرطة ببراءتها، حقيقةَ أنّ صالحًا ومجموعة من رفاقه هم من فلسطينيّي أراضي 48، أو حسب معاجم السطوة «عرب إسرائيل»، وأنّهم مواطنون وينبغي حماية مواطنتهم الإسرائيليّة واحترامها والذود عنها؛ وعليه لا يحقّ لمنظّمة التحرير أو السلطة الفلسطينيّة التدخّل بشؤونهم بناء على «اتّفاقيّة أوسلو» الثانية، عام 1994، بعد أن حلق حلّاق القسم 4 في سجن الجلبوّع، وهو أسير متطوّع لهذه المهمّة، شعر صالح، وتجمهر الشباب حولهما في غرفة الحلاقة، وهي غرفة المغسلة والنشّافة والمكواة لكيّ الملابس يوم الزيارة، والثلّاجات لتخزين الموادّ الغذائيّة، وتحوّلت الحلاقة تلقائيًّا إلى زيانة عريس؛ فكان العريس ولم يكن العرس في اليوم التالي، ولم تدم الفرحة بعد أن طالت المماطلة الساديّة أكثر من المعقول.

تدافعت في ذهني الأفكار المتداخلة بالمشاعر، أسيخرج صالح سعيدًا أم مع غصّة الحزن المثقِلة للفرح، وهي حزن على مَنْ ترك في السجون، وعلى مَنْ افتقدهم من الأحبّة خلال العمر الاعتقاليّ، تحديدًا على أمّه الّتي انتظرته ما استطاعت، إلى أن أسلمت الروح ممّا بها وهي تحنّ لصالحها؟ أم سيخرج غاضبًا؟ وهل ينفع الغضب؟ هل ما سيشعر به هو المكان؟ أهو الزمان أم الضياع؟ ليس ضياع الجغرافيا بل ضياع الملامح والزمان، وتغيّر الناس وهو يفتّش عن الطيبة الّتي نشأ فيها، وعن رائحة البيت والأرض والبلد؛ فللمكان رائحة كما البحر تبشّر به القادم من بعيدِ الزمان كما من بعيدِ المسافات.

الغضب على ظلم ذوي القربى قاهر أكثر ومؤلم أكثر، وفي المقابل يحمل في طيّاته استعداده للتسامح، ليتحوّل إلى لوم على بؤس الحال؛ فكيف مرّت كلّ صفقات التبادل من أمامه...

كعادته في الصدق، أتاح لغضبه بأن يخرج، إنّه غضبه وغضب غيره من الضحايا، لم يكن الغضب على الاحتلال ودولته؛ فدورهم هو القهر ولا شيء يُتَوَقَّع غير العداء الشرس والتلذّذ في الإجهاز على طعم الحياة، ترافقه ابتسامة القاضي المنتصر، لكنّ الغضب على ظلم ذوي القربى قاهر أكثر ومؤلم أكثر، وفي المقابل يحمل في طيّاته استعداده للتسامح، ليتحوّل إلى لوم على بؤس الحال؛ فكيف مرّت كلّ صفقات التبادل من أمامه، وقبله بسنوات من أمام كريم وماهر يونس ولم تضمّهم إلى ركبها؟ فالهويّة الإسرائيليّة مكلفة حين يحكم القضاء الإسرائيليّ، ومكلفة حين يُجْري ترتيب لوائح بأسماء المعنيّين بالإفراج عنهم في الصفقات، أو حين يحكم ميزان القوّة نظام هذه اللوائح! صرّح صالح بشكل جليّ يحمل رسالة عتاب، لم يعد لها عنوان يتسلّمها، بأنّه أنهى حكمه بالكامل، وبإضافة تبعات مخالفة السير الّتي بإمكانه أن يوثّقها في «كتاب جينيس» تحت باب مخالفات السير وتسديد الغرامات. وأكّد صالح أنّه لم يُحَرَّر، بل أنهى حكمه بالكامل، «من البتّة للبتّة»، كما يقال في لغة السجون.

في السادس من نيسان (أبريل) 2021، ولم يمضِ سوى يوم على الفَرَج، كان ذلك كافيًا كي يحدّثني صالح عن تغيّر أنماط الناس السلوكيّة، فقال: "الناس تغيّرت... يعني إذا بِحْتِرِق بيت الجيران فلن يكترث أحد ولن يهبّ أحد لنجدته... مثل حال الأسرى"، وثمّة سؤال لم يستوعب المحفّز لتوجيهه إليه، وقد تكرّر من الكثيرين بمَنْ فيهم الشباب، "عارفني؟". كيف سيعرفهم؟ وماذا يتوقّعون منه؟ ولماذا؟ ربّما في ذلك تعبير عن حيرة المقدّمات بعد هذا الدهر، وربّما في ذلك مسعًى للتخفيف من وطأة السنين، وبأنّه من المفترض أن يعرف الناس، وربّما خجلًا، بالنيابة عن غيرهم ممّن انتظروا الفَرَج دون أن يسعوا إليه. وقد يكون هذا السؤال العفويّ المستفزّ، هو نتاج عالم التواصل الاجتماعيّ الافتراضيّ، وتسطيح العالم، كما عنوان كتاب توماس فريدمان، فمن المفترض أن يعرف كلّ إنسان جميع الناس دون أن يعرفهم.

صحيح أنّ مجتمعنا يسعى إلى أن يكون حاضنًا للأسير الّذي أنهى حكمه للتوّ، لكنّه ليس معتادًا على مَنْ جرى تغييبهم طوال هذا الدهر. قد تكون الذاكرة والوفاء للقصّة هما حمّالتا الحضور الدائم، لكنّ الذاكرة غالبًا ما تحمل نقطة البداية ونقطة النهاية، وليس ما بينهما، وهنا تختبئ الصدمات.

 مجتمعنا (...)  ليس معتادًا على مَنْ جرى تغييبهم طوال هذا الدهر. قد تكون الذاكرة والوفاء للقصّة هما حمّالتا الحضور الدائم، لكنّ الذاكرة غالبًا ما تحمل نقطة البداية ونقطة النهاية...

حين يودّع الأسير زملاءه في ساحة السجن، الباقين هناك، خاصّة أولئك المحكومين بالمؤبّدات المتكرّرة، الّذين يتمسّكون بكلّ قطعة أمل، مهما كانت صغيرة، وأحيانًا يستعيضون عن الأمل بالوهم؛ علّه يشحن طاقات الصبر، فإنّه يشعر بأنّ جزءًا من روحه ينكسر هناك، وبأنّ الحزن تجاه مَنْ يغادرهم، والفرح تجاه مَنْ سيلتقيهم، يُثْقِلانَ عليه. يشعر مودّعوه بالفرح المشوب بمسحة حزن أيضًا، فرح حقيقيّ بأنّ زميلهم قد تحرّر من القيد، وفي تحرّره فُسْحَةُ أمل، وتأكيد أنّ للسجن بوّابة أيضًا للخروج منه ذات يوم، أمّا مسحة الحزن فهي حين ينظر كلٌّ منهم إلى حاله وينتظر اللحظة، واللحظة لا تنبئ بقدومها غداة اليوم، بينما يبقى الأمل يراوغ بؤس الحال، بانتظار أن يصبح حقيقة.

 

 

أمير مخّول

 

 

أسير سياسيّ فلسطينيّ محرّر. عمل قبل اعتقاله مديرًا لـ "اتّجاه - اتّحاد الجمعيّات الأهليّة"، كما شغل منصب رئيس لجنة الحرّيّات المنبثقة عن لجنة المتابعة في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة عام 1948. يكتب المقالة السياسيّة والثقافيّة في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة.