حظّي من العُزْلَة

لوحة «انتصار الموت» | بيتر بروغل

 

الكلمة الافتاحيّة لمؤتمر «مدى الكرمل»، المنعقد يوم 29 أيّار (مايو) 2021 في أمّ الفحم، تحت عنوان «الفلسطينيّون في الداخل الفلسطينيّ: مقاربات سياسيّة واجتماعيّة بين جائحة كورونا والانتفاضة الراهنة».

ننشر الكلمة بإذن من صاحبها، د. أيمن إغباريّة، عضو اللجنة الأكاديميّة المنظّمة للمؤتمر.

***

 

السلام عليكم،

اسمحوا لي أن أفتتح المؤتمر بما يشي عنوانه من التماس التأمّل وطلب المقاربة، اسمحوا لي أن أشارككم في شيء من حظّي بالعزلة؛ عملًا بقول ابن أبي الدنيا "خذوا بحظّكم من العزلة"، في كتاب «العزلة والانفراد»، وهو مصنّف كنت أعود إليه في فترة الكورونا، من أجل فَهْم طبيعة العزلة وأهدافها ونتائجها على النفس البشريّة.

في أيّام الحَجْر والتباعد، كان حظّي من العزلة مجموعة من الأعمال الثقافيّة والفنّيّة، كنت ألجأ إليها طمعًا في فائدةٍ أشار إليها الغزاليّ في كتاب «آداب العزلة» ضمن مؤلّفه «إحياء علوم الدين»، وهي "الخلاص من مشاهد الثقلاء والحمقى، ومقاساة حمقهم وأخلاقهم" عبر التلفزيون ومنصّات التواصل الإلكترونيّ، وهي فائدة لَعَمْري عظيمة، في أيّامٍ أصبح فيها المصابون بفيروس «شوفونا» أكثر عددًا من مصابي «كورونا».

من حظّي بالعزلة أنّني ألتفت من جديد إلى لوحة «انتصار الموت»، الموجودة حاليًّا في «متحف ديل برادو» في مدريد، الّتي رسمها الفنّان الهولنديّ بيتر بروغل (الأكبر) في منتصف القرن السادس عشر.

من حظّي بالعزلة أنّني ألتفت من جديد إلى لوحة «انتصار الموت»، الموجودة حاليًّا في «متحف ديل برادو» في مدريد، الّتي رسمها الفنّان الهولنديّ بيتر بروغل (الأكبر) في منتصف القرن السادس عشر. عُدْتُ إلى هذه اللوحة متأمّلًا مرّتين: في زمن الكورونا، وفي أثناء الحرب على غزّة.

استدعاء هذه اللوحة كان تحديدًا من منحيين: السياق والمضمون.

من ناحية السياق، ثمّة مَنْ يربط رسمَ اللوحة بحادثة احتلال جيوش إسبانيا للأراضي الهولنديّة، وثمّة مَنْ يربطه بمرض الطاعون الّذي انتشر في أوروبّا في أثناء القرون الوسطى. الوباء والحرب يتقاطعان في اللوحة، كما في الواقع، في تقديمهما مشهدًا كارثيًّا من العنف الصادم والموت السافر، يضعان الإنسان في مواجهة مع نفسه ومع غيره، في ما هو على شفير الموت، أو في أثناء حدوثه، أو بعده بصفته ميّتًا حيًّا. فمَنْ منّا الحيّ؟ مَنِ الميّت؟ ومَنِ الميّت الحيّ؟

من ناحية مضمون اللوحة، يقدّم بيتر بروغل بانوراما تعجّ بتفاصيل مشهد، يباغت فيه جيشٌ مسلّح من الهياكل العظميّة مدينةً ساحليّة يسكنها البشر. الهياكل العظميّة تظهر في كلّ مكان، وهي تتفنّن في قتلِ البشر: تقطع الأعناق، وتشنق، وتغرق، وتصلب، وتخوزق، وتُلْقي الناس من الأعالي. تَظْهَرُ الصلبان في غير مكانٍ واحد، لكنّ وجودها عاجز عن تقديم الخلاص في هذه الحرب غير المتكافئة. الصلبان مثلها مثل السفن المشتعلة في خلفيّة المشهد، لا تقدّم طوقَ نجاةٍ لأحد. البشر في اللوحة فرادى غير منظّمين ومُوَحَّدين. في المقابل، تبدو هياكل الموتى مرتّبة الصفوف، وفي توزيع واضح للأدوار بينها. هل هذا سبب هزيمتهم في اللوحة؟ هل هذا سبب ضعفنا في الواقع؟

شاهد في اللوحة فجاعة المنظر، الّذي تدفع فيه الهياكل العظميّة البشر نحو مصيدة هي صندوق كبير يُحْشَرُ فيه الناس، بلا تمييز بينهم، رجالًا ونساء، نبلاء وفلّاحين، وكهنة وفرسانًا. شاهدْ وتفكّرْ في قدرة الوباء والحرب على فرض التشابه بين الناس، والتماثل في مشاعرهم، وبحثهم عن الطمأنينة والنجاة، والتشبّث بهويّتهم الإنسانيّة. عندما يصبح الخطر حاضرًا وواضحًا، يتساوى الناس في امتثالهم، ويتشاركون ضَحَوِيَّتَهم، كما قد يتشاركون تمرّدهم طلبًا للحياة والكرامة.

في اللوحة، كما في الواقع، كلّما زاد الخطر بحث كلّ إنسان عن خلاصه الشخصيّ. هناك من البشر مَنْ سيهرب، كما المهرّج الّذي يحاول أن يندسّ مذعورًا تحت الطاولة، وهناك مَنْ سيتجمّد لديه الوقت وينكر الواقع، كما هما العاشقان في الزاوية السفلى من يمين اللوحة، اللذان يكملان الغناء غير آبهين لما حولهما. لكن هناك أيضًا مَنْ سيواجه فيجرّد سيفه أو يرفع رمحه. {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} (الأحزاب: 23).

تفشل مخطّطات السلطة؛ لأنّ القيادات الفلسطينيّة الشبابيّة وحراكاتها تقدّم أنماطًا جديدة من الاحتجاج والمقاومة. تفشل لأنّ الواحد الّذي تعدّد بفعل النكبة، عاد من تعدّده واحدًا.

 

في اللوحة، كما في الواقع، اعتداءات متّصلة ومترابطة، تتسيّد المشهد لتذكّرنا أنّه في مجتمع طبيعيّ، فإنّ الطمأنينة والأمن هما القاعدة، والعنف هو الاستثناء. عنف شامل يذكّرنا أنّ إسرائيل دولة ليست طبيعيّة في عدوانيّتها، وتكريسها حالةً دائمة من الاستثناء والطوارئ وإثارة النعرات واختلاق العداوات؛ حالة تتقلّص فيها مساحات الحرّيّة ومشروعيّة النقد، وتُضْرَب حقوق الإنسان، وتُقام أسوار عالية ما بين هم «نحن» و«هم» نحن، وتزدهر الشعبويّة. اعتداءات متّصلة ومترابطة؛ من توفير بيئة داعمة للجريمة المنظّمة، مرورًا برعاية مليشيات المستوطنين ونَوَياتهم التوراتيّة وبؤرهم الاستيطانيّة، حتّى محاولات تهويد الأقصى والقدس والمدن المختلطة؛ بالتهجير والتقسيم وقمع الاحتجاجات بوحشيّة. عنف لا خطّ أحمرَ له ولا خطّ أخضر. عنف لا تكتفي إسرائيل به باحتلال الأرض، بل تسعى به إلى إخضاع الفلسطينيّ في بيته وعائلته وعمله وحقله، تسعى إلى أن تهزمه في جوّانيّته ووعيه. لا يهمّ مَنْ أنت، وأين تسكن، وبماذا تؤمن سياسيًّا أو دينيًّا: أنت فلسطينيّ، وأنت في دائرة العنف دائمًا. حيّز من العنف تتحكّم فيه إسرائيل بسياسات منح الموت ومنعه، لا الحياة.

لكن في النهاية، في اللوحة كما في الواقع، ما يبدو غلبة للمستبدّ والمضطهد هو انتصار لهياكل عظميّة، لا أكثر. آلة الدمار في اللوحة، كما في الواقع، هي مجرّد هياكل عظميّة. الظلم والعدوان والإنكار والمحو لا تنتج أكثر من هياكل عظميّة، بلا أخلاق ولا أفق إنسانيّ لها. في اللوحة، كما في الواقع، تذكّروا، نحن لا نرى نهاية المعركة بين الأحياء والهياكل العظميّة؛ فمَنْ سينتصر؟ الأحياء أم الأموات؟

إسرائيل تفرض علينا هويّة العربيّ الإسرائيليّ المشوّهة، وتفشل، تدفعنا إلى التنافس على فتاتها، وتفشل، تشجّعنا على الاندماج أفرادًا يتسلّلون إلى هوامشها، وتفشل، تصرّ على أن يتقبّل الناس العيش في ظلّ العنف والجريمة، وتفشل، تراهن على أن يتقاعس الناس عن نُصْرَة أنفسهم في القدس والأقصى، وتفشل، تكرّس التقسيم والتجزئة والطائفيّة والجهويّة، وتفشل. تفشل بفضل السياسة قليلًا، وبفضل الثقافة أكثر. وأعني بالثقافة صناعة الهويّة، في الفنّ والأدب والرياضة والتربية والبحث الأكاديميّ وغير ذلك. في هذا، نوادي الدرّاجات والتجوال الّتي يستكشف المشاركون من خلالها مسارات بلادنا، المواقع والصفحات الّتي تقدّم وثائق وأحداثًا من تاريخ بلادنا، البرامج الّتي تقدّم مطبخنا الفلسطينيّ، أغاني الدحيات والراب والأفلام والأعمال الأدبيّة وغير ذلك، هي أعمال ثقافيّة بامتياز.

تفشل مخطّطات السلطة؛ لأنّ القيادات الفلسطينيّة الشبابيّة وحراكاتها تقدّم أنماطًا جديدة من الاحتجاج والمقاومة. تفشل لأنّ الواحد الّذي تعدّد بفعل النكبة، عاد من تعدّده واحدًا. "ما أكبر الفكرة! وما أصغر الدولة!"، أيّ دولة. هويّتنا أوسع من حدود السياسة.

تفشل لأنّ مشروع الاندماج والتأثير الأهمّ هو ضمن المشروع الوطنيّ الفلسطينيّ، وليس فقط في الكنيست.

تفشل لأنّنا لا نستطيع أن نصالح على كرامتنا ومقدّساتنا وثوابتنا، ولا نستطيع أن نقايض ونساوم على حقوقنا الطبيعيّة.

من الصعب أن تكون متفائلًا، على الأقلّ ليس كلّ الوقت، وليس مع كلّ الناس. الخوف من المستقبل، كما الألم، هو شيء طبيعيّ في الحياة، ومن الأفضل أن نستعدّ لهما دون أن نبالغ لا في الأمل ولا في المخاوف

من هنا جاءت الأحداث الأخيرة لتذكّرنا أنّ الكرامة والحقوق والأمن والانتماء هي أشياء لا تُشترى... "أترى حين أفقأ عينيك/ ثمّ أُثْبِتُ جوهرتين مكانهما/ هل ترى...؟/ هي أشياء لا تُشترى... أقَلب الغريب كقلب أخيك؟/ أعيناه عينا أخيك؟/ وهل تتساوى يدٌ... سيفها كان لك/ بيدٍ سيفها أثْكَلك؟" رحم الله أمل دنقل، ما زال شعره لا يُشترى.

المشاقّ والتحدّيات هنا لتبقى، وعلينا أن نتعوّد على ذلك؛ لذلك من الصعب أن تكون متفائلًا، على الأقلّ ليس كلّ الوقت، وليس مع كلّ الناس. الخوف من المستقبل، كما الألم، هو شيء طبيعيّ في الحياة، ومن الأفضل أن نستعدّ لهما دون أن نبالغ لا في الأمل ولا في المخاوف؛ لأنّهما يتغذّيان من بعضهما بعضًا. كلّما زادت الآمال زادت المخاوف. تزداد الأمور تعقيدًا عند الحديث عن المخاوف الّتي لا أساس لها، والّتي قد تُنْتِج آمالًا لا أفق لها. لذلك؛ يجب أن نربّي أولادنا على أنّنا نرفض أن تكون النكبة احتمالًا، ونرفض أن تكون التبعيّة والدونيّة قَدَرًا. كما يجب أن نربّيهم على ألّا يعقدوا آمالًا كبيرة على الوحدة التامّة والتضامن الكامل والتغيير السريع. القادم أفضل لا محالة، لكنّه قادم على مهله.

في «رسائل من المنفى»، يذكّرنا الفيلسوف الرومانيّ سينيكا في رسائله إلى صديقه لوكليوس: "إنّ بعض الأشياء يعذّبنا أكثر ممّا ينبغي له أن يعذّبنا، وبعضها يعذّبنا قبل أن يجب، وبعضها يعذّبنا في حين يجب ألّا يعذّبنا على الإطلاق". حسب سينيكا، نحن واقعون تحت وطأة عادة المبالغة في الأسى أو تخيّله وتوقّعه. لذلك؛ علينا ألّا نخطّط حياتنا على تجاهل الألم والأسى والعنصريّة والاحتلال والفصل العنصريّ، أو التخلّص من كلّ ذلك مرّة واحدة، دفعة واحدة. ما نستطيع أن نفعله هو أن نتعقّل واقعنا بتشاؤم التفكير وتفاؤل الإرادة، كما يقترح أنطونيو غرامشي علينا في «دفاتر السجن». ما نستطيع أن نفعله هو أن نربّي للأمل وسبر المخاوف من الآخر، كما من أنفسنا: هم ليسوا شياطين، ونحن لسنا ملائكة.

 

 كلمة أخيرة لغزّة،

"ليست غزّة أجمل المدن، ولا أغناها، ولا أرقاها... لكنّها أكثرها جدارة بالحبّ.

ونظلم غزّة لو مدحناها؛ لأنّ الافتتان بها سيأخذنا إلى حدّ انتظارها. وغزّة لا تجيء إلينا. غزّة لا تحرّرنا. ليس لغزّة خيول، ولا طائرات، ولا عصيّ سحريّة، ولا مكاتب في العواصم. إنّ غزّة تحرّر نفسها من صفاتنا ولغتنا ومن غزاتها في وقت واحد. وقد نلتقي بها، ذات حلم، فلا تعرفنا؛ لأنّ غزّة من مواليد النار، ونحن من مواليد الانتظار"... لتكن النهاية هنا، حتّى لا نكون من بين البكّائين على الديار، حتّى لا تَصْدُق نبوءة محمود درويش، الّذي كتب هذا الصمت لغزّة في «يوميّات الحزن العاديّ» الصادر عام 1973، كتاب كان ضمن حظّي من العزلة.

شكرًا على استماعكم، شكرًا على مشاركتي حظّي من العزلة في أيّام الكورونا والحرب.

 

 

أيمن إغباريّة

 

 

 

شاعر وأكاديميّ من فلسطين، محاضر في كلّيّة التربية - جامعة حيفا.