النكبة: طفولة مبتورة، سكوت قهريّ، إفصاح مستمرّ (2/5)

لاجئون فلسطينيّون خلال النكبة عام 1948 | تلوين الصورة: بلال خالد

 

إفصاح مستمرّ

سقط حاجز السكوت القهريّ حول النكبة، ما سبقها وما تخلّلها وما تبعها، لدى الفلسطينيّين الباقين في الجزء المحتلّ من فلسطين عام 1948، بعد عقود طويلة عمومًا. مع ذلك، جدير بالذكر أنّ ثمّة تفاوتًا بين حالات مختلفة، سبقت فيها فئات وأفراد فئاتٍ وأفرادًا آخرين، في كسر حاجز السكوت القهريّ هذا، وبفارق سنوات طوال، بل عقود.

فضلًا على التمايز الأوضح في هذا الصدد بين النخب الثقافيّة والسياسيّة وعموم الجماهير، مردّ التفاوت في رأينا إلى عوامل بنيويّة وفرديّة؛ تتّصل الأولى بالموقع الجغرافيّ والتجربة التاريخيّة العينيّة للبلد أو للبلد المجاور، إبّان النكبة، وبالحكم العسكريّ الّذي تلاها واستمرّ قرابة العقدين (1948 - 1966)؛ وتتّصل الثانية بميّزات ديمغرافيّة للفرد نفسه كالسنّ والثقافة والمهنة والجندر، وإلى فعاليّات جماهيريّة كالانخراط ودرجته أو عدمه في أطر وطنيّة، والمشاركة ودرجتها أو عدمها في أطر سياسيّة، المرهونين أصلًا بظروف تَوَفُّر أو عدم تَوَفُّر هذه الأطر كمعطيات بنيويّة هي الأخرى، أو المبادرة إلى تأسيسها («حركة الأرض» نموذجًا)، تسبق ذلك التنشئة الاجتماعيّة عامّة والسياسيّة خاصّة الّتي ينكشف لها الفرد في العائلة، الوكيل الأوّل للتنشئة السياسيّة عادة، وفي المحيط المدرسيّ والدوائر الاجتماعيّة والوسائط الأخرى، كالإعلام مثلًا.

إنّ كسرًا لحاجز السكوت القهريّ بات أكثر انسحابًا على هذا الجزء من الفلسطينيّين في العقدين الأخيرين ونيّف. ضمن ذلك جرى - وما زال يجري - استدعاء تجارب النكبة بأثر رجعيّ والإدلاء بشهادات عليها، والمشاركة فيها بطرق وفي أطر مختلفة.

كذلك للمزايا الشخصيّة دورها في تفسير جزء من التفاوت المذكور؛ الدافعيّة والرغبة والاستعداد للخوض في النشاطات المذكورة، وصفات شخصيّة ونفسيّة تحدّد مدى الاستعداد والرغبة في الحديث أساسًا، وكلّها تشكّل الاختلافات بين الأفراد، بما هم ذوات (Subjects) ذات كيانات مختلفة. وفي النهاية، فإنّه رغم هذه التفاوتات الفئويّة والفرديّة وعواملها البنيويّة والثقافيّة والشخصيّة المختلفة، فإنّ كسرًا لحاجز السكوت القهريّ بات أكثر انسحابًا على هذا الجزء من الفلسطينيّين في العقدين الأخيرين ونيّف. ضمن ذلك جرى - وما زال يجري - استدعاء تجارب النكبة بأثر رجعيّ والإدلاء بشهادات عليها، والمشاركة فيها بطرق وفي أطر مختلفة. كلّ استدعاء للتجربة ومشاركة فيها وشهادة تُدْلى هو حالة منفردة تُفْصِح عن زوايا حيّة للحدث الفارق من منظور المشارك/ة، والجماعة المعنيّة والشعب بما هو جَمْع، وبالتالي فهي تُفْصِح عن التاريخ بما هو تاريخ. إنّه إفصاح شهدنا ونشهد استمراريّته واتّساعه على هيئة استدعاء متواصل لبيانات أغنى من الذاكرة الفرديّة والجماعيّة، والّتي تشكّل مجتمعة الذاكرة الجماعيّة للنكبة.

يحدث هذا خلال مقابلة رسميّة ضمن مشروع توثيق أو بحث معتمد، أو في أجواء عائليّة، أو بمبادرة الشخص صاحب التجربة في محور الاهتمام، أو في غير واحدة من هذه. ويستمرّ الإفصاح على مستوى الفرد والجمع طالما الفئة المحدّدة ممّن عاصرن وعاصروا النكبة على قيد الحياة، وما دمنا نستحثّهم لنجمع منهم ليس فقط البيانات الرسميّة الجامدة، بل الجوانب الحيّة النابضة كما خبرها الناس. بيد أنّ الوقت المتبقّي من أعمارهم يتسرّب، ورحيلهم، بعد عمر طويل، هو حقيقة لا بدّ واقعة. بعد رحيلهم/ مضيّهم، سيستمرّ جيل الأبناء والبنات والأجيال القادمة بتناقل تجارب وأحداث وقصص النكبة الفرديّة والجماعيّة، في ما يحفظ الذاكرة الجماعيّة بشتّى الطرق المكتوبة ورقيًّا وإلكترونيًّا، والمسموعة، والمرئيّة، والموثّقة رقميًّا وتقليديًّا، مع تغيّر وجوديّ واحد: هنّ وهم لن يكونوا بيننا.

ضمن هذا السياق، أُوْرِد شهادة عيان على النكبة لوالدي، وقد استحثثته في مناسبات عديدة من أجل ذلك كما أسلفت في القسم الأوّل من سلسلة المقالات (3/1). واللافت أنّه، أخيرًا وبعد محاولات استحثاثه من قبل، بدأ يُطْلِعُني وبمبادرته هو على مكنونات تجربته في مواقف مختلفة في العقد الأخير، وهذا واحد من أشكال الإفصاح المستمرّ.

وإذ أضع تجربته بين أيديكم هنا، فإنّني لا أخطّ نسخة «علميّة» صرفة؛ إذ لم أُعْنَ بذلك منذ البداية، بل عُنيتُ بإتاحتها لأوساط أكبر عبر فُسْحَة ثقافيّة – فلسطينيّة، وقد أكون انزحت إلى أسلوب أدبيّ في بعض المواضع، أو سرّبت تعبيرًا أدبيًّا هنا أو هناك، ولا بأس.

 

التهجير

يدرك الصبيّ التهجير الّذي عاشه هو وأسرته وبلدته، ليس بمعزل عن النكبة مأساةً حلّت بفلسطين عام 1948، فحرفت التاريخ عن مساره. مهمّ له هذا الربط، وبه يفتتح الحديث:

"سنة 47 صدر قرار التقسيم في ‘هيئة الأمم‘. العرب رفضوا أن يقسموا بلادهم، وعملوا مظاهرات واحتجاجات... اليهود هاجموا العرب. ووصلت الأخبار عن قرى هجموا عليها اليهود وذبحوا أبناءها، وانتشر الخبر في جميع فلسطين".

يضحك هنا ضحكة خفيفة جدًّا، خِلْتُه يحاول أن يخفي بها الرعب الّذي أصاب الصبيّ حين صحا من عميق نومه صباحًا على ناقوس حرب، والارتباك الّذي عاود الرجل الثمانينيّ من مجرّد الاستذكار...

"بَكَتْ [كانت] عيلة أمين، أبو يوسف، مْكوّنة من خمس وْلاد ذكور. بَكَتْ دارنا في طرف البلد من الناحة الغربيّة، بْجَنْبْ كرم زتون. فأجوا القرايب بدافع محبّتهم إلنا وخوفهم علينا؛ قالوا لأبوي وإمّي ‘كيف تخلّوا الِاولاد في منطقه ما بسمعكم فيها حدا. وَدّوهم للبلد‘. كانت إلي عمّة اسمها سعاد العيسى، أخت أبوي، فقرّر أبوي وإمّي إنّه يودّونا لدار عمتي سعاد عشان نْبَات [ننام] هناك. صرت كلّ يوم بساعات لِغْروب أروح أنا وأخوتي الثلاثة، سليم وعيسى وموسى، نْبَاتْ هناك، ونرجع الصبح لدارنا. صرنا نروح إنّام هناك مع وْلادهم. وصارت الحرب وِاحنا نايمين". يضحك هنا ضحكة خفيفة جدًّا، خِلْتُه يحاول أن يخفي بها الرعب الّذي أصاب الصبيّ حين صحا من عميق نومه صباحًا على ناقوس حرب، والارتباك الّذي عاود الرجل الثمانينيّ من مجرّد الاستذكار. ويكمل مباشرة: "في صباح يوم[1] في شهر أيّار، ما نسمع إلّا: ‘يهود يهود يهود!‘، أجو من الناحَة الجنوبيّة هجوم على كفر قرع.  فما كان من الناس إلّا إِنُّه يْفِرّوا خارج البلد من الجهة الشرقيّة، وما كان إلنا أنا وَخِوْتي الثلاثة إلّا إنّه نْفِرّ مع هالناس، بدون علم لَوين اِحْنَا رايحين. [...] مَسَكْنا بِدين بَعَظْنا [بعضنا]، طوّالي مَسَكْنا بِدينْ بَعَظْنا وظَلّينا ماشيين. إِحْنا غراظنا مش معنا. لا بِدْنا نْقيم ولا نْشيل. هيك مشينا. [...] وإمّي وأبوي طلعوا معهمّش إشي".

وأنهى هذا الجزء من حديثه بإعلان عن نوايا وخطّة الاستعمار الصهيونيّ كما كشفهما التاريخ: "همّي شاطرين! خلّوا الجهة الشرقيّة مفتوحة".

يربط الصبيّ الّذي سيكون أبي بعد سنوات تفوق عدد سنوات سنّه في العام المفصليّ، بين قرار التقسيم الّذي اتّخذته «هيئة الأمم المتّحدة»، القاضي بتقسيم فلسطين بين أهل البلاد واليهود، وبين المناوشات ثمّ أحداث الحرب الّتي عمّت فلسطين وداهمت قريته. وبحسب أجزاء أخرى من المقابلة، كان ثمّة مصدران للأخبار: الأوّل الناس في تنقّلهم بين أجزاء فلسطين من أجل شؤون حياتهم، ومعهم تناقل أخبار مدنها وقراها إلى مدنها وقراها الأخرى. المصدر الثاني كان الراديو، حيث توفّر عند عدد نادر من الناس، ممّن كان لهم مكانة معيّنة وأبدوا اهتمامًا أكبر بما يدور، فتحلّق الناس عندهم حول الراديو باهتمام، وانضمّ إليهم أحيانًا بعض مَنْ مرّوا بالصدفة أو هدّؤوا خطاهم ليحظوا بسماع بعض من الأخبار، من غير أن ينضمّوا للجمع المتحلّق، ومنهم الصبيّ نفسه كما سنرى لاحقًا في المقال.

هكذا تناهت الأخبار الصادمة والتفاصيل المهولة عن مذبحة دير ياسين إلى كفر قرع في نيسان من عام 1948، وعلم بها بعض الصبية من فئة الجيل المذكورة، كما روى لي مُحَدِّثي.

في الاقتباس الوارد أعلاه ثلاث نقاط أودّ التركيز عليها؛ ثلاثتها تتّصل بنقاشات حول ظروف لجوء أهالي كفر قرع، وبنقاشات أعمّ على مستوى النكبة. النقطة الأولى هي حقيقة وجود القوّات العسكريّة الصهيونيّة، على التلال المحيطة بالقرية من الجهتين الجنوبيّة والغربيّة، خلال فترة سبقت يوم اللجوء، دأبت خلالها على كسر روتين حياة السكّان بإطلاق الرصاص الحيّ باتّجاه قريتهم الوادعة، لتدبّ الخوف بين سكّانها، ما استدعى الحيطة والتحسّب، بحيث احتاجت أسرة والدي، وأسر أخرى، إلى إجراء ترتيبات تنقّل ومبيت في أماكن أكثر أمنًا بحكم موقعها في البلدة[2].

"بَكا [كان] طخّ كبير، آه طخّ كبير. لمّا بَكينا [كنّا] نمرق من عند السناسِلْ كْوامْ الفَكَك[3] [فَشَك] الفاظي بَكا... ورا السنْسِلِة بَكا كثير".

يلقى توقيت مهاجمة كفر قرع توكيدًا ممّن كان في الجهة الأخرى للميدان، بعد سنوات عدّة، عندما خرج الشابّ الفتيّ للبحث عن عمل في الخضيرة، المستوطنة اليهوديّة في المنطقة، وسرعان ما أصبح عاملًا مسؤولًا عن زراعة بيّارة هناك!

 

النقطة الثانية هي القلق والخوف الّذي نشهده على مَنْ هم في الأطراف الغربيّة والجنوبيّة للقرية، وهو قلق يتضاعف في حال كونهم صبية وأطفالًا، إذ يسكنون خاصرتها الرخوة، وإذ هم في الحزام الأماميّ لهجوم عسكريّ محتمل عليها. أصاب الخوف أُسَرًا في أطراف شمال شرق القرية أيضًا، رغم أنّها ليست في جهة تمركز القوّات، وبالذات على فتياتها[4]. من نافل القول إنّ التعاضد والتعاون بين الأهالي، الأقارب في هذه الحالة، يقويان في حالة الأزمات وفي الحرب منها بالذات، ليس فقط على مستوى العائلة الواحدة أو البلد الواحد، كما سنرى لاحقًا في الجزء الثالث للمقال. النقطة الثالثة بحسب البيانات، فإنّ الحيثيّة الخاصّة بهجوم قوّات عسكريّة صهيونيّة على القرية لا لبس فيها، وكذا الحيثيّات الخاصّة بجهتَي الهجوم: الجنوبيّة والغربيّة، وهو ما يتّفق مع الوثائق الرسميّة في أرشيفات الجيش الإسرائيليّ، والّتي اعتمدتها كتابات سابقة. وينطبق الأمر على حيثيّة ساعة التهجير؛ إذ هي ساعة صباح وبشهادة لا تحتمل اللبس، "وْصارَتِ الحرب وِاحْنا نايمين. [...] في صباح يوم في شهر أيّار".

يلقى توقيت مهاجمة كفر قرع توكيدًا ممّن كان في الجهة الأخرى للميدان، بعد سنوات عدّة، عندما خرج الشابّ الفتيّ للبحث عن عمل في الخضيرة، المستوطنة اليهوديّة في المنطقة، وسرعان ما أصبح عاملًا مسؤولًا عن زراعة بيّارة هناك!

"أَجا مرشد زراعة قلّنا في كفار سابا. رحنا هناك عَ كفار سابا نجيب الشتل اللّي عندهم إيّاه. بقى هناك واحد اِسمو إسحق. وِلّا شو هاذ اليهودي... يعني بَكا أتشبر شويّ منّي! سألني: ‘منين إنت؟‘ قلتله أنا من كفر قرع. قال اِحْنا اللّي هاجمنا كفر قرع! نمنا في الـ ‘بيت سيفر حكلاي‘[5]، ومن الصبح بَدْري جينا عَ كُفُرْ قَرِع".

عدا تأكيد توقيت مهاجمة وتهجير البلد، ترافق الأحداث الجسام أصحابها من جهتَي الحدث، ليس فقط حدثًا للتأريخ الشخصيّ والجماعيّ والجمعيّ، بل كعلامة تعريف في لقاءات الناس. ولا يخلو قول مثل هذا لجنديّ سابق في عسكر استعماريّ من نشوة القوّة والانتصار المرافقة لعناصره، حين ينتقلون إلى الحيّز المدنيّ ويلتقون بالمستعمَر.

هذا، والنقاش الأعمّ الكامن في الاقتباس يتّصل بالجدل الحاصل في الأدبيّات حول مغادرة الناس لقراهم ومدنهم بمحض إرادتهم، بحسب الرواية الصهيونيّة، في مقابل تهجير الكتائب الصهيونيّة المسلّحة لهم عنوة؛ جرّاء ما ارتكبته في حقّهم من مجازر وأعمال أخرى من فئة اقتلاع أهل البلاد.

 

تأمّل في السرد

إنّ صدقيّة السرد الّذي حصلنا عليه هنا لا تترك مجالًا للشكّ في أنّ أهل كفر قرع كانوا على مرمى سلاح هذه القوّات، وأنّ الخوف على حياتهم كان حقيقيًّا لا وهميًّا. خاصّة أنّ أنباء القرى الّتي سقطت، وبخاصّة ارتكاب مجزرة دير ياسين نحو شهر قبل ذلك، في نيسان (أبريل) 1948، وصلت إلى أهالي كفر قرع، وعرف بها حتّى الصبية منهم بإحدى الطريقتين المذكورتين أعلاه، وهما الناس والراديو. جدير بالذكر أنّني وبمحاولتي تقمّص دور الباحثة، لم أحاول خلال المقابلة ذكر نقطة الجدل هذه في الروايتين المتنافستين، الصهيونيّة والفلسطينيّة، كما كنت سأفعل في أحاديثنا وحواراتنا. مؤكّد أنّ والدي علم مسبقًا وبصيغة ما بجزئيّة النقاش هذه، لكن شهادته هنا لم تكن منغمسة بذلك، بل كانت من ذاكرة الصبيّ ابن الثانية عشرة ولصيقة بها؛ الأمر الّذي يضاعف موثوقيّتها.

حقيقة أنّ أحدًا من أهالي القرية لم يخطّط للخروج منها مسبقًا، كما لم يفكّروا في وجهة يخرجون إليها، "بِدونْ عِلِمْ لَوينْ إِحْنا رايْحين"، مثبتة في هذه الشهادة العفويّة والتفاصيل المكثّفة في السرد...

عنصر المباغتة في هجوم عسكريّ صباحيّ كما عبّر عنه بقوله "ما سمعنا إلّا يهود يهود يهود!"، بعتادٍ متطوّر جدًّا نسبيًّا، واستخدامه الجذر ف. ر. ر بصيغتين مختلفتين في نفس الجملة: "فما كان من الناس إلّا إنّه يْفِرُّوا خارج البلد [...] وما كان إلنا أنا وخِوْتي الثلاثة إلّا إنّه نْفِرّ مع هالناس"، وفي موضع آخر من المقابلة "شَرَدْنا"، "وِاحْنا شارْدين"، إنّما يشير إلى الخطر الحقيقيّ الداهم، والأمر المهول الوشيك الّذي يضطرّ فيه الناس إلى الفرار، إلى النفاذ بأرواحهم، وانسحاب الفرار على أهالي كفر قرع كافّة، واضطرار الصبية والأطفال ممّن لم يكونوا في ساعتها مع والديهم إلى الفرار أيضًا، ودونما علم الوالدين.

حقيقة أنّ أحدًا من أهالي القرية لم يخطّط للخروج منها مسبقًا، كما لم يفكّروا في وجهة يخرجون إليها، "بِدونْ عِلِمْ لَوينْ إِحْنا رايْحين"، مثبتة في هذه الشهادة العفويّة والتفاصيل المكثّفة في السرد، الّتي عادت بالذاكرة إلى تلك اللحظات التاريخيّة.

في المقابل، فإنّ حقيقة تخطيط القوّات الصهيونيّة لتهجير البلد، إن لم تكن معلنة فهي مضمرة في كلّ التعابير، والتخطيط لوجهة التهجير صريحة معلنة في "فَما كان مِنِ الناس إلّا إنّه يْفِرُّوا خارج البلد من الجهة الشرقيّة".

الجهة الشرقيّة تقع خارج الحدود الّتي طمح لها اليهود آنذاك لدولتهم، الّتي اجتهدوا لتأسيسها ومؤدّاها إلى الدول العربيّة المجاورة. ويفسّر موقع كفر قرع الجغرافيّ الإستراتيجيّ وضعها نصب عيون القوّات الصهيونيّة؛ فموقعها كما أسلفنا في المدخل الغربيّ لوادي عارة، وبهذا فهي تصل بين مركز البلاد والروحَة فشمالها الأبعد، وهي بمنزلة البوّابة الغربيّة على بقيّة قرى الروحة الاثنتين والثلاثين، وإخضاع القرية إنّما هو ضمان للعبور إلى أخواتها.  

في كلّ ما تقدّم تأكيد ذو اعتبار لدحض الزعم الإسرائيليّ بشأن مغادرة أهل البلاد لبلادهم بإرادتهم؛ ولأنّ الدول العربيّة وعدتهم بالعودة في غضون أسبوعين أو ثلاثة. حتّى التوصيف المخفّف المستعمل في أدبيّاتهم بواسطة الفعل "هَرَبوا"، لا يعفيهم من المسؤوليّة التاريخيّة لـ "هروب" الفلسطينيّين، ولا يتحمّل المسؤوليّة الفلسطينيّون أنفسهم، وإنّما هو يكشف فداحة الخطب، إذ يهرب الناس من الأخطار الداهمة.

على نحو نقيض، هذه التفاصيل المستقاة من سرديّة تتّسم بمصداقيّة مطلقة، نظرًا إلى الأسباب الآنفة الذكر، تعزّز الادّعاء الفلسطينيّ بشأن تهجيرهم من وطنهم، تهجيرًا مخطّطًا له وممنهجًا، رمى إلى تفريغ البلاد من أهلها العرب (الفلسطينيّين) في ما يسمّى في الأدبيّات بالتطهير العرقيّ، وهو وثيق الصلة بالمسألة الديمغرافيّة الّتي شغلت المشروع الصهيونيّ منذ بداياته، وبزعم مقولة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وبمحاولة تحقيق «أرض أكثر، ناس أقلّ»، مقولات وأسس بُنِيَت عليها الرواية الصهيونيّة، وهو وثيق الصلة براهنيّة الخطاب والسياسات والآليّات الاستعماريّة الاستيطانيّة في محاولات تهجير عائلات فلسطينيّة، في حيّ الشيخ جرّاح في القدس، وحوارٍ وبلدات أخرى منها، وأماكن على طول البلاد وعرضها، وتهويدها، والحرب الجارية على غزّة[6].

ومن المهمّ العودة للتركيز هنا على أنّ مفعول المجازر، في قرى بعينها، تعدّى مواقعها إلى غيره من القرى والمدن، وكان كفيلًا بدفع سكّانها إلى الفرار، وهي عمليّة تهجير بمحض التعريف...

 

في موضع آخر من حديثه، وبتعبير قد يُفْهَم لأوّل وهلة، وعلى نحو خاطئ، استدراكًا على ما سبق، أضاف محدّثي بأنّه في حالة كفر قرع، اليهود "ما أطلعوا الناس من بيوتهم!"، بمعنى أنّهم لم يَحمِلوهم جسديًّا ويُحَمِّلوهم فعليًّا على شاحنات كما في حالة طبريّا، أو على مراكب كما حصل في يافا وحيفا، أو يسوقوهم مشيًا كما في مجد الكروم وقرى أخرى في الجليل. ليس هذا استدراكًا على روايته أعلاه إطلاقًا، وإنّما هو تعبير عن عمق التهديد والفزع اللذين دبّا في أهل البلد، إلى درجة أنّ القوّات الصهيونيّة لم تحمل الناس وتُخْرِجهم من بيوتهم حرفيًّا. ويمكن استنباط الفكرة العامّة أكثر من هذا التعبير؛ فهو تجسيد لإستراتيجيّتهم في الحصول على أقصى الأهداف بأقلّ مجهود وثمن من جانبهم. وقد يحمل مثل هذا القول إدراكًا للهوّة السحيقة بين مصير قرية ارتكبت فيها القوّات الصهيونيّة مجزرة، دير ياسين والطنطورة نموذجًا، وأخرى أوقعت فيها عددًا قليلًا نسبيًّا من الضحايا، كما في حالة كفر قرع.

ومن المهمّ العودة للتركيز هنا على أنّ مفعول المجازر، في قرى بعينها، تعدّى مواقعها إلى غيره من القرى والمدن، وكان كفيلًا بدفع سكّانها إلى الفرار، وهي عمليّة تهجير بمحض التعريف، ونتيجة لعمليّات الجهة المعنيّة بفعل التهجير والفاعلة لتحقيقه.

يتبع...

.....

إحالات:

[1] تاريخ مهاجمة كفر قرع المدوّن في الوثائق الرسميّة هو الثامن من أيّار (مايو) 1948.

[2] أراجع هذه السطور بالتزامن مع منشور في فيسبوك نشره أب غزّيّ، تمّ تداوله بكثافة نسبيّة في وسائل التواصل الاجتماعيّ، مفاده أنّه وأخاه تبادلا جزءًا من أولادهما للمبيت في بيتَي بعضهما لكي لا يفقد أحدهما كلّ أولاده جرّاء قصف الصواريخ الليليّ في حرب إسرائيل على غزّة، مدّة أحد عشر يومًا في الشهر الجاري، أيّار (مايو) 2021. تختلف الآليّات الحربيّة وقوّة تدميرها وأمور أخرى بين نقطتي الزمن، ولكن ما أشبه اليوم بالأمس.

[3] بلفظ «تْشافْ» في كلا حرفَي الكاف المتتاليَين في الكلمة.

[4] في مقابلة أجراها الحراك الشبابيّ في كفر قرع مع الحاجّة نبيهة أبو فنّة، أمّ سامي (84 سنة)، وثّقها بفيديو ونشرها في صفحته في فيسبوك قبل نحو السنة (أيّار، 2020)، تذكر شاهدة العيان أنّه نُقلت ونُقل أخواتها إلى في وسط البلد، حيث أقرباؤها، خشية ممّا يمكن أن يُلحقه اليهود بالفتيات: "خَواتي، إِحْنا بنات العيلة، بَقوا يوخْذوا البنات ينيموهن في دار نصّ البلد، من خوف اليهود يستغلّوا البنات!"، علمًا أنّ حالات اغتصاب واعتداء آثم على الفتيات في أماكن أخرى من فلسطين إبّان النكبة موثّقة وموثوقة.

[5] بالعربيّة «المدرسة الزراعيّة»، وهي في مستوطنة مجاورة لكفر قرع.

[6] تزامنًا مع مراجعتي لهذا الجزء من المقال.

 

 

د. تغريد يحيى - يونس

 

 

أكاديميّة وأستاذة جامعيّة فلسطينيّة. حازت على الدكتوراه مع مرتبة الشرف من جامعة تل أبيب، واستكملت دراستها لما بعد الدكتوراه في جامعة SOAS - لندن. اهتماماتها الأكاديميّة الرئيسيّة علم اجتماع الغربة، والإثنيّة والعلاقات الإثنيّة، والنظريّات النسويّة، والسياسة والجندر، ومناهج البحث النوعيّ، واللغة والهويّة.